كانت فرصة طيبة أتاحها لنا برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة بدعوته شخصيات من أنحاء شتى من العالم ليحكوا لنا التجارب التي خاضوها خلال مراحل الانتقال إلى الديموقراطية. قليلون بين الكثيرين المهتمين هذه الأيام بقضايا الثورات العربية ومراحل الانتقال إلى الديموقراطية يعرفون ما فيه الكفاية عن تجارب دول أخرى مارست هذه العمليات. كان من حسن الحظ أن جماعة من الباحثين والراصدين أنتمي إليها اهتمت منذ سنوات بقضايا الإصلاح السياسي في أميركا اللاتينية، وبالفعل شارك بعضنا في مؤتمرات لاتينية عربية مشتركة عقدت في القاهرة وفي منتجع البتراء في الأردن ثم في سنتياغو عاصمة تشيلي. بعض آخر في جماعتنا ركز اهتمامه على ثورات الزهور التي نشبت في أوروبا الشرقية على الحكم الشيوعي والهيمنة السوفياتية، وبعدها واصل اهتمامه بالمراحل التي توالت في أعقاب هذه الثورات وتابع مختلف الجهود والمحاولات التي بذلت لإدخال إصلاحات سياسية تضمن للمواطن الروماني أو المجري أو غيره من مواطني دول أخرى في أوروبا الشرقية والقوقاز سرعة التعرف الى الحرية الشخصية والمشاركة السياسية والكرامة الإنسانية، باعتبار أن مختلف أجيال هذه المناطق لم تعرف معنى الحرية ولم تمارسها من قبل. كان «منتدى القاهرة» الذي نظمه برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة فرصة لا تعوض لأستمع عن قرب إلى رئيسة جمهورية تشيلي السابقة ميشيل باشيليت وهي تقدم حصراً بالدروس المستفادة من تجربتها الشخصية خلال المراحل المبكرة للعمليات الانتقال في تشيلي إلى الديموقراطية. وبالتأكيد لن يتسع المجال هنا للإفاضة في إعادة سرد هذه الدروس والتعليق عليها من واقع مشاهداتي الشخصية في تشيلي أو في غيرها من دول أميركا اللاتينية. لذلك اخترت أن أبرز في ما يأتي نقاطاً قليلة ومحددة أشعر بأهميتها بالنسبة الى أوضاع كثيرة قادمة في عدد من الدول العربية، وبخاصة تلك الدول التي خطت الخطوة أو الخطوات الأولى نحو الديموقراطية خلال مرحلة نسائم الربيع العربي. تقول باشيليت إنها قبل أن تُستدعى لتولي منصب وزيرة الصحة بعد سقوط الفاشية العسكرية كانت قد أدركت ضرورة نشر أفكار الديموقراطية في أوساط الجماهير العادية، أي في الريف ومواقع العمل الصناعي والتعديني، وأدركت أيضاً أهمية أن تنزل هذه الجماهير إلى الشارع، ينزلون كمحتجين ومعترضين وليس كمستهلكين ومتفرجين، وأهمية أن يدور حوار متواصل مع منظمات المجتمع المدني. تقول إنه لا بد أن تعرف النخبة المدنية الوطنية أن الناس يتوقعون أن تقدم الديموقراطية لهم حلولاً وخدمات ترفع من مستوى معيشتهم وإلا فقدوا الثقة فيها وفي الدولة المدنية وتخلوا عنهما. ولا بد في الوقت نفسه أن تكون الديموقراطية عادلة، بمعنى أنه عندما يتقرر تقديم مسؤولي عهد الاستبداد للمحاكمة يجب أن يكون مفهوماً أن العدالة لا تعني الانتقام، لسبب بسيط هو أن الديموقراطية لا تعرف الانتقام، ولا يجوز أن تضع الثورات الانتقام بنداً رئيساً من بنود الحوار الديموقراطي. الانتقام هو أكبر أعداء الديموقراطية ولا يمكن أن يكون أداة من أدوات الوصول إليها. لهذا السبب أقيمت في تشيلي لجنة «الحقيقة» التي بفضلها تصالح الشعب مع نفسه ومع العسكريين الذين انتهكوا حقوقه وحرياته. خلال إنصاتي الى حديث رئيسة تشيلي السابقة عادت بي الذاكرة إلى تفاصيل كثيرة عن أساليب حكم الدكتاتور العسكري الذي حكم تشيلي بالحديد والنار واكتوى من أعماله الوحشية أصدقاء لي وعائلاتهم. تذكرت كيف سمح له المدنيون من الثوار الاستمرار في منصبه قائداً عاماً للقوات المسلحة لبضع سنوات بعد إعلان سقوط النظام العسكري ولكن بعد سحب كافة سلطاته وامتيازاته. جاء هذا القرار نتيجة مفاوضات طويلة جداً مع قوى متعددة في تشيلي بهدف ضمان الانتقال السلمي والهادئ نحو الديموقراطية. تذكرت أيضاً زيارتي الأخيرة الى تشيلي عندما قابلت بعض قيادات النظام السابق في مكاتبهم يمارسون منها العمل كالمعتاد. كانت الإجابة على أسئلتي المعبرة عن حيرتي كالإجابة التي كررتها الدكتورة باشيليت في القاهرة، وهي أن أحد أهم الدروس المستفادة من تجربة الانتقال الى الديموقراطية هو أن البيروقراطية تبقى المعقل الأقوى لفلول الدكتاتورية ونفوذها، وأن الانتقاليين يجب أن يستعدوا لمفاوضات قد تستمر عقدين أو ثلاثة لتحرير العقل البيروقراطي من هيمنة التراث الاستبدادي الذي يخلفه الحكم العسكري، ناهيك عن ميل الشخصية البيروقراطية للاستبداد. درس آخر مهم من دروس تجارب الانتقال إلى البيروقراطية التي جرت في أميركا اللاتينية هو ضرورة تلاحم القوى المناهضة للاستبداد والمؤيدة للحريات باعتبار أن تفتيت هذه القوى وإثارة الخصومات بينها يشجع العناصر غير الديموقراطية الموجودة في الحكم، سواء كانوا من العسكر أو من المدنيين. لا سبيل أمام الثوار لينجحوا في تثبيت انتصارات الخطوات الأولى والانتقال إلى الحرية إلا بالتكاتف وتأجيل الخلافات وتحديد هدف مشترك واضح تجتمع حوله كافة فصائل الثورة وتياراتها الوطنية. ولم يفت باشيليت التأكيد على أن الواجب الأول للأحرار هو وضع مبادرة دستورية عامة تكون أساساً لمفاوضات، ستكون بدورها طويلة الأمد، مع المؤسسة العسكرية، ويكون شرط الثوار أو القوى الإصلاحية واضحاً، وهو أن تقبل المؤسسة العسكرية بهذه القواعد الدستورية العامة وتتعهد بالخضوع لها بالدرجة نفسها التي سيخضع بها المجتمع المدني والشعب بأسره. ما قد لا يعرفه كثيرون في عالمنا العربي عن تجارب أميركا اللاتينية في الانتقال إلى الديموقراطية والتقدم الاجتماعي والاقتصادي أنها ركزت جميعاً أول ما ركزت على العلاقة بين المدني والعسكري. كان لا بد أن يتسامح المدني مع الماضي الطويل الذي جلب الخراب والدمار وعطل مسيرة التقدم في أميركا اللاتينية بينما كانت دول أخرى في آسيا تتقدم. وكان لا بد أيضاً أن يستعد العسكر للانسحاب من الواجهة السياسية ويقبلون بعقد اجتماعي واقتصادي وسياسي جديد مع المجتمع، أول بنوده أن يخضع العسكر لإرادة السلطة السياسية المدنية المنتخبة بحرية وفي ظل شفافية مطلقة. لم يكن سهلاً، بل كان صادماً لنا هنا في الشرق الأوسط في ذلك الوقت، أن نرى طبيبة أطفال اسمها ميشيل باشيليت تعرضت للتعذيب في سجون الحكام العسكر وهي ابنة ضابط مات تحت التعذيب في السجن حين كانت في العشرينات من عمرها، نراها تصر على أن تتولى منصب وزيرة الدفاع، أي المنصب الذي يراقب وينظم شؤون العسكريين وتخرج منه إلى منصب رئيسة الجمهورية. عندها تأكدنا وتأكدت أميركا اللاتينية بأسرها من أن أكبر عقبة على طريق الديموقراطية في تشيلي تم تجاوزها. أخيراً أصبح الجيش في أميركا الجنوبية خاضعاً لسلطة مدنية. أتفق مع باشيليت رئيسة جمهورية شيلي سابقاً ومع بشار الدين يوسف حبيبي رئيسة جمهورية إندونسيا سابقاً، وكلاهما خطا ببلاده الخطوة الأولى نحو الديموقراطية بعد عهد طويل من استبداد مريع وفساد هائل، عندما قالا أن كل تجربة لا بد أن تختلف عن التجربة الأخرى، لأن ظروف كل بلد تختلف عن ظروف البلد الآخر، ولكن عندما تستمع إلى تفاصيل ما مر به كل منهما تزداد ثقة بأن المبادئ العامة التي تحكم عملية الانتقال نحو الديموقراطية، مثل الفصل بين المؤسسة العسكرية وقوى الأمن الداخلي ونزع روح الانتقام من الدعوة إلى العدالة، وخضوع كافة قوى المجتمع للقانون والقيادة السياسية المنتخبة، هذه وغيرها مبادئ عالمية لا يمكن اجتزاؤها أو التغاضي عن بعضها بحجة خصوصية الثقافة أو الدين أو الأمية أو التقاليد. * كاتب مصري