المواجهات الدموية في ميدان التحرير ومسرح البالون في القاهرة، التي حوّلت ليل العاصمة المصرية بركانَ غضب أوقع حوالى ستمئة جريح في غضون ساعات... لم تكن بالون اختبار جديداً لقدرة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على حماية ثورة 25 يناير. وبعضهم في مصر لا يتردد في الاعتراف بأن ما حصل بين الميدان والمسرح، ليس سوى عيّنة من حِمم الكراهية والحقد اللذين خرجا من قمقم القمع والقهر بعد عقود من الصمت. كانت المعارضة مدانة في عهد حسني مبارك، باهترائها وانكفائها. اليوم هي مدانة في موقع المتحالف مع المنتصر، إذ تتلهى بتصفية حسابات حزبية، من دون الالتفات الى أولوية حماية الثورة. والحماية لن تكون حتماً بترك حابل مَن تبقى من «بلطجية» النظام السابق يتلطى بنابل الغاضبين من «تباطؤ» الإصلاح والتردد في محاكمات سريعة لرموز هذا النظام... ويتلطى بنابل الحاقدين على الشرطة التي باتت ترتعد امامهم، فيفر الأمن في منطقة ميدان التحرير ومسرح البالون، فيما مسرح الأحداث يحاصر الجيش بضغوطه، وعلى رأسه رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة المشير محمد حسين طنطاوي. كانت نار الغضب تحرق ممتلكات للدولة وللمواطنين فجر أمس، حين تبرّع مواطن أميركي بمئة ألف دولار تقديراً لحماية «التراث الثقافي المصري». وردّ المجلس على واقعة المسرح الذي هوجم اثناء تكريم عائلات شهداء للثورة، بمدّ أصابع الاتهام مجدداً الى تلك «الخطة المنظَّمة لإثارة وقيعة بين الثوار والمؤسسة الأمنية». هي إذاً «المؤامرة»، ولم تكن مضت أيام على ما وصِف ب «زلّة الجمل»، حين اتهم نائب رئيس الوزراء المصري يحيى الجمل إسرائيل وأميركا بمد خيوط التآمر لتأجيج التوترات والصدامات الطائفية بين المسلمين والأقباط في مصر. فهل كانت مجرد زلّة أم هروباً الى الأمام، لمقاومة «المؤامرة» بالبحث عمن يفتعلها؟ ستمئة جريح في ساعات غضب! لم يَحُل ذلك دون تشجيع المشير على عدم تأجيل مباراة «القمة» بين الزمالك والأهلي، لأن الشعب لا يريد إسقاطها. وأما المشير نفسه فلم ينجُ من شعارات الميدان، بعد سيناريو اتهام المجلس العسكري بالتحالف مع جماعة «الإخوان المسلمين» لتعبيد طريق فوزهم في الانتخابات النيابية. قبل أيام قليلة من تظاهرات حاشدة قد تكون «مليونية» في الثامن من تموز (يوليو)، لمحاكمة تلكؤ المحاكمات والإصلاح، وقبل أيام من ذكرى ثورة 23 يوليو، لم تكن الشرطة وحدها محاصرة بالغضب، ولا المجلس العسكري، الذي يُعتقد بأنه يُزاوج الحذر والخطوات المتباطئة لإرضاء الشارع، من دون اقتياد مصر الى الفوضى. ويلخص بعض مَن ينأون عن عقل «الغضب»، بانوراما مسرح الثورة، بمعادلة مثلثة: - حكومة محاصرة بوابل من محاولات «الابتزاز»، في ظل استقطاب سياسي يتضخم. - عجز عن الإجابة عن السؤال: مَن يحقق أمن الدولة؟... فيما الشرطة فريسة للرعب من الانتقام، بعدما ظلت لعشرات السنين، الأداة الأولى الضامنة لصمت الشارع. - حرية إعلامية بلا أي ضابط، تستغَل لتصعيد الحملات على حكومة الثورة، بل كذلك ل «فتح شهية» المواطن للانتقام. ... ومع وطأة الفقر الذي لا تملك معه أي ثورة عصا سحرية، ينقلب الانتقام سريعاً الى رغبة جماعية في التخريب والتدمير. أما أفعى الفساد فاتضح جلياً ان قطع رأسها لم يُعِد الى الخزينة المصرية البلايين المهدورة، ولن يشيّد مصانع أو يتيح فرص عمل للملايين من الفقراء. كل مصري يدرك ان زبانية الفساد جيوش تبدّل أعلامها، ولكن ما لا يدركه سوى القلّة، هو ان ثورة الفقراء والشباب لا تعيش بمجرد إنتاج الشعارات في الميدان. ثورة 25 يناير باتت أمام معضلة تطهير الإصلاح من الانتقام الذي تتقلّب أشكاله بين الثأر «الطبقي» والسياسي والطائفي، وإذا استفحل سيجر الجميع الى «مؤامرة» الانتحار الجماعي. والانتحار هو بالتأكيد تدميرُ ما لمصر، باقتلاع كل ما كان قبل 25 يناير 2011 وسحقه. ليست دعوةً لشطب تاريخ تغييب الشعب، لكن ما حصل بين ميدان التحرير ومسرح البالون، لا تفسره طروحات «المؤامرة»، ولن يكون ذريعة مقنعة لاستعجال «التطهير» بالقصاص الثأري.