أعاد مؤسس فرقة الرقص المسرحي الحديث المصرية اللبناني وليد عوني تقديم أسطورة إيكاروس خلال الاحتفال بمرور ربع قرن على إنشاء الفرقة، علماً أنه أول العروض التي قدمتها وكان بمثابة إعلان ميلادها. أُسست فرقة الرقص المسرحي الحديث عام 1993 وتعد الأولى من نوعها في مصر والعالم العربي. وكلفت وزارة الثقافة المصرية وليد عوني العمل مخرجاً ومصمماً ومديراً فنياً لها، وانطلقت مسيرتها لتحقق نجاحاً كبيراً بفضل المواضيع التي تناولتها العروض في الفنون والحضارة المصرية والعربية وغيرها من الأفكار المبتكرة والمتجددة. تتلمذ عوني على يد الفنان العالمي موريس بيجار وعمل معه في العديد من العروض بعد دراسته الغرافيك والفنون التشكيلية في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في بروكسل. وخلال الفترة من عام 1993 إلى 2012 أخرج أكثر من ثلاثين عملاً مع الفرقة، بالإضافة إلى العديد من الاحتفالات القومية. أسطورة إيكاروس طويلة ومعقدة، اختار عوني منها خطاً واحداً هو الذي يدور حول إيكاروس ابن ديدالوس المحتجز مع أبيه في متاهة جزيرة كريت كعقاب لهما من مينوس ملك الجزيرة، فيحاولان الهرب عبر الاستعانة بأجنحة ثبتاها على ظهريهما بالشمع. وأثناء هروبهما من المنفى حلق إيكاروس قريباً من الشمس متجاهلاً نصيحة والده فسقط في البحر بعدما أذابت أشعة الشمس الأجنحة. وإذا كانت الأسطورة تعني الهروب، فإنها عند عوني تحولت إلى فكرة الطموح والصعود والهبوط والموت والميلاد، مع إتقان كبير في تصميم المسرح وجعل الإضاءة والديكور والحركة نسيجاً واحداً. ولكن هنا لاحظنا أموراً جديدة على أعمال عوني، الأول أن التصاميم الجماعية التي تميزه قليلة جداً، وأن هناك الوقفات التي تجعل الجمهور يصفق كأسلوب الباليه الكلاسيكي والتي لا تناسب الرقص المسرحي الحديث الذي يقوم على وحدة الفكرة وشحذ عقل المتفرج لتتبعها، وهذا عكس ما تحدثه هذه الوقفات وهذا التصفيق. الأمر الثالث أن هناك حواراً كلامياً جاء موظفاً وأضاف إلى العرض. بداية العرض كانت مفاجأة إذ فوجئنا بوليد عوني الذي توقف عن الرقص منذ عشرين عاماً يرقص في مشهد تمهيدي فوق المنضدة التي ترمز إلى المجتمع، وجاءت حركاته سريعة ومدروسة ومعبرة عن التقلب الصعود والهبوط التي تصيب المجتمعات مع التطلع إلى الحرية. عقب هذا التمهيد استكمل العرض الذي تضمن الكثير من المشاهد المعبرة والتي تحمل رؤية بصرية ممتعة استخدم فيها عوني كل الوسائل والخامات والعناصر المسرحية التي تؤكد فكرته. ويكفي هنا أن نذكر بعض هذه المشاهد التي كانت تمثل قمة في الإبداع الحركي والتشكيلي المدروس بدقة فائقة، حيث لا نجد حركة عشوائية سواء في الرقص أو الديكور أو الإضاءة أو الموسيقى والمؤثرات الصوتية. ومن هذه المشاهد مشهد الدائرة الحمراء مقابل الخلفية الزرقاء، وقدم فيها تشكيل السيلويت الذي استخدمه في أكثر من مشهد. أيضاً نقل التوتر إلى المتفرج في مشهد صوت المياه وأوراق الشجر تتساقط وصوت أمواج تتلاطم، حيث اتضح التناغم في الخطوط من شجر مستقيم وخط منحنٍ. ويلفت أيضاً المشهد المبتكر اللوائح المعدنية التي نزلت من أعلى المسرح واهتزازها مع حركة الراقصين. ومن المشاهد المهمة الراقصون والكراسي الحمراء مع صوت الموسيقى الحزينة والخلفية الهادئة، وهنا كان التناقض بين الجو البارد للمسرح مع سخونة الكراسي الحمراء، ما عكس إحساساً بالقهر وضرورة مقاومته في المجتمع. ومن أجمل المشاهد حين وضع الراقصون رأس زميل لهم في الماء وجاء راقص يمثل طائراً يجثم فوقه، فيما الإضاءة مبعثرة على الأرض وتتحرك مع دقات الموسيقى. كما كان هناك مشهد للراقصات اللواتي تلبس كل منهن لوناً وتنفذ حركة مختلفة عن زميلتها تعبيراً عن التنوع... ولكن لا ننكر أن العمل يتضمن الكثير من الرموز الغامضة التي أخذت عليه في العرض الأول وكان تخلص منها تباعاً خلال العروض الأخرى. كل هذا الفكر عبر عنه الراقصون والراقصات بمهارة شديدة وإتقان للكثير من الحركات التي لها الكثير من المعاني، وهم سبعة راقصين وتسع راقصات من الصعب أن نعتبر أحدهم بطلاً بل كلهم أبطال، أو بمعنى أدق كلهم إيكاروس. ورغم أن لعوني رؤية في كل تفاصيل العمل وعناصره، فإنه لا بد من الإشادة بإضاءة ياسر شعلان وديكور شيرين سامح وصوت محمود عبداللطيف وكل مجموعة الفنيين. عرض إيكاروس 2018 اتضحت فيه خبرة السنين والنضج الفني لوليد عوني مقارنة بإيكاروس 1993. مثل الدائرة الحمراء التي في الخلفية ومشهد السيلويت ومشاهد الكراسي الحمراء مع صوت الرعد والموسيقى الحزينة والخلفية الزرقاء، وأيضاً حركة العواكس الفضية التي جمعت بين الحركة والصوت المميز.