تَرَقَّبَ الباحثون العربُ والأتراكُ بلهفةٍ وشوقٍ انعقادَ «المؤتمر الدولي للجغرافية العربية في العهد العثماني والعلاقات العربية - التركية»: على أملِ إنصافِ سَلطنةِ الْخِلافة الإسلامية العثمانية، وتصحيحِ ما أفسَدَتْهُ الْمَناهِجُ المدرسيةُ الْمُسيسة في فترة القطيعة بين العثمانين، ومَنْ جاءَ بعدَهم مِن العرب والترك خِلال القرن الماضي تحت تأثير المؤثرات الإمبريالية الغربية والشرقية الصفوية والشيوعية المعادية للخلافة الإسلامية العثمانية. وفعلاً عُقِدَ المؤتَمَرُ، واستمرَّ ثلاثةَ أيامٍ ابتداءً من يوم الثلاثاء 26 أيار (مارس) 2009. وقدَّمت الدولةُ التركيةُ أفضلَ ما يُمكنُ أنْ تُقدِّمَهُ دولةٌ من الدُّولِ لإنجاح مؤتمرٍ من المؤتمرات، فسخَّرت كُلَّ الإمكانات المادية والمعنوية لإنجاح المؤتمر، وتجلّى هذا الدورُ المسؤول في رعاية المؤتمر، وحضور الحكومة الجلسة الافتتاحية ممثَّلَةً بالوزير العالم العامل محمد آيدن الذي تحدَّث بمسؤولية عن التاريخ المشترك للعرب والأتراك وغيرهم في ظلِّ السلطنة العثمانية داعياً إلى المزيد من المؤتمرات العربية التركية لتصحيح الصُّورِ المغلوطة التي خلَّفها قرنٌ من تشويه التاريخ المشترك للشعبين الشقيقين العربي والتركي، وغيرِهما من شُعوب السلطنة العثمانية، وقد بعَثَتْ كلِمةُ الوزير محمد آيدن الأملَ في نفوس المخلصين من الحضور الذين تَجَشَّمُوا عَناءَ السَّفرِ لِحُضُورِ المؤتَمَرِ الموعود، وأثارتْ كلماتُ الوزير الحماس لِطَيِّ صفحاتِ الماضي التي مازالت تُشوِّهُ التاريخَ العثمانيَّ الذي بناهُ الأجدادُ النُّبلاءُ من الأتراك والعرب، وتَشكَّلَ لدى الحضور أملٌ بهذا المؤتمر ظناًّ منهم أنَّ كلمة الوزير هي فاتحة برنامج عَمَلٍ تُجسِّدُها أوراقُ المؤتمر إياه، ولكنَّ الآمالَ خابتْ مُنذ الجلسة الأولى التي أعقبت الجلسةَ الافتتاحية، واكتملت الخيبةُ في الجلسة الختامية. أما كلمة أكمل الدين إحسان أوغلو فكانت سرداً لمنجزات «مركز أرسيكا» الذي ترأسه سابقاً ومازال يعمل بتوجيهاته منذ أكثر من ربع قرن من الزمن، وتموله منظمة المؤتمر الإسلامي بموازناتٍ سخيّة، وتضمَّن حديثُ إحسان أوغلو ذكر أسماء الكُتُب التي طبعها المركزُ وشارك إحسان أوغلو بكتابة بعض مقدماتها، أو بتأليفها، كما تحدَّث عن مكتبة المركز التي تضمُّ الكثير من الكتب المتنوعة اللغات، ودعا إلى المزيد من المؤتمرات غير أنه لم يتطرق في شكلٍ مماثلٍ لمنجزات المؤسسات الأخرى في مجالات البحث العلمي في الشؤون العثمانية ولا سيما مُنجزات أبناء البلدان العربية ومؤسساتهم. وتحدَّثت عميدةُ جامعة مرمرة نجلاء بور باعتبار الجامعة هي إحدى الجهات المنظمة للمؤتمر بالتعاون مع جمعية باحثي إفريقيا والشرق الأوسط في تركيا «رداف» وقامت بتوجيه الشكر للجهات التي رعت المؤتمر أيضاً، وهي رئاسة الوزراء التركية، ورئاسة بلدية اسطنبول الكبرى، ودائرة التاريخ التركي، وإدارة النهضة والعمل التركية المتحدة «تيكا». ثم تحدَّث كمال قَرباط عن هويات الترك والعرب في الماضي والحاضر، فأشار إلى النِّقاط الإيجابية في التاريخ المشترك بين الشعبين، ودعا إلى تجديد ما سلف من حُسن التعاون، وطي صفحات الإهمال الْمُتَبَادَل الذي ساد خلال القرن الماضي، ومازالت ذيوله مستمرةً. وأعقب ذلك توزيعُ الهدايا التذكارية على بعض المشاركين في المؤتمر، ثم رُفعت الجلسة، ولم تُتحْ للمُشاركين فرصةُ المناقشة، وهذا مقبولٌ في جلسات افتتاح بعضِ المؤتمرات، ولاسيما في دُول العالمين العربي والإسلامي. وتميَّزَ المؤتمرُ بحضورٍ عربيٍّ شبه مُوازٍ للحضور التركيّ قوامُهُ العشراتُ من المؤرخين وغير المؤرخين، وتضمَّنَ برنامج المؤتمر أسماءَ اللجنة العلمية المكونة من عشرة باحثين أتراك ليس بينهم أحدٌ من العرب، وهذا مناقِضٌ لعنوان المؤتمر القائم على العلاقات العربية - التركية المشتركة في العهد العثماني، وعلى العلاقات في الزمن الحاضر، وما يُنتظرُ من علاقةٍ نديّة مستقبلية مفيدة للأمَّتين التركية والعربية، ولو كان أعضاء اللجنة العلمية مِمَّن يُتقنون اللغتين العربية والتركية لكانَ الأمرُ مقبولاً، وأكبرُ دليل على جهلهم باللغة العربية برنامج المؤتمر إذ أن ما تضمَّنه من أخطاء إملائية باللغة العربية أقوى دليلٍ على أن أعضاءَ اللجنة التحضيرية واللجنة العلمية لم يكتشفوا تلك الأخطاء التي لا تخفى على طلاب المدارس الابتدائية، وتدارُكُ هذا النقص يتطلَّبُ الاستعانة بالذين يُتقنون اللغتين التركية والعربية من العرب والأتراك لكي يُكَمِّلَ كُلُّ فريقٍ منهما الفريقَ الآخر حيث لم يَعُدْ لدينا في العصر الراهن عمالقة كالذين أنجبهم العهدُ العثمانيُّ من أولئك الذين كانوا يكتبون الشِّعر والنثرَ باللغات الثلاث التركية والعربية والفارسية، أمثال إمام الثقلين ابن كمال باشا، وطاشكوبري زاده، ومستقيم زاده، وراغب باشا صاحب سفينة الراغب المطبوعة في بولاق باللغات الثلاث. بعد استراحة قصيرة غادر كبار الزوار مقرَّ المؤتمر، وعُقِدَت الجلسةُ الأولى بحضور جمهور لم يرقَ عددهُ إلى نصفِ عددِ جمهور الجلسة الافتتاحية، ومُعظمه من طلاب كلية التاريخ في جامعة مرمرة. وشهدت هذه الجلسة تقديم أربع محاضرات حول الدراسات العثمانية في البلدان العربية لكلٍّ من عبد الجليل التميمي من تونس، الذي انتقد تجاهُلَ لجنةِ تحضر المؤتمر لجهود الباحثين العرب، واستغرب غياب كبار المؤرخين العرب والأتراك ممَّن لهم أيادٍ بيضاء في مجالات التاريخ العثماني ، وتحدث أيضاً عبد اللطيف الحميد من السعودية، وسيد محمد السيد، وتحدث فاظل بيات عن فكر سويله مَز أوغلى، وفوجئ الحضور برفع الجلسة من دون السَّماح للجمهور بتوجيه الأسئلة أو نقد ما قدَّمه الباحثون، وقد برَزَ في المحاضرات اتجاهان مُتناقضان يُمثِّل أفضلُهُما الاتجاه الداعي إلى إحياء الجامعة الإسلامية التي أرسى أُسُسَها عُلماءُ الخلافة الإسلامية العثمانية، ومثَّل الاتجاهَ الآخر المدافعون عن الاتحاد والترقي بطريقة ملتوية لتحميل السلطنة والخلافة العثمانية مسؤولية ما ارتكبه الاتحاديون من جرائم زرعت الفرقةَ بين العرب والأتراك، ولعلَّ مَنْعَ الجمهور من المناقشة كان لغايةٍ في نفوس الذين مازالوا يؤيدون القطيعةَ باطناً، ويدَّعون الدعوةَ إلى التقارب والتواصل ظاهراً. استمرَّ المؤتمرُ يوم الأربعاء 27/5/2009، فعُقدت أربعُ جلسات تمحورت حول العهد العثماني في الدراسات التاريخية اللبنانية، ومهنة التاريخ وتكوين الهوية، وتحول اللبننة ضِمْن السياق العثماني، والعلاقات العربية - التركية بين الإرث العثماني وتحدِّيات القراءات التاريخية المعاصرة، ثم جرى الحديث حول أثر الخلافة الإسلامية في العلاقات العربية - التركية في العهد العثماني. وتمحورت الجلسةُ الثانية حول أوضاع اليمن تحت الحكم العثماني (1538-1635) وما شهده من سَلام وصِدام، والإدارة العثمانية والتنمية في اليمن (1289-1336 ه/ 1872-1918م)، وأوضاع ميناء سواكن بحسب رؤية القائم مقام نور الدين بك (1851-1856م). ومظاهر التعاون المشترك بين السلطنة العثمانية والدُّوَل الإسلامية في شرق إفريقيا. وتضمَّنت الجلسةُ الثالثةُ أربعة أوراق تمحورت ثلاثٌ منها حول أدب الرحلات، فكانت الأولى حول الرحالة المغاربة وتحول صورة العثمانيين في الخيال المغربي ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، والثانية حول البُنية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية في المنطقة العربية أثناء العهد العثماني من خلال ما تضمَّنتهُ رحلةُ عبد الباسط الظاهري، والثالثة تحت عنوان: «إسطنبول في أعين ثلاثة من الرحالة العرب»، وجاء مسك ختام هذه الجلسة بمحاضرة سُهيل صابان، وعنوانها: سياسة الباب العالي نحو العشائر في الحجاز – الجزيرة العربية: عُربان حَرْب نموذجاً (1861-1909) من خلال وثائق الأرشيف العثماني، ومن المعلوم أن سهيل صابان هو من أشهر مُترجمي وثائق الأرشيف العثماني إلى اللغة العربية، ومن أكثرهم إنتاجاً. وبدأت الجلسةُ الرابعةُ بمحاضرةٍ حول تحوُّلِ سُورية من الفوضى إلى الاستقرار في بداية عهدِ أمير المؤمنين السلطان عبد الحميد الثاني، وتَلَتْهَا ورقةٌ بعنوان: تأسيس الإدارة المركزية العثمانية في العراق خلال القرن التاسع عشر؛ الموصل نموذجاً. وتلتها رؤيةُ الاستشراق الجديدة حوْل الإدارة العثمانية للعراق في القرن التاسع عشر، واختُتِمت الجلسةُ بدراسات حول العَلاقات العربية – الأوروبية في العهد العثماني؛ ليبيا نموذجاً. وعُقدت أربعُ جلسات يوم الخميس 28/5/2009م، فبَدَأَ الجلسةَ الأولى سيار الجميل بالحديث حول تجربة التعايش العثماني المشترك بين العرب والأتراك: رؤية في مبادئ الملَّة العثمانية، والمفردات بين الدولة والمجتمع، وجاءت الثانية حول اهتمام الدولة العثمانية برعاياها في القرن السادس عشر، والثالثة حول العلاقات المصرية - العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، واختُتِمت الجلسةُ بمحاضرة عزة بنت عبد الرحمن بن محمد شاهين حول كسوة الكعبة والحج وما لهما من دور في ترابط الإيالات العربية في العهد العثماني. وبدأت الجلسةُ الثانية بالحديث حول المؤسسات العلمية والاجتماعية في المدينةالمنورة في القرن السادس عشر، ودار الحديث الثاني حول صُوَرِ آثار العِلم العثماني في إيالة الأحساء السعودية 1550-1637م، وتلى ذلك تساؤُلٌ حول جامع مُراد آغا؛ هل كان رِباطاً للجهاد؟ واختُتِمت الجلسةُ بالحديث حول أهميةِ التراث المعماري وإعادةِ تأهيل قصْرِ إبراهيم بالهفوف نموذجاً. وبدأت الجلسةُ الثالثة بملاحظات حول مُعطيات المصادر العثمانية المدوَّنة الخاصَّة بالقُدس والمدن الفلسطينية. ثم تحدَّث محمد صالحية حول السياسات والإجراءات في نوبة متصرِّف القُدس أكرم بك من خلال مَلَفِّهِ المحفوظ في «الأرشيف الإسرائيلي»، وتلاه حديثٌ حول نهضة مدينة يافا الفلسطينية في الرُّبع الأخير من القرن التاسع عشر، واختُتِمت الجلسةُ بِمُذكَّراتِ شابٍّ عثماني عن حياته في اليمن والحجاز والشام وإسطنبول. وامتازت الجلسةُ الرابعةُ بمحاضرتين قَيِّمَتَيِنِ، قدَّمَ الأولى منهما المستشارُ أمرالله إشلَر تحت عنوان: الاجتماع الذي عُقِدَ بين زُعماء الاتحاد والترقي والزُّعماء العرب في إسطنبول سنة 1913، وأنعكاساته الصُّحافية، واستشهد بوثائق نُشرت في صحافة تلك الفترة، وقدَّم المحاضِر تصوراً لواقع الصَّحافة العربية والعثمانية حينذاك وما نشرته من آراء حول مشاعِرِ كُتابِها من العرب والأتراك. وقدَّم المحاضرة الثانية سليمان بك أوغلى تحت عنوان: النقطة الأخيرة في العلاقات العربية - العثمانية؛ ومغادرة المدينةالمنورة، وما تبع ذلك من تراجع في العلاقات بين العرب والأتراك. ثم تحدث زكريا «كورشون» (ومعنى كورشون: رَصَاص) فكان كلامه حول الجمعية الإسلامية الخيرية ونشاطها لتطوير العلاقات التركية - العربية قبيل الحرب العالمية الأولى. وفجأةً أُخليت الطاولةُ لزكريا كورشون من قِبَلِ رئيسِ الجلسة والمحاضرين، فأعلنَ بِدء الجلسة الختامية من دون أن يسمَحَ بمناقشة مادارَ في المحاضرات، وبدأ باستدعاءِ بعض المحاضرين بحَسْبَ قائمةٍ انتقاها مُسبقاً بحسب هواه، وطلب منهم تقديم مقترحاتهم وتوصياتهم من دون أن يفسح المجال لأحدٍ من الحضور، مما أثار السُخط، ووجَّه عبد الجليل التميمي في مداخلته نقداً للمؤتمر بخصوص غِياب كبار المؤرخين العرب والأتراك الذين لهم أيدٍ بيضاء وبحوث أنصفت العثمانيين، ولما طُلِب من سيار الجميل الحديثُ امتنع ابتداءً ولكنه وافق على الكلام جرَّاء إصرار كورشون، ووجَّه نقداً للمؤتمر وقدَّم توصيات هدفها تلافي ما حصل من أخطاء، وامتنع كمال الفيلالي أيضاً عن الكلام، وبرَّر امتناعه بعدم حُبِّه لمنابر الخطابة، وهكذا جاءت نهاية المؤتمر مُذكرةً ببدايته من حيث دكتاتورية رؤساء الجلسات، وحِرمان الجمهور على قِلَّته من حُقوق المشاركة بالأسئلة وتوجيه النقد والتوصيات لإغناء المؤتمر فكراً وتنظيماً. وقد أورثت هذه التصرفاتُ غير اللائقة خيبةَ أملٍ لدى المنصفين من الباحثين، واتَّضَحَ أنَّ الصراع التناحُريّ ما زال مستمراًّ بين أنصار الجامعة الإسلامية العثمانية، وتيار الاتحاد والترقي ورَدِيْفاتِهِ من الحركات السرية، ومازال أعداء الجامعة الإسلامية العثمانية يدسُّون السُّمّ في الدَّسم مُتسترين بستارٍ زائف من الموضوعية الوهمية والأكاديمية الخيالية. وهكذا برزت ضرورة عقد مؤتمرات دورية برعاية لِجان مُشتركة موسَّعة منعاً للاستغلال الأناني الرخيص الذي يضيع الفائدة المرجوة من هذه المؤتمرات العالمية.