فضلت عنوان «الجنس الثاني» على الترجمة العربية السائرة «الجنس الآخر» للكاتبة سيمون دي بوفوار، لأنه يؤدي المعنى بشكل أفضل إذ إن مفهوم «الآخر» مفهومٌ متعدد المعاني، ومختلفٌ باختلاف الرؤى البحثية فلسفياً ونفسياً على رغم أن ثمة اتفاق على أن هذا «الآخر» مجاوز لمعنى «الأنا» فعندما قال سارتر «الجحيم هو الآخرون» فإنه يريد بذلك مطلق الآخر المضاد أو المفارق للأنا الوجودي لأنه يحد من الحرية والتشكل الوجودي للفرد، على أن علم الاجتماع قد استخدم هذه اللفظة في تعبير المجتمعات التي تستثني فيها بعض فئاتها على أنها من «الآخرين» المتصفين بصفات دونية وبهذا تكون لفظة «الآخر» لها معانٍ عدة لذلك كانت لفظة «الثاني» أدل على المعنى المقصود وهو الدونية التي كانت تعيشها المرأة عندما كانت توضع في مرتبة ثانية تأتي بعد الرجل الأول. شهد العالم عددا من الموجات النسوية التي أثرت على المجتمع عموما وعلى المرأة وكينونتها الإنسانية؛ وحسب سيمون دي بوفوار (1908–1986) وهي من رائدات الحركة النسوية، فإنها بدأت بشكل مبكر مع الكاتبة الإيطالية الفرنسية كريستين دي بيزان (1364–1430) في كتابها «مدينة السيدات» وكتابها «رسالة إلى إله الحب» الذي يعد أول عمل كبير في مجال النقد النسوي إذ انتقدت كراهية المرأة ووصف طبيعتها التي رسمها لها جان دي ميون في «رومانس الوردة» حتى قالت سيمون: «كانت المرة الأولى التي نرى فيها امرأة تأخذ قلمها دفاعا عن جنسها»، ويمكن أن نعتبرها نسوية مبكرة تشبه طريقتها إلى حد كبير طريقة النسوية التي كانت موجودة في بداية الحركة النسوية عام 1890 ( ما بعد التنوير) ويرى الباحثون في الحركات النسوية أن ماري ولستونكرافت «قامت بكتابة أول نصوص النسوية الحديثة باسم «دفاع عن حقوق المرأة» على أصداء الثورة الفرنسية، عام 1792 الذي اعتبر فيما بعد أحد المرتكزات الرئيسة للفكر النسوي في الموجة الأولى التي انطلقت بالتضامن مع حركة تحرير العبيد مطالبةً بحق النساء في الاقتراع والحضانة والملكية في أواخر القرن التاسع من خلال عقد مؤتمر «سينيكا فولز» في الفترة من 19 إلى 20 تموز (يوليو) 1848 الذي تبلور منه أول خطاب نسوي ما لبث أن آتى ثماره ففي عام 1918 حصلت النساء في بريطانيا ممن تزيد أعمارهن عن ثلاثين سنة على حق التصويت، وتوسع هذا الحق عام 1928 ليشمل جميع النساء ممن تجاوزت اعمارهن الواحد والعشرين. أما في الولاياتالمتحدة اللأميركية فقد حصلت المرأة على حق التصويت عام 1920. أما الموجة النسوية الثانية فقد بدأت في الستينات حتى نهاية السبعينات من القرن الماضي وتميزت عن الموجة الأولى بالتوسع في نطاقها والتنوع في قضاياها وبالخلفية العميقة لأفكارها، وقد ارتبط أوج الموجة مع كتاب كيت ميليت «السياسة الجنسية» (1970) فبعد أن طرحت كيت ميليت «كل ما هو جنسي، هو سياسي» وأن الجنس خلف جميع الأسئلة السياسية التي يمكن أن تعرض لنا ومن الكتب التي اعتمدتها الموجة الثانية وكان مصدر إلهام كتاب سيمون دي بفوار «الجنس الثاني» إنجيل الحركة النسائية الواردة فيه هذه العبارة الشهيرة «لا تولد الواحدة امرأة بل تصبح كذلك» ونلحظ فيها التمييز بين الجنس والجندر «النوع الاجتماعي» الذي يكتسب تدريجيا وهذا التمييز دأب الفكر النسوي على التأكيد عليه ومحصلته أن التشريحي البيولوجي ليس قدرا يلزم المرأة منذ ولادتها إلى أن تموت، فالجنس الجانب الثابت والجندر هو نتاج عملية التكيف الثقافي فلا يمكن عزو وظائف المرأة الاجتماعية إلى الحتمية البيولوجية، وهذا ما يجعلنا نتساءل هل يعني أن جنسا معطى لأحد ما يقوده إلى أن يكتسب جندرا معينا أم يدخل في ذلك الأفعال الاختيارية والتملكية، أو ما نسميه بالفاعلية الشخصية أو ما يعبر عنه سارتريا بالمشروع المستقبلي وهذا ما يعني أن يصبح الجسد محلا لبنى جندرية أخرى متى ما بلغ قمة التأويل الثقافي أو آخر الصيرورة الاجتماعية. القولبة في أنماط سائدة وإن كانت العبارة التي أطلقتها سيمون «لا تولد الواحدة ....»، عنت بها المرأة فإننا نستطيع أن نستعملها في حق الرجل تماما، فنقول «لا يولد الواحد رجلا بل يصبح كذلك» لأن العوامل الخارجية (كالنظام الأبوي) قديما في حق النساء أو اللغة المتمركزة حول تفضيل الذكر يمكن أو يوجد لها شبيه في حق الرجل من خلال الأنظمة السياسية والاجتماعية القائمة التي تقولب الإنسان في أنماط سائدة ومتخلفة وإن كانت في حق المرأة أكثر. أما الموجة النسوية الثالثة التي عرفت باسم «ما بعد النسوية» أو «ما بعد الحداثة» أو «نسوية الاختلاف»، التي تؤكد على النشأة البيولوجية لبعض الصفات وهذه الموجة بدأت في منتصف الثمانينيات وتميزت بالتركيز على التقاطع بين العرق والجندر وهذا ما أدى الى تزايد نسبة عدد الناشطات النسويات الملونات والآسيويات كما أنها تختط مسلكا، يتم فيه الابتعاد عن الأيديولوجية التي تضع الرجل والمرأة في فئتين منفصلتين، وتؤكد أن الحصول على الحقوق لا يعني التشابه المطلق فهي تؤكد على الاختلاف وتعمل على اكتشاف وتفعيل مواطن الاختلاف، كما أنها تبدي ميلا للرجل كأب أو زوج أو صديق وتعتز منظرات هذه الموجة بأنوثتهن وتعتبر ذلك مصدر قوة لا ضعف، وتتوسع في تقبل الاختلاف داخل الموجة وتعتبر ذلك تناقضا طبيعيا وتركز على رفع الوعي وانتشار التعليم. ويلاحظ تركيزها على سرد القصص والشهادات والوقائع التي يتم فيها اضطهاد النساء كوسيلة لرفع الوعي النسوي، وهي بذلك تختلف عن النسوية الأولى في أوائل القرن العشرين التي حققت حصول النساء الى حق التصويت الانتخابي أو الملكية، كما لاتشبه نسوية السبعينيات أي الموجة الثانية من النسوية التي ركزت على الطبقة الوسطى للمرأة البيضاء حتى وصفت بعنصريتها للعرق الأبيض، لكنها مع ذلك سارت على الخط نفسه في المطالبة بحق المرأة في الاستقلال التام والحرية التي من ضمنها الحرية السياسية وحقها في تقلد المناصب العليا في الدولة. النسوية العربية ارتبطت دعوة تحرير المرأة بمدلولين اثنين، الأول قيم ومبادئ الثورة الفرنسية (1789) وكانت هذه الدعوة نتيجة الظلم والامتهان الذي تعرضت له المرأة باعتبارها أصل الخطيئة ومنبع الشر والفساد، والمدلول الثاني عبارة عن فلسفة رافضة لربط الخبرة الإنسانية بخبرة الرجل وإعطاء فلسفة وتصور عن الأشياء من خلال وجهة نظر المرأة، فبينما كانت الدعوة إلى تحرير المرأة دعوة إنصاف مما ألحق بها من أذى وظلم إذا بها تغدو في ستينيات القرن العشرين حركة متطرفة تدعو إلى تقديم قراءات مختلفة للدين واللغة والتاريخ والثقافة بشكل عام، وإلى التمركز حول الأنثى وإبراز قيم الصراع بين الرجل والمرأة. فبينما كانت الحركات التحررية القديمة تصدر عن الرؤية الإنسانية المتمركزة حول الإنسان في مراحل العلمنة الأولى، التي انتقلت فيها القداسة واللمحة الغيبية للإنسان، اعادت الحركة الجديدة صياغة الإنسان ذاته في ضوء معايير المنفعة المادية والجدوى الاقتصادية حتى أصبح تاريخ الحضارة البشرية تاريخ صراع بين الرجل والمرأة (الحركة النسوية في اليمن). ويقول صاحب كتاب «أزمة الأدب النسوي»: ولعل من أخطر المضامين وأكثرها تطرفا في بعض المسرحيات والروايات النسوية أنها تدعو إلى التمرد على السلطة أيا كان نوعها، لدرجة أن بيجي كونجيرز في كتابها «الفوضوية والنسوية» صرحت بأن الدولة ليست سوى تنظيم ذكوري أبوي يجب التخلص منه، وهذا لا يعني سوى أن الحركة النسوية لا تهدف إلى السيطرة وامتلاك القوة والنفوذ بقدر ما تهدف إلى القضاء على قوة ونفوذ الآخر. وآثار هذا التوجه الشكوك لدى قطاعات عريضة في المجتمع في الحركة النسوية حتى تعرضت لنقد وهجوم كاتبات بارزات من أمثال كريستينا هوف هومرز، حتى قالت الكاتبة والشاعرة الأميركية إيف ميريام أن هذه الكتابات التي تنادي بتحرير المرأة هي أعمال دعائية وسطحية وخاوية، وهذا ما يجعل مفهوم النسوية الإسلامية خياراً مناسبا. فالمتأمل للخطاب القرآني يجده ضد الأبوية، فالرجال يدخلون في منظومة المحاسبة الإلهية والتهذيب الاجتماعي وليس ذلك قاصرا على المرأة، كما أن جنسي البشرية ينظر إليهما كزوجين متلازمين ومتساويين في عبوديتهما المشتركة، كما نجد القرآن صراحة يأمر بترك البغي في التعامل مع النساء، والقرآن الكريم يدين بشدة النمط الأبوي المتسلط لتسيد الأب - البطريرك ويتضح ذلك من خلال النفي القاطع المتكرر لأي طبيعة ذكورية أبوية لله، ما يعني هدم النموذج الإنساني الذي يحاكي الأبوية (النسوية الإسلامية الجهاد من أجل العدالة) وأما آية «الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم»، فيرى الإمام الرازي ان سبب نزول آية «وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ» أن النساء تكلمن في تفضيل الله الرجال عليهن في الميراث، فذكر في هذه الآية أنه إنما فضل الرجال على النساء في الميراث، لأن الرجال قوامون على النساء والحاصل من هذا القسمة أنه لا فضل البتة وهو ما يقتضي التساوي والآية سيقت في المواريث، فكأن الله يواسي النساء فيقول لهن إن التفضيل للرجال في الميراث سيعود عليكن في النهاية، لأنهم سيقومون بالإنفاق عليكم والقيام على شؤونكم وهي قوامة رعاية لا قهر وتسلط، على أن الذين يأخذون برأي القوامة المطلقة يؤكدون أن المقصود في الآية الجنس لا الأفراد، لأن ثمة نساء فقن الرجال وقد قيل: ولو كن النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال». كما يفهم من الآية أن الرجال قوامون على النساء من المفاضلة المشتركة بينهم، فلم يقل القرآن بما فضل الله الرجال عليهن بل بما فضل الله بعضهم على بعض، فهناك فضل لكل طرف على الآخر، وهذا ما يفتح مجالا للفهم في حياتنا المعاصرة التي عملت فيها المرأة وتميزت وأصبح لها دخلها الخاص وفاقت الرجل، ويؤكد هذا قوله «وبما أنفقوا من أموالهم» فلم يقل بما أنفق الرجال لأن في الزمن السابق كان الرجال ينفقون من أموالهم على النساء، أما الآن فقد كثر إنفاق النساء من أموالهن وهذا إعجاز ظاهر في القرآن وعلم سابق، بأنه سيأتي زمان تفضل فيه المرأة الرجل وتنفق من مالها على بيتها وزوجها وتكون مشاركة في القوامة، لذلك على المرأة العربية في ظل مركزية الرجل أن تعيد النظر إلى نفسها من خلال الرجل، كما أن على الرجل الغربي في ظل مركزية المرأة أن يعيد النظر إلى نفسه من خلال المرأة.