سبق أن تناولت مسألة البحث العربي في تاريخ العثمانيين في مقال قديم نشر في هذه الصفحة العام 2004. ولما كانت قد مرت مياه كثيرة في النهر منذ ذلك الوقت، فقد حان الوقت لقراءة جديدة اقتضاها واقع الحال في هذا المجال الخصب. بادئ ذي بدء، ينبغي التذكير بأن الباحثين والأكاديميين العرب قد اختزلوا منذ وقت مبكر البحث في تاريخ العثمانيين عبر الاستغراق في دراسة تاريخ بلادهم (العراق – الشام – مصر – شمال أفريقيا – الجزيرة العربية) تحت الحكم العثماني. ولم يقوموا – حتى الآن – بتوجيه اهتماماتهم البحثية بشكل كاف الى البحث في تاريخ العثمانيين أنفسهم. أصل العثمانيين/ من أين جاؤوا ومتى/ الحرب الأهلية العثمانية/ دور الأسطورة في تشكيل التاريخ العثماني/ التاريخ الديني/ الإسلام الصوفي والتدين الشعبي/ التاريخ الاجتماعي/ النقابات والطبقات والمؤسسات الحاكمة/ العلاقات المبكرة مع العالم الخارجي: البيزنطي الأرثوذكسي، واللاتيني الكاثوليكي والصفوي الشيعي والمملوكي السني...الخ، في ما خلا رسائل علمية وأكاديمية محضة لم يطبع معظمها حول العلاقات العثمانية بالعالم الخارجي حتى فتح القسطنطينية 1453. وربما كان ذلك هرباً من الوثائق المكتوبة باللغات العثمانية واليونانية القديمة واللاتينية. كما أغفل الباحثون العرب تقريباً الاهتمام بالعلاقات العثمانية الأوروبية في العصر الحديث. وهكذا انكب معظم الباحثين على تاريخ بلادهم تحت الحكم العثماني، مستعينين بسجلات المحاكم الشرعية، وكذا حجج الأوقاف والدفاتر، فضلاً عن الاستعانة بوثائق الأرشيف العثماني الذي قامت الحكومة التركية مشكورة بتطوير العمل به ومكننته بشكل يلبي حاجة جميع الباحثين في التاريخ العثماني على مستوى العالم كله. بالنسبة الى الباحثين العرب، يمكن القول بشكل عام أنه قد استمرت المراوحة بين ما يمكن تسميتهم تجاوزاً مؤرخي «القومية» ومؤرخي «الدين». وتجلى ذلك في توصيف جذور وأسباب الاستدارة العثمانية ناحية الإسلام «الشيعي» بالعراق وإيران، والإسلام «السني» في الشام ومصر. وأهم مظاهر ذلك هو الاختلاف الذي ما زال محتدماً حول مصطلحات تاريخية مشحونة بعواطف قومية ودينية على شاكلة الفتح/ الغزو/ الاحتلال...الخ. وهي في تصوري مسألة خلافية لن يتم الحسم فيها، ولا ينبغي أن يكون. إن للظواهر التاريخية قراءاتها ووجوهها المختلفة والمتنوعة، ناهيك باختلاف زوايا التناول نفسه، فضلاً عن التذكير المطلوب بخرافة الحياد لدى المؤرخ الحقيقي. والحقيقة أن تناول التاريخ المحلي للأقطار العربية تحت الحكم العثماني لهو مسألة في غاية الأهمية من أجل سبر أغوار تلك المرحلة. والبحث عن النتوءات التاريخية الجديدة في تاريخ تلك الأقطار عبر قياس وتنوع الفوارق بين حالتها وقت السيطرتين المملوكية والعثمانية. ومدى صدق اختبار إيجابية الفترة العثمانية بوصفها مثلت حاجزاً بين سقوط تلك الأقطار في براثن السيطرة الأوروبية. فمن المثير دراسة كيفية تطور مؤسسات الحكم والدين والثقافة والمجتمع تلك الفترة. ثم موقف الدولة العثمانية من ذلك كله بعد محاولات تكررت أكثر من مرة للانسلاخ من التبعية لعل أشهرها ما قام به محمد علي في مصر. وعلى رغم ذلك، يرى الباحث أن هناك الكثير من الجهد المطلوب من جانب الباحثين العرب. إذ يجب عليهم، لاعتبارات علمية عدة، التوغل في دراسة التاريخ العثماني بشكل علمي محكم كما فعل باحثون كبار من أمثال إينالجيك وفاروقي وكوارترت وأمجان وباموق وغيرهم. وهو المجال الذي لا زال ينقص المكتبة العربية نظراً لتكاسل جل الباحثين العرب عنه. على أنه يجب التذكير بأن أحد أسباب ذلك النقص إنما يقع أيضاً على عاتق كبار الباحثين الأتراك في القرن الماضي، لأن الموجات الأولى من الباحثين العرب الى الجامعات التركية قد تم توجيهها منهم الى ما يمكن تسميته بدراسة العلاقة بين المركز والأطراف. بين الدولة العثمانية والأقطار العربية. وهو ما دعا معظم هؤلاء الباحثين فيما بعد الى الاستغراق في التاريخ المحلي لدولهم. ومما ساعد على عدم اطلاع معظم الباحثين العرب على الكم الهائل من الكتب والدراسات العلمية الجادة التي قام بها المتخصصون والباحثون الأتراك حول تاريخ الدولة العثمانية وعلاقاتها بالدول الأخرى هو عدم معرفتهم باللغة التركية الحديثة، ناهيك باللغة العثمانية نفسها. والملاحظ في الأمر أن حركة الترجمة العربية تجاهلت - إلا قليلاً – تعريب تلك الدراسات التاريخية التركية الرصينة للاستفادة منها. وبدلاً من ذلك تمت ترجمة العديد من الكتب التي تتمحور حول الدعاية للدولة العثمانية أكثر من كونها أعمالاً علمية جادة. وهو الأمر الذي جذب شريحة من القراء والمثقفين العرب للولع بتاريخ العثمانيين بسبب جملة من الأسباب السياسية والمجتمعية الواضحة. على أنه يبقى أن الأعمال الرصينة الأولى التي أنتجها باحثون كبار مثل محمد حرب وأحمد عبد الرحيم مصطغى وعبدالرحيم عبدالرحمن وعبد الكريم رافق وعبد الجليل التميمي ونيللي حنا ومحمد الأرناؤوط و محمد عفيفي وعبد الرحيم بن حادة وغيرهم، ما زالت بفضل جديتها تمثل سقف اقتراب البحث العربي من التاريخ العثماني. وهو السقف الذي لم يتجاوزه تلاميذهم بعد. ولا شك أن الاحتقان السياسي في السنوات الأخيرة قد ألقى بظلاله الوخيمة على التناول العربي المعاصر لتاريخ العثمانيين. وعلى رغم ما تمت الإشارة اليه سابقاً من عدم توغل الباحثين العرب في التاريخ العثماني الحقيقي، فإنهم قد انقسموا في الغالب الى قسمين كبيرين سقطا معاً فريسة للأيديولوجيا التي تفرغ البحث العلمي الحقيقي من مضمونه. ولا يمكن أيضاً الباحث المتمرس إغفال حقيقة وجود تيار جديد من الباحثين العرب في التاريخ العثماني، قوامه العديد من الشباب العربي المحبط من واقع أمته، والمتطلع الى تحقيق إنجازات على مستوى بلاده ومؤسساته تمكن الأتراك، أحفاد العثمانيين، من تحقيقها بالفعل في العقود الأخيرة. ويتألف هذا التيار الجديد من قسمين أيضاً يمكننا أن نطلق عليهما – تجاوزاً – تيار «المحترفين» و تيار «الهواة». التيار الأول يمثله خريجو أقسام التاريخ وأقسام اللغات التركية بالجامعات العربية. ويتلمس طريقه محاولاً تجنب الوقوع في ثنائية القومي/ الديني. وإن كانت خطواته الأولى تشير الى أنه لن يستطيع تفادي تلك المسألة بسهولة. والمتابع بعض أعمالهم يمكنه أن يلحظ بوضوح غياباً لبعض قواعد منهج البحث التاريخي، والاكتفاء بالنهل من المصادر العثمانية من دون إخضاعها للسياق الذي كتبت فيه، ومن دون اعتبار لقرب المؤرخ من دوائر السلطة والحكم وعدم إخضاعها للتحليل والنقد. فضلاً عن عدم مقارنتها بما ورد في المصادر الأجنبية المعاصرة. بينما جاء التيار الثاني من هؤلاء الباحثين من خلفيات أخرى غير تاريخية. غير أن أفراده يقومون بتثقيف أنفسهم بشكل ذاتي عبر القراءة المتعمقة في التاريخ العثماني، انطلاقاً من خلفية دينية تداعبها أمجاد قديمة يستحثون الخطى نحو إعادة بعثها مجدداً. ويبحثون عن لم شمل المسلمين تحت راية خلافة جديدة فيما يرون. وكثيراً ما يقع هذا التيار في المحظور فيخلط – بغير وعي أو بوعي منقوص – بين الدين الإسلامي «المقدس» وبين تاريخ المسلمين «البشري». وعبر استخدام ميكانيزم دفاعي يرى أنه محكم، يقوم بالرد على أصحاب تيار القراءة «القومية» للتدخل العثماني في الأقطار العربية بوصف الأخير بأنه كان منحة من السماء، رافضاً الاعتراف بأية مثالب للحكم العثماني. وهذا التيار في تصوري البسيط نتاج واضح لواقع عربي مأزوم يتم الترويج له باعتباره إفرازاً لقوى وتيارات كانت في الأصل مناهضة للعثمانيين في المنطقة العربية. وينشط هذا التيار على حافة البحث التاريخي، وعبر المواقع الالكترونية بشكل واسع باعتبارها ساحة واسعة للإفلات من أسر التقاليد الأكاديمية الصارمة. ومن نافلة القول التذكير بأن هناك ما يمكن تسميته ب «الهوى العثماني» الذي يجتاح المنطقة العربية حالياً. إذ يعتقد الكثيرون بالحاجة الى تمثل خطى الأسلاف الذين أنشأوا دولة عالمية امتدت في ربوع العالم القديم منذ ما قبل اكتشاف الأمريكتين. وحافظت على أقاليمها لقرون عديدة، فضلاً عن أنها قد حمت بيضة الدين وأدخلت الملايين الى الإسلام. يساعد على ذلك الهوى حالة الإحباط العربي كما سلف القول، وكذا حالة الصعود التركي الذي يعرف كيف يستخدم أوراقه التاريخية، وظلالها الدينية جيداً. وهو ما تجلى في استخدامه الدراما التاريخية كقوة ناعمة في المجالين العربي والإسلامي. ولعلنا نعرف جميعاً الإشكالية الموجودة لدى المتلقي والمشاهد العربي الذي عوّده الإعلام منذ زمن قديم على الخلط بين «التاريخ» و «الدراما التاريخية»، فصار المواطن العادي يستمد ثقافته التاريخية من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية. الأمر الذي جعل الملايين من العرب يقعون في غرام تصديق الهالة الأسطورية حول أرطغرل، والد عثمان مؤسس الدولة العثمانية، بحسبان أن ما يشاهدونه تاريخاً قد حدث بالفعل. وهو في الحقيقة - بمقياس البحث العلمي - لا يمثل شيئاً ذا قيمة تاريخية أو علمية جادة. إذ تتصف المصادر التاريخية المعاصرة لأرطغرل بالشح الشديد، ولا يعدو ما ورد فيها عن حياته وأعماله سوى سطور قليلة للغاية لا تشفي غليل المؤرخ الحقيقي الذي يتصف عمله بالصرامة الأكاديمية. ولا يمكن أن تتمدد الى مئات الصفحات والحلقات إلا في خيال المؤلف الدرامي وحده.