مسرحية «زايد والحلم» التي أعدها وأشرف عليها الفنان عبدالحليم كركلا يمكن وصفها ب «الملحمة» التاريخية - الفنية التي تستعيد شخصية الشيخ زايد مؤسس دولة الإمارات وتنطلق منها لتبني عالماً يتداخل فيه التاريخ بمعالمه الواقعية والخيال الذي يتعدى تخوم المخيلة ليبلغ مرتبة جمالية عالية. إنها ملحمة بحق، هذه المسرحية التي انصهرت فيها كل أنواع الفنون، رقصاً وأداء مسرحياً وموسيقى وسينما وشعراً وسينوغرافيا وإضاءة ومؤثرات بصرية، عطفاً على البعد التوثيقي الذي شاءه كركلا ركيزة اعتمد عليها لرسم مسيرة الشيخ زايد الشخصية ومساره الوطني. وقد نجحت فعلاً هيئة أبوظبي للثقافة والتراث في رهانها على الفنان عبدالحليم كركلا، فهذا الفنان الرائد والمتجدد دوماً كان وحده القادر على انجاز مثل هذا العرض الملحمي الشامل والضخم الذي قدّم صورة عالمية للشيخ زايد، الزعيم والمؤسس، الذي يعتبره أهل الامارات أباً لهم جميعاً. انطلق كركلا، كما يتجلى واضحاً من الحدث التاريخي الموثق والمؤرشف ثم أفلت العنان لعينه الثاقبة ومخيلته الشاسعة، بغية خلق عالم بكامله وليس عرضاً مسرحياً راقصاً فقط. وقد جعل كركلا التاريخ ذريعة لبناء عرض تتوالى فصوله توالياً محلمياً، يجمع بينها خيط متين، هو الخيط الدرامي الذي يصنعه الجسد الراقص والأداء والحركة المتفجرة، جماعياً وفردياً. وإن كان كركلا اعتمد بنية كرونولوجية تجسّد سيرة الشيخ زايد المتتالية فهو لم يلبث أن فجّر هذه البنية، بصرياً وحركياً. يطل الشيخ زايد طفلاً ثم فتى ثم شاباً ثم زعيماً ثم راعياً لأبناء الامارات والقبائل والعائلات ثم رئيساً أو مؤسساً بالأحرى للدولة الحديثة. وقد دعم كركلا هذه الصورة الشخصية أو «البورتريه» بمعطيات البيئة التي تجمع بين الصحراء والبحر، وبالتقاليد والعادات الشعبية التي طالما حفلت بها تلك البيئة. هكذا أبصر المشاهد كثبان الرمل وشجر النخيل وجرار الماء والرماح، كما شاهد أيضاً البحر بصياديه الذين كانوا يغطسون بحثاً عن اللؤلؤ الذي شكل احدى أساطير البلاد. ثم كان لا بد من الانتقال الى العصر الحديث، عصر العلم والتكنولوجيا، عصر البناء والتحديث وهو العصر الذي كان الشيخ زايد أحد أبرز الحافزين عليه. ومعروف عنه تشجيعه للعلم والمعرفة ودعوته المرأة الى مساعدة الرجل في بناء المجتمع الجديد. بدا عبدالحليم كركلا أشبه ب «المايسترو» الذي يدير فريقاً كبيراً من الفنانين، أصحاب الاختصاص. إنه «المايسترو» الذي يشرف من الصميم وليس من الخارج على بناء هذا العرض الملحمي الذي ضم أكثر من 150 فناناً. مهمة الإخراج تولاها ايفان كركلا وكان العين الساهرة والمراقبة وقد تولى ادارة الممثلين ورسم حركتهم الفردية والجماعية وعمل على بلورة البعد المشهدي الشامل، متعاوناً مع فنانين غربيين، مثل الايطالي جوليانو سبينيللي الذي ابتدع السينوغرافيا البديعة والإيطاليين سيرجيو وماتيو ميتالي اللذين ابدعا السينوغرافيا الافتراضية التي أضفت على العرض بعداً جمالياً نادراً، والبريطاني الان باريت الذي تولى هندسة الإضاءة. أدرك عبدالحليم وابنه ايفان أن مسرح كركلا لم يعد قادراً عن التنازل عن نزعته العالمية وعن هويته الحديثة والمابعد حديثة على المستوى البصري والمشهدي والتقني. ولم يتوانيا عن زيارة المخرج الايطالي الكبير فرنكو زفيريللي للأخذ بمشورته اخراجياً. وكعادتهما، تعاونا مع الفريق التقني الأوروبي لترسيخ البعد البصري للعرض، فإذا الإضاءة هندسة قائمة بذاتها، بل نحت بالضوء وخلق للظلال والأحجام. إنها الإضاءة التي تؤدي دوراً درامياً وتنبع من داخل العرض ولا تحلّ عليه من الخارج. أما السينوغرافيا فحملت المخيلة الشعبية والبيئية المتعددة، تقاليد وعادات وأمكنة، وجسّدتها ببعدها البصري الساطع على الخشبة التي أصبحت أكثر من خشبة، لا سيما مع السينوغرافيا الافتراضية القائمة على جمالية الأبعاد الثلاثة. مسارح متداخلة هكذا بدا المسرح وكأنه ثلاثة مسارح متداخلة ومتوازنة في آن واحد: مسرح أمامي تجرى عليه أحداث التاريخ والواقع، وتقدم عليه أيضاً اللوحات الراقصة، ثم مسرح وسطي يجمع بين التاريخ والمخيلة، بالحركة والرموز والظلال، ثم مسرح خلفي كأنه الفسحة التي تمثل الذاكرة والمخيلة معاً. وهنا أدت الستائر الشفيفة دوراً فاعلاً وجمالياً وكانت بمثابة الشاشة التي تخفي وتفشي في وقت واحد، تخفي ثنايا الذاكرة وأخيلة المكان الأول وتفشي أسرار الذاكرة نفسها ومعالم الواقع الذي يقابل التاريخ. وعلى هذه الشاشة شاهد الجمهور منظر التحوّل الذي طرأ على الامارات، الأبنية الحديثة تتداخل في القديمة وتحل محلها، الأرقام والمعادلات الرياضية ترتفع، وكذلك صور الكومبيوتر وكلها تدل على حداثة المرحلة الجديدة. وكم نجح عبدالحليم وإيفان كركلا في صهر هذه العناصر البصرية (السينوغرافيا، السينوغرافيا الافتراضية، الاضاءة) في وحدة مشهدية متينة، فإذا بهذه العناصر يكمّل بعضها بعضاً، جمالياً ودرامياً وتخييلياً. أما الكوريغرافيا أو تصميم الرقصات فعهد عبدالحليم بها الى ابنته أليسار التي أضحت هي وإيفان عنصرين أساسيين في مسرح كركلا. وقد انطلقت أليسار من روح المسرح هذا وجوّه وإرثه الكبير، فتلاقت مع رؤية والدها في الرقص «الكركلي» الذي بات يملك أبجديته الخاصة وفي الفولكلور اللبناني والعربي وتفردت بنفسها في اللوحات الراقصة المستوحاة من العالم (روسيا، اسبانيا، الصين أو الشرق الأقصى). وقد استعان كركلا بفرق أجنبية من تلك البلدان حضرت خصيصاً للمشاركة في العرض وأشرف عليها ورسّخ حضورها في سياق العرض الشامل. واستعان كذلك بفرقة من الإمارات أدت لوحات فولكلورية ذات طابع تراثي ومحلي. هذه الفرق قدمت لوحاتها وخلقت مناخاً عالمياً شاء كركلا أن يرمز به الى الطابع الثقافي والفني الكوسموبوليتي والعالمي المتعدد الذي تتميز به الامارات الآن، نظراً الى كثافة الشعوب التي تقطنها والتي جلبت معها تراثها وثقافاتها. صاغت أليسار اللوحات الراقصة بعين شاعرية مرهفة وإحساس جمالي مضافاً اليهما الوعي الصارم بفن الرقص والكوريغرافيا. وكان على هذه اللوحات أن تتعدد وتختلف وتتناغم أو تتآلف في وقت واحد: لوحات هاذية بجماليتها وحركيتها وديناميتها، يصنعها راقصون وراقصات من ذوي الخبرة والمراس اللذين كانا دوماً ركيزة المسرح «الكركلي». وقد أضفت عليها الملابس والأزياء المشتعلة ألواناً بهيجة وزخارف ومنمنمات أبعاداً جمالية. لوحات تختلف باختلاف البيئة والمكان، ذات جذور عربية وبدوية، اماراتية ولبنانية، فولكلورية وحديثة. حتى العمال حضروا في لوحة راقصة بقبعاتهم الحمراء وعصيّهم، حتى الطالبات حضرن أيضاً في لوحة بديعة مع كراسيهن والكتب، ناهيك بالفلامنكو والرقص الصيني والدبكة التي نجح كركلا في تحريرها من صبغتها المحلية جاعلاً منها فناً عالمياً. واللافت هو التعاون المستمر الذي قام به كركلا مع الموسيقار الإيراني محمد رضا عليقلي، وقد أدى هذا التعاون الى صهر الموسيقى أو الموسيقات المتعددة التي اختارها كركلا في بوتقة واحدة رسخها هذا الموسيقار الكبير. ففي الموسيقى البدوية تظنه بدوياً، وفي الموسيقى الفولكلورية المشرقية تظنه مشرقياً وهكذا في سائر الأنغام والمقطوعات التي صاغها وما يجب الإشارة اليه حضور التمثيل مجسداً في دور الراوي الذي أداه الممثل القدير غبريال يمين، وشخصية الشيخ زايد التي أداها الممثل الأردني ياسر المصري، اضافة الى حضور ممثلين آخرين. ولعل اللوحة الأخيرة، لوحة الختام، كانت فعلاً الأشد ابهاراً. إنها لوحة الفنون كلها، شرقية وغربية، بدوية وفولكلورية، تراثية وحديثة، وقد حضر العالم كله فيها، موسيقى ورقصاً وسينوغرافيا وإضاءة ومناخاً. وبدا الجمهور حائراً الى أي جهة ينظر بل الى أي لوحة أو رقصة أو شكل بصري، فاللوحة الختامية بدت كأنها ملحمية من شدة ما ضمّت من عناصر وإيقاعات ورقصات. وكانت المفاجأة اطلالة المطرب عاصي الحلاني على جواده وكذلك الرقصة الفولكلورية المنفردة التي أداها الفنان عمر كركلا والتي بات معروفاً بها في ختام العروض الكركلية، وقد صفّق له الجمهور كعادته دوماً. يصعب فعلاً اختصار جماليات «زايد والحلم»، هذا العرض الذي جمع أكثر من 150 فناناً في حقولهم المختلفة، وهؤلاء كان يصعب جمعهم حقاً لو لم يكن المايسترو هو عبدالحليم كركلا نفسه، بمخيلته الشاسعة وعينه النفاذة وبصيرته الساطعة ومهارته في السبك المشهدي والنسج البصري. عرض مسرحي راقص هو أشبه بالملحمة المشهدية التي تجلت عبرها صورة الشيخ زايد، هذا الزعيم الذي حلم بدولته وحقق حلمه ورحل. * تقدم مسرحية «زايد والحلم» على مسرح فوروم دو بيروت حتى 4 آذار (مارس) وهي من انتاج هيئة أبوظبي للثقافة والتراث.