يحافظ الباحث ملحم شاوول في كتابه الجديد «التفكك والانطواء: لبنان ومحيطه على مشارف الألفية» (دار شرق الكتاب) على خطّه الفكري في مقاربة الحدث السياسي من منظار علم الاجتماع كعلم ديناميكي. وينحى شاوول الى المنهجية الاستقصائية في مقالاته الدراسية، فيطرح الموضوع بتماسك، يحدّد الإشكالية، ليتفرّع بحثاً في الأسئلة المطروحة وفرضياتها، وفي جمع البيانات واختبار معطياتها، ليضع تقريراً عن الإجابات أو ما يعرف بتشكيل الخلاصات. والخلاصات كثيرة وكثيفة في المقالات والدراسات والمحاضرات التي نسجها شاوول بتأن منطقيّ، وأهم ما في استنتاجاته، أنّها تتوقع الحدث قبل حصوله، وهذا ما يتمثّل في مقالته التي نشرها في جريدة السفير في 18-3-2005، وعنوانها «لبنان بعد الانسحاب السوري: ما سوف يبقى وما سوف يتغيّر»، فيستخلص فيها استحالة بروز أي «فرصة مستدامة لبناء مشروع ديموقراطي جديد» في لبنان والمنطقة ما دام الصراع العربي-الإسرائيلي مستمراً. وصحّت توقعاته في سقوط تجربة «قوى الرابع عشر» في لبنان كمشروع وطني، يرفق حكمه الاستباقيّ، بمسارات للمناقشة تصلح لأي حوار وطني، أهمها «توسيع مفهوم الديموقراطية التوافقية والبحث في أطر جديدة لتطبيقها»، والبحث في العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة. تشير هذه المقالة- الدراسة الى أنّ الأستاذ الجامعيّ، ونموذجه ملحم شاوول، يفتح لصانعي القرار السياسي-الوطني مسالك مهمة لوضع المشاريع الإصلاحية، شرط أن يقرأ هؤلاء الصنّاع في كتب الباحثين الجديين، أو أن يدركوا أهمية النخبة في صياغة المخارج من الأزمات والنزاعات، ولا يتأمّن هذا الأمر في لبنان ولا في المناطق الملتهبة من العالم العربي. وإذا كانت الإشارة الى هذه المقالة مهمة فلأنّها تختصر التوجه العام للكتاب في مقاربته المسألة اللبنانية، فمن الواضح أنّ شاوول متشائم في تناوله لبنان في نكباته المتتالية، وفي غرقه في «الخوف» بعدما سقط فيه مشروع «الأمل»، وفي هذا المجال، ينطلق من تجارب تاريخية، من الحداثة وصولاً الى محاولات «إعادة تركيب البلد»، ويستعرض معوقات قيام حالة من الأمل الوطني انطلاقاً من عيّنات اجتماعية وسياسية مثل الطائفية والعشائرية والعائلية و «النفسية الاستعراضية» للبنانيين، والدولة الأمنية والزبائنية والمصالح المتداخلة والمتناقضة التي لا تتقاطع في «الإرادة المشتركة» أو في الانتظام السياسي الاجتماعي... ليعبُر من خلال هذه السلوكيات الى دراسات مفصّلة عن نماذج من مسارات الانتخابات النيابية، ليستخلص أنّ هذه الانتخابات وضعت «نصب أعينها مجمل الآلة الاجتماعية، مطلقة عمل التركيبة الهجينة للمجتمع». ولأنّه واقعي المنحى، يستخلص أنّ التغيير ممكن في لبنان ولكنّه من النوع البطيء «ولا يحدث على حرارة عالية كما هي الحال في مجتمعات وثقافات أخرى»، فيقترح معادلة واضحة وهي التغيير الجزئي وعلى مراحل، مشترطاً أن يكون هذا التغيير توافقياً»، وهذا تناقضٌ، علينا التعايش معه» كما قال. يعزّز شاوول في القسم اللبناني من كتابه توجهاته الحذرة من فرص التغيير، فيدرس عميقاً، الانتخابات النيابية خصوصاً في منطقة البقاع التي ينتمي اليها، فيعلن منها، خواتيم توجهاته التشاؤمية في مرتجيات الإصلاح والتحديث. في دراسة له عن «الواقع والممكن في الممارسة الديموقراطية اللبنانية» يعتبر شاوول أنّ الانتخابات النيابية مؤشر للديموقراطية ويذكّر «بنوعية» هذه الانتخابات التي تقيَّم بحسب الممارسة، فتوصف بالحرة أو النزيهة أو المنقوصة. وفي مقارنة بين مقاييس الانتخابات في المجتمعات الأوروبية والأميركية وبين واقعنا الانتخابي يتطرق الى «سوسيولوجيا الانتخاب» والسلوك الاقتراعي، ويلحظ أنّ التراكم الانتخابي يعزّز الثقافة الانتخابية غرباً عبر نظام المؤسسات الدستورية والبرلمانية وانتظامها، وفصل السلطات، واحترام حقوق المواطنين. وحين يتناول الانتخابات في لبنان يعود الى الثابت في تفكيره، وهو الديموقراطية التوافقية الطاغية على مفهوم الديموقراطية اللبنانية. في هذا الإطار يحكم بأنّ الانتخابات التي أجريت بعد «اتفاق الطائف» لم تحمل سلوكيات انتخابية جديدة، وعرفت خروقات عدة، والمهم في دراسته أنّه يتوغل في رصد ما سمّاه السمات المشتركة «للناخب العربي» في لبنان ومصر والأردن، فبدا خبيراً في هذا المجال، خصوصا أنّه وضع دراسات عدة عن الدورات الانتخابية التي أجريت في لبنان في التسعينات. وما يهم القارئ في كتاب «التفكك والانطواء»، خلاصاته في تحديد «سوسيولوجيا المرشّح والناخب «وبروفيلهما» الاجتماعي. يرى شاوول أنّ ما يطغى على المرشح هي السمة التقليدية– العائلية أو ما يعرف بالبيوتات السياسية، كنسق يسلّم بالمعادلة «الزبائنية»، فيقدّم الزعيم، مباشرة أو بالواسطة، الخدمات المتعددة الى الناخب مقابل الحصول على ولائه السياسي. ولا يهمل العامل المالي في بناء «الزعامة» فيرتاح المرشح المتموّل في خوض معارك الانتخابات. وهذا المرشح «الرأسمالي» الذي ظهر على الساحة اللبنانية منذ الاستقلال، فتح الباب للرشوة الانتخابية. ولا يسقط شاوول الخلفية الإصلاحية والتحديثية لعدد من المرشحين في الأحزاب لكنّه يشكك في إمكانات تحقيق ما يطمحون اليه، لأسباب تتعلّق بطبيعة الأحزاب اللبنانية، فيفرد نافذة للإطلالة على عثراتها. ويحمّل الناخب مسؤولية الوهن في العملية الانتخابية، لجهة المساءلة المفقودة، فيحدد أحد عشر عنصراً للمقترع تتمحور حول الزبائنية والعائلية والطائفية، ويرى أن مفاهيم الانتخاب الحديث لا تزال ضعيفة. تأخذ المتابعة الحثيثة للانتخابات النيابية حيّزاً واسعاً في كتاب شاوول الذي يسترسل في تقديم النماذج الإحصائية كقاعدة لدراسة المنحى السوسيولوجي فيها، طائفياً وطبقياً، ليكوّن استنتاجاته المرفقة بالأرقام والعِبر. وكمقاربته العقلانية لقضايا لبنان في ديموقراطيته المتعثرة والمريضة، يلامس «النزاع العربي الفلسطيني- الإسرائيلي» وحروب الخليج وتداعياتها على الإقليم، ويهتم بالعراق وايران. لا شك في أنّ تطرقه لمؤتمر مدريد للسلام مهم، خصوصاً أنّه تابع تطوراته كمسؤول صحافي في «تلفزيون لبنان» لا كعالم اجتماع، إلا أنّ كتاباته في هذا الموضوع عززها بثقافته التاريخية ورؤيته العامة للصراع في المنطقة. ويبدع في مقالتين عن «صورة إسرائيل» وعن «فلسطين الصورة المنكسرة»، فينطلق في مقاربته لهذين الملفين الشائكين، من حالته الخاصة ليلج الى الحالة العامة، فيعدّد الصور الشائعة عن إسرائيل عربياً وعالمياً، ويُبقي الباب مفتوحاً لتظهير صورتها الجلية، وهذا ما يعبّر ربما عن مأزق عام في النظرة الى «إسرائيل» حتى ولو كانت العدو الأكيد. ويجرؤ في تظهير نظرة المسيحيين اللبنانيين الى الفلسطينيين، متخطيّاً محرّمات تعيق أي دراسة موضوعية أو محايدة، للعلاقة المتذبذبة بين الجانبين. يطلق في هذا الاتجاه خلاصاته الواضحة عن «غياب الرؤيا» عند المؤسسات الفلسطينية في الحرب الأهلية اللبنانية، ووقوع الفلسطينيين في ارتكابات ما سمّاه «عصابات حروب» فتبدلت صورة «الفدائي الفلسطيني» ليصبح عنصراً مسلحاً في أتون هذه الحرب، واعتبر أنّ الصورة الأخيرة للفلسطينيين في لبنان عادت الى بداياتها بعد النكبة، وهي « صورة لاجئين» ورست على «حرب المخيمات» التي دارت في الثمانينات بين حركة أمل الشيعية المتحالفة مع النظام السوري، وبين المنظمات الموالية للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. يطرح شاوول معادلات تصلح مدخلاً لاستشراف آفاق مجتمعات المثلث اللبناني- الفلسطيني–العراقي امتداداً الى الخليج بضفتيه العربية والإيرانية، وهي تصلح لفهم المستقبل الذي يُقرأ من عنوان كتابه الجديد: «التفكك والانطواء»، يتمثل هذا التفكك في العراق مثلاً في «كيانات منفصلة»، في حين تشكل مقاربته للوضع الإيراني في التسعينات مقاربة سبّاقة لجهة تحذيره من الاقتصاد الذي «فقد فاعليته الكاملة»، ولجهة غياب التوازن في الخليج متوقعاً منذ العام 1992 منافسة حادة سعودية- إيرانية، وتوتراً في الصراعات واختبار القوى بين الجانبين من دون أن يتوقع موعداً للتوجه الى علاقات إقليمية مستقرة. يتضمن كتاب «التفكك والانطواء» كثيراً من المعلومات التاريخية المهمة عن المنطقة العربية، أصرّ شاوول على عرضها في الكتاب كمساعد ومرشد لفهم كثير من مقالاته الدراسية ومحاضراته، ولعلّ المقدمة التي وضعها عن نظرته لحالة «التفكك»، تعكس مدى نضجه كعالم اجتماعي يهوى الابتعاد من النمطية الأكاديمية الجافة، ليقترب من الأسلوب الصحافي المعمّق في التعاطي مع القضايا المطروحة، فيسترسل في أفكاره بأسلوب واضح، ويوازن بين الجدية العلمية وعناصر الجاذبية التي تفرضها المقالة الصحافية الناجحة والمثقلة بالمعلومات. نجح شاوول، حتى في محاضراته، في أن يكون الباحث الرشيق بحسب النسق الغربي، فيقدّم، في عصر السرعة، خلاصاته وشهاداته وانطباعاته بما يتوافق وايقاع هذا العصر، من دون أن يفقد حاسته السادسة في جعل طروحاته تتسم بالحذر العلمي حيناً وبالمنهجية العقلانية أحياناً كثيرة، وفي الحالتين يبقى شاوول على مسافة وسطية بين النخبة والعامة.