قرب قلعة صيدا البرية الواقعة ضمن نطاق المدينة القديمة داخل «حارة عودة»، يلفت نظر الزائر وجود منزل قرميديّ قديم من حجارة العقد يرقى إلى القرن السابع عشر. هذا المنزل التراثي أمسى منذ سنوات خلت متحفاً فريداً من نوعه يجمع كلّ ما يتعلّق بصناعة الصابون القديمة والتي اشتهرت بها مدينة صيدا الساحلية اللبنانية منذ أقدم العصور. وبعد إزالة أسوار القرون الوسطى في نهاية القرن التاسع عشر، شيّد آل عودة منزلاً فوق معمل عتيق للصابون اليدوي. وقد آثر ريمون عودة العمل على استنهاض الماضي المجيد لهذه الصناعة القديمة فتمكّن، وبعد مثابرة وجهد سنوات من العمل والتنقيب والترميم، من إقامة «متحف صابون» يروي حكاية صناعة الصابون في المنطقة الممتدة من حلب في سورية إلى نابلس في فلسطينالمحتلة، ويبيّن في الوقت ذاته «طقوس الحمام الشرقي» ومستلزماته. تحت المنزل القرميدي المعقود من القناطر الحجرية الجميلة، يقع المتحف الذي نلجه عبر باب كهربائي يفضي إلى جسر خشبي يعطينا «بانوراما» سريعة عما في الداخل. كل شيء مرتب بأناقة وذوق، إذ تعكس الإضاءة الجيدة والجدران الأثرية العناصر الجمالية لهكذا متحف مميز. على يمين المدخل تنتشر «المصابن»، أي الأجران الحجرية المربعة الشكل. وأول ما يطالعنا عينات علّقت على الجدار في مستوعبات زجاجية بطريقة موفقة، وهي تضم المواد الأساسية لصناعة الصابون (الزيت والقطرون والعطر وعشنان القلي والغار). السكينة تسود أروقة المتحف، وبينما يقودنا الدرج الخشبي إلى الطابق السفلي نعاين الأجران الحجرية التي توضع فيها «الخلطة» اللازمة ثم تُغلى في فرن حجري يعمل على الحطب. وقد كتب على الحائط تفصيل لكيفية اكتشاف الصابون: كانت امرأة تجلي أوعيتها بالدهن والرماد، فتشكّل لديها ما يشبه الصابون اليوم. وقد وُجد الصابون من أيام السومريين في بلاد ما بين النهرين وفق نصوص مسمارية تعود إلى 3000 ق.م. حيث ازدهرت صناعته بسبب إنتشار أشجار الزيتون، خصوصاً أن نبتة «القطرون» التي يستخرج منها رماده تكثر في البوادي وبالتحديد في السلط الأردنية وتدمر السورية. واشتهر صابون صيدا خلال القرن السابع عشر حيث كان يصدّر إلى أوروبا، وبعضهم ينسب أصول صابون مدينة مرسيليا الفرنسية المعروف إلى صابون الشرق الأوسط. تم شراء متحف الصابون عام 1880 من قبل عائلة عودة التي أبقته معملاً للصابون لتلبية حاجات السكان الموجودين في لبنان والحمامات البعيدة، مثل: حمام المير، وحمام الورد، وحمام السبع بنات، وحمام الشيخ، والحمام الجديد التي كانت قائمة في المدينة وقتها. اشتهر المتحف بوجود العديد من أنواع الصابون ذات الرائحة الجميلة التي تجذب الزائر إليها، ومن ضمنها: صابون بزيت الزيتون، وصابون الغار، وصابون آخر مخصص للعروس، وصابون مقاوم للتجاعيد، وآخر برائحة الياسمين، وصابون حلبي. ويعرض المتحف لتاريخ صناعة الصابون، ومراحل تطورها المختلفة من عصر الفينيقيين إلى عصر الدولة العثمانية. عملية شيقة كانت الوسائل التقليدية من أجران ومكابس ومساطر يدوية وما شابه تعطي أفخر أنواع الصابون الذي كان يوزع في لبنان ودول العالم حتى ذاع صيته ووصل إلى أوروبا. بعد مرحلة «التصبين»، أي خلط المواد الأولية وغليها وصبّها في أجران حجرية، تفرد المادة على الأرض وضمن بساط كبير لتجفف كمرحلة أولى. وبعد أيام يصار إلى تقطيعها وفق الشكل المطلوب، والغالب هو شكل المربع بواسطة مساطر و «خفّات» خاصة، ويوضع عليها الرسم أو الشكل أو الكتابة المطلوبة بواسطة أختام خشبية ونحاسية، قبل أن تترك فوق بعضها بعضاً في شكل أعمدة لتجفف لمدة أسابيع. وقد تطورت صناعة الصابون، فأضيفت إليه العطور والألوان الزاهية. هناك المربع الشكل الذي تشتهر به صيدا، والكروي والمحفور (إنتاج مدينة طرابلس) لزينة الحمام وجهاز العرائس لأنه يعطي رائحة زكية، إضافة إلى صابون حلب المقولب والبرش. مقتنيات الحمام الشرقي وريمون عودة، عضو «جمعية صيدا التراث»، هو الذي حقق المشروع بالتعاون مع الدكتورة ليلى بدر مديرة متحف الجامعة الأميركية، وقد حرص للحفاظ على الطابع الأثري للمصبنة والبيت. وعندما نتجول في المتحف نرى واجهات زجاجية وضعت فيها أنواع الصابون الشرقي، ونماذج لآلات صب عتيقة، إلى جانب «خفات» ومساطر ومدقاّت وأختام كانت تستعمل في «التصبين»، وصابون مجسم على هيئة أجران أو زجاجيات فضلاً عن الفرن القديم. وخصصّت واجهات زجاجية لعرض نماذج من خزفيات وفخاريات وقطع أثرية وحلل مرقمة وغلايين وجدت خلال مرحلة ترميم المتحف والتنقيب تحت المصبنة، وانتهاء بشاشة تلفزيون كبيرة تعرض لمراحل العمل وأقسامه. يزور المتحف شهرياً بين 4000 إلى 6000 زائر عربي وأجنبي، خصوصاً من أوروبا. ويتولى موظفون مختصّون ومرشدون ميدانيون مهمة الشرح حول مقتنيات المتحف. ولم يغفل أصحاب المشروع تخصيص جناح لمقتنيات الحمام الشرقي، حيث تعرض العطورات والمناشف والقباقيب والعباءات الشرقية وغير ذلك.