يمكن القول إن باليه «عصفور النار» الذي أعاد الفنان اللبناني وليد عوني إلى خشبة دار الأوبرا المصرية بعد غياب 4 سنوات، والذي يمثل إضافة كبرى إلى فرقة «باليه أوبرا القاهرة» ونقطة مضيئة في رصيدها الفني، هو متعة بصرية وموسيقية راقية بامتياز. العرض الذي فاجأ الجمهور باعتماده النمط الكلاسيكي مع خلفية مصرية عربية، يمثّل قمة النضج الفني للمخرج ومصمم الرقص الذي أعطى الرقص الحديث في مصر نكهة خاصة. قدّم «عصفور النار» للمرة الأولى في 25 حزيران (يونيو) 1910 في باريس من تصميم ميخائيل فوكين، وبمبادرة من دياجيليف مدير فرقة البالية الروسية، وحقق نجاحاً كبيراً لكونه مثل ثورة في مجالي الموسيقى والرقص. وتعتمد موسيقاه وقصته على أسطورة من الأدب الشعبي الروسي، متداولة في الفولكلور السلافي وتمثل الصراع الأبدي بين الخير والشر، وتقع في مشهدين حول الأمير الشاب الذي يساق إلى حديقة غناء بقوة العصفورة النارية ويقع في حب فتاة جميلة محبوسة. وليتزوجها يجب أن ينهي السحر الأسود الذي أصابها به الشرير كاتشاي. وعند بزوغ الفجر تخرج من القلعة أميرات محنطات يحذّرن الأمير من بطش هذا الشرير الذي يحول الآدميين إلى صخر. لكن الأمير ينجح في إنقاذ الفتاة وإبطال مفعول السحر من طريق نزع بيضة الخلود من شجرة الحياة، ويساعده في ذلك «عصفور النار». ويلعب وليد عوني في العرض على وتر الصراع بين الخير والشر، مستحضراً ما تعيشه المنطقة العربية الآن من دفاع مستميت عن قوتها وجيوشها، ولكن من خلال تفاصيل الأسطورة الأصلية ومن دون التخلي عن ملامحها. وحين فُتح الستار، فوجئ الجمهور بمجموعة بنات ينبطحن أرضاً لا تظهر منهن إلا أرجل مرفوعة وأطراف أقدام تتحرك مثل منقاري العصفور في حركة مبتكرة، ومن الصعب أن تغادر ذاكرتك. تدريجاً، تتحرك الأرجل والأرداف كحركات الطيور، وفي الخلفية شاشة سينمائية عليها مشهد متحرك للنار. وبعدها تتحرك الفتيات اللواتي يرتدين زي العصفورة، بملامح طيور مصر القديمة. كانت هذه الافتتاحية خير تمهيد لفلسفة وليد عوني في هذا العمل الذي اعتمد فيه على الرقصات الجماعية التي يشتغل عليها عادة ولا يجعلها تغادر المسرح. حتى في الرقصات الفردية كانت المجموعة تدخل في نسيج المشهد بتصميم مسرحي بارع وبتوظيف يخدم الحدث ويتفاعل مع الموسيقى بلغة يُتقنها عوني الذي اعتمد على الرقص الكلاسيكي في تحريك الأطراف مع الحرص على الخلفية المصرية. وعلى رغم أن الحركة كانت عنصراً أساسياً في التعبير عن الموسيقى وأحداثها، فإنه استخدم بمهنية عالية كل العناصر المسرحية في خمسة عشر مشهداً، على خلفية شاشات سينمائية استعملها بحرفية كبيرة ووظفت بأسلوب أعطى الأحداث عمقاً وتجاوز بها الزمان والمكان. كما استعمل في كثير من المشاهد خيال الظل الذي أعطى ثراء وكثافة. واستعمل القماش بأسلوب جديد جسد به أشكالاً تخدم الموضوع. أما الألوان فكانت أهم ابتكارات عوني التي ساعدته فيها إضاءة ياسر شعلان. أهم ما يميز هذا العمل انسيابية حركة الأشكال المتولدة من العناصر المستخدمة مع الرقصة، مثل القماش الأحمر عندما تدلّى من سقف المسرح، ثم استخدمته الراقصة في توليد أشكال متعددة تعبر عن الفكرة القائمة على الصراع بين الخير والشر. فيستخدم كمساحة ثم يتحول إلى كتلة بوضعه على جسد الراقصة الأخرى، ثم يتحول إلى شكل مثلث في حركة لا تستغرق إلا ثواني. وهذا ينطبق أيضاً على ظهور الأجنحة المصرية في المشاهد الأخيرة التي ظهرت بخفة ونعومة والتي كانت لوحة تشكيلية تُمتع عين المشاهد. الديكور جاء بسيطاً يميل إلى التجريد بلونه الأبيض المحايد، ما أعطى فرصة لظهور العناصر الأخرى التي اعتمدت على الألوان. أما الأزياء المستوحاة من الحضارة المصرية والتي صممها عوني بنفسه، فكانت بطلة هذا العرض بلا منازع. راقصو الفرقة كانوا على درجة عالية من المهارة. وشارك في العرض معظم نجومها مثل أحمد يحيى وأحمد نبيل وسحر حلمي وآنيا أهسين وكاتيا إيفانوفا وهاني حسن وممدوح حسن وعمرو فاروق وزينب محمد ورجوي حامد. صاحبت العرض أوركسترا أوبرا القاهرة بقيادة المايسترو ناير ناجي الذي قدم موسيقى سترافنسكي بحرفية حافظ فيها على لغته الموسيقية البراقة. وختم العرض بظهور صورة سترافنسكي على الشاشة أثناء قيادته لهذا العرض في لندن عام 1965، وهي خطوة جيدة من عوني ترمز إلى أن قيمة هذا العمل في موسيقى هذا المؤلف العبقري.