فقط في لبنان تجرى الانتخابات للمجلس النيابي كي لا يؤخذ بنتائجها. هذا ما بدا من المساعي التي أجريت لتشكيل الحكومة اللبنانية ومن مساعي التشكيل في مرات سابقة. لا يكمن الأمر كما يشيع البعض من معادلة «لا كاسر ولا مكسور» أو «لا غالب ولا مغلوب» بل من المفهوم الإشكالي للعيش المشترك الذي تطور في لبنان ما بعد اتفاق الطائف. وهذا الاتفاق الذي جاء توافقياً من أجل وضع خاتمة للحرب الأهلية أنتج مفاهيم خاطئة لعلاقات المجتمع بالدولة والخاص بالعام والجزء السياسي بالكل والمكوّن الاجتماعي بالسلطة، وأعاق القدرة على الحكم والسلطة التنفيذية عن التنفيذ. فمن التطور والرقي أن تكون الديموقراطية توافقية بين الشركاء في المجتمع. لكن من القصور والتخلّف أن يقصم التوافق ظهر الديموقراطية وأن يُفرغ الانتخابات ونتائجها من كل معنى! ولكن في لبنان، إما أن يشارك الجميع في الحكم من خلال المشاركة في الحكومة أو لا يحكم أحد! في مثل هذه الحالة لا تبقى حاجة لانتخابات لأن الانتخابات في أصل الفكرة الديموقراطية هي البوابة التي يمرّ فيها المجتمع إلى التداول على السلطة ويعاد فيها القرار من جديد إلى الشعب وخياراته في اختتام الولاية المتفق عليها للحكومة! صحيح أن للتوازنات الإقليمية غير المحسومة في الراهن انعكاسها على الساحة اللبنانية وبقوة، لكننا لا نستطيع أن نعفي أطرافاً لبنانية بعينها من فهمها الخاطئ للدولة والانتخابات وقرار الناخب والأكثرية النيابية وما إلى ذلك من ظواهر سياسية تستتبع ذلك. فكأن الذين يرفضون نتائج الانتخابات لا يفصلون بين الحكومة والدولة أو بين الدولة والمجتمع فإذا لم يشاركوا في الحكومة كأنهم لا يشاركون في الدولة أو كأنهم يُقصون عن المجتمع! كما أن الذين لا يطيقون حكم الأكثرية النيابية ولا يقبلون به كأنهم يعلنون رفضهم لقرار الناخبين اللبنانيين! ولأنهم استطاعوا أن يمنعوا الحكومة السابقة من الحكم من خلال تعطيل عمل البرلمان وتعطيل الحياة في قلب بيروت، ولأنهم استطاعوا أن يفرغوا الدولة من مضمونها ومعناها بتوريطها في حرب أنهكتها، تعتقد الأكثرية النيابية أنهم قادرون على ذلك مجدداً بعد الانتخابات التي أعطت للأكثرية شرعيتها في انتخابات وافق جميع اللاعبين فيها على القواعد والإجراءات والنتائج، نراهم يقعون في الفهم الضيق الذي يريده المعطلون للدولة وللديموقراطية والمجتمع في لبنان. فبعض الأطراف اللبنانية تتصرف الآن على نسق حالات اللعب في ساحة الحارة حيث كان الفتى المفتول العضلات يهددنا بالتعطيل إذ لم نُشركه في اللعبة! وهم يهددون بالتعطيل إذ لم يُشركوا في الحكم علماً بأن الناخب أراد غير ذلك. لا ينبع الأمر المشار إليه فقط من المفهوم الخاطئ للديموقراطية واستحقاقاتها والانتخابات واستتباعاتها بل من حقيقة أن أطرافاً لبنانية واضحة المعالم تعتقد أن شرعية الدولة والمجتمع أصلاً من شرعيتها هي. أو لنكن أكثر وضوحاً، فهم يعتقدون أن الدولة ينبغي أن تركع عند قدميها لكونها فوق الدولة وأقوى منها عسكرياً وتنظيمياً. وأمكننا أن نخطو خطوة أخرى في هذا الاتجاه بالقول إن حزب الله مثلاً لا يرى أي غضاضة في إخضاع لبنان دولة وأرضاً ومقدرات وسياسة لمشروع أيديولوجي إقليمي يتناقض بالضرورة مع مفهوم الوطني والديموقراطي والتعددي والمختلف في السياق اللبناني. وعليه، ليس صدفة أن نراه وحليفه الجنرال عون لاعبيّ تعطيل على طول الخط. ولن تشفع لهما عندنا أي حيل خطابية أو محاولات طمأنة تتلقفها الأكثرية النيابية التي كانت ستنحو في الاتجاه ذاته لو بلغ الفارق بينها وبين الأقلية النيابية 5:1 لأنها تتوقع (ونحن، أيضاً) بناء على رصد الحالة اللبنانية أن المعارضة كانت ستلجأ إلى التعطيل بكل ما تتيحه لنفسها من وسائل ديموقراطية وغير ديموقراطية! بمعنى أنه طالما لم يتفق اللبنانيون نهائياً واستراتيجياً على تسوية خلافاتهم وصراعاتهم بالاحتكام للشعب، على علمنا بتكتلاته وتجمعاته، فإنه سيكون مضحكاً مبكياً أن نقف بعد كل انتخابات تشريعية لنكتشف أن مشاكل اللبنانيين تعقدت أكثر مما انفرجت. لا أعتقد أن المخرج في لبنان سيكون بحكومة وحدة وطنية، أو بتوافق يُديم المفاهيم السياسية الخاطئة ويكرّس إخضاع السياسة في لبنان بشكل تام لحراك السياسة الإقليمية أو الدولية، أو بحكومة جديدة على أساس محاصصة قديمة متقادمة. فإن حصول هذا يعني بالضرورة تعميق قصور الدولة وإهدار مقدرات المجتمع وطاقاته كما حصل منذ تولي حكومة فؤاد السنيورة مهماتها وتعطيل عملها في كل مجال وشأن حتى أصغرها. صحيح أن قصور الدولة والسلطة التنفيذية ليس صفة ملازمة للبنان وحده في العالم العربي لكننا نأبى أن نسلم بالمقولة التيئيسية أن هذه هي حال العرب اليوم. ومن هنا اجتهادنا للاستدلال على وسائل يتجاوز بواسطتها لبنان مجتمعاً ودولةً أزمته. ولا نعتقد أن الأمر ممكن من خلال الصيغة الراهنة للقانون الانتخابي وللدستور. ولا هو ممكن مع بقاء نظام الميليشيات المسلحّة إلى حدّ أن الدولة يُمكن أن تقع في قبضة القوة العسكرية لأحد أحزابها من ليلة إلى ضحاها! صحيح أن محاولات كثيرة جارية لتبرير مثل هذا الوضع غير الطبيعي الذي لا يتفق وأبسط مفاهيم دولة العقد الاجتماعي واحتكار الدولة للعنف، وصحيح أن الهتافين لهذه الحالة المطبّلين لها كثر بدعوى «نصرة المقاومة»، ومع هذا فإن بداية الخروج من هذه الحالة يبدأ من خلال تسميتها بأسمائها كأن نقول مثلاً: «بات من الضروري تجاوز اتفاق الطائف والدوحة نحو معقولية جديدة يحتكم الجميع من دون أي استثناء ضمنها للناخب واستحقاقات اللعبة الديموقراطية وفكرة التداول على الحكم»، أو كأن نقول مثلاً: «لا سلاح إلا سلاح الدولة، لا لحزب الله ولا للفلسطينيين في لبنان ولا لأي طرف»، أو «نرفض رهن لبنان للمشروع النووي الإيراني» أو أن نُتبع ذلك بالقول: «... ولا للمشروع السوري»!. بمعنى، أن هذه المرحلة الحرجة ينبغي أن تنتهي بحوار مفصّل حول القضايا التي أنهكت الدولة وقصمت ظهر الديموقراطية تكون إقامة الحكومة مدخلاً إلى صلبه وليس فصل الخاتمة له! وهو ما يستدعي رفع اليد الإيرانية أو السورية عن لبنان واحتمالات تطوره. وهو ما يتطلب من اللبنانيين خروجاً على أنفسهم وتاريخهم وتجربتهم الدموية داخل حمى الهويات الطائفية القاتلة. بمعنى أن لبنان بحاجة إلى أفعال إرادية واعتماد خيارات بعينها دون أخرى. * كاتب فلسطيني.