فرض المقهى نفسه على المشهد الثقافيّ العربيّ خلال العقود القليلة الماضية، حتّى أنّ أسماء بعض المقاهي دخلت التاريخ بعدما ارتبط ذكرها بأدباء وصحافيّين ومفكّرين اتّخذوها مواقع نضال ومراكز تجمّعات. ولا يفوق عدد النصوص التي كتبت في مديح المقاهي إلّا تلك التي كُتبت في رثاء ما أُقفل منها على اعتبار أنّها صفحات مطوية من ذاكرة شارع ومدينة ووطن. وقد سعى المثقّفون إلى استغلال هذا المكان المدينيّ والابتعاد به عن أن يكون مجرّد مكان للّقاء وتناول القهوة، فأضفوا عليه صفات ليست من طبيعته كأن يكون ساحة نضال أو منبراً إعلامياً أو نادياً للثقافة. أكاد أقول إنّ الثورات العربيّة – أو أياً كان اسمها - هي في شكل من أشكالها ثورة على الثقافة والمثقّفين. وبصرف النظر عن تعريف كلمة «الثقافة»، وقد تباينت التفسيرات التي تناولتها، يبقى المقصود هذه الشريحة من المجتمع التي كان عليها أن تُحدث «الثورة»، فإذا بها، وبعد كلّ التغيّرات التي فرضت نفسها على الساحة العربيّة، عاجزة عن مواكبة المستجدّات. وعلى رغم أنّ تحرّكات الشارع ارتبطت ارتباطاً عضوياً بالشبكة الإلكترونيّة وسواها من وسائل الاتّصال السريعة والمتطوّرة، كان لافتاً اعتراف كبار المفكّرين والمثقّفين بأنّهم يجهلون تماماً أبسط سبل الاستفادة من الإنترنت وخدمات التواصل الاجتماعيّ. ما يعني أنّ المشهد يبقى على الشكل الآتي: المثقّف في المقهى يقرأ الصحيفة الورقيّة اليوميّة التي اعتاد قراءتها منذ عشرات السنين، أمّا الشاب الجامعيّ فيضع في جيبه جهازاً صغيراً يتيح له معرفة كلّ ما يجرى في العالم لحظة بلحظة. وإذا كان الأوّل أكثر قدرة على تحليل بعض الأمور القليلة بعمق يرتكز على التاريخ، فإنّ الثاني مقتنع بأنّه يمتلك صورة عالميّة شاملة عن الحاضر فضلاً عن مفاتيح فهم المستقبل. ثمّة أمور ثلاثة أعاقت المثقّفين عن لعب الدور الرياديّ عملياً فانكفأوا إلى التنظير. أوّلها ابتعادهم عن أجيال الشباب في المدارس والجامعات وتقوقعهم في حلقات ضيّقة يقرأ فيها الواحد منهم نتاج الآخر ويكتب عنه في الصحيفة. والنص اليوم بات مادة امتحان في المدرسة أو الجامعة ولا مجال لمناقشته أو الاعتراض عليه. وقليلة جداً المؤسّسات التربويّة التي سمحت بمقاربة نصوص جريئة فكراً ولغة، أو قامت بدعوة مثقّف منفتح ومتحرّر يطرح مواضيع غير معلّبة. هذه الهوّة بين الثقافة والتربية، بين النصوص الإبداعيّة والمناهج الرسميّة، بين التربية والتلقين، جعلت المثقّف كائناً فوقياً غريباً عاجزاً عن التواصل مع الفئات العمريّة الشابّة. وحين شذّت مجموعة قليلة من الشعراء والأدباء عن هذه القاعدة كان ذلك من خلال نصوص مختارة بعناية تجعل جبران خليل جبران مقبولاً في تمجيده الطبيعة ومرفوضاً في نقده رجال الدين، ونزار قبّاني شاعر المرأة من دون الإشارة إلى شعره السياسيّ، ومحمود درويش صاحب قصيدة وحيدة عن خبز أمّه. الأمر الثاني الذي غرّب المثقّف عن محيطه هو تأثّره بالفكر الأجنبيّ خلال الدراسة في الخارج أو بواسطة الترجمات التي اطّلع عليها، حتّى بدا الأمر كأنّ الكاتب العربيّ يطمح إلى أن يُترجم ليقرأه غير العرب أكثر ممّا كان يعنيه أن يترك أثراً في مواطنيه. ولذلك يبدو الكثير من الإنتاج الأدبيّ الذي كُتب خلال الوجود الفرنسيّ أو الإنكليزيّ في الشرق أكثر تعبيراً عن حالات نفسيّة «أوروبيّة» تعاني مثلاً من الاكتئاب عند الغروب، أو الإحباط بسبب الحربين العالميّتين، أو الوحدة في حين أنّ الحياة الاجتماعيّة والعائليّة في الشرق لا تشبه ما عند الغربيّين. والتأثّر بالموضوعات الأوروبيّة (فرنسيّة وإنكليزيّة وألمانيّة) ثمّ الأميركيّة أبعد الفكر العربيّ عن التطلّع إلى تفاصيل الحياة اليوميّة، فكان من الصعب على القارئ العربيّ أن يجد في أكثر النصوص التي بين يديه صدى لمخاوفه وأحلامه. والمحاولات القليلة التي رصدت الواقع كانت أعجز من أن تحدث ثورة لأنّها لم تكن تمثل حالة عامّة طاغية، أو تيّاراً جارفاً لا يترك مجالاً لغيره، وإلّا لما كانت الثورات العربيّة تأخّرت كلّ هذا الوقت. الأمر الثالث هو ارتباط الثقافة بالسلطتين الدينيّة والزمنيّة. وحين يتباهى بعض العرب بأنّ الخلفاء كانوا يكرمون الشعراء يغيب عنهم أنّ هذا التكريم آتٍ من شخص يمثّل الدين والدولة في الوقت نفسه، وأنّ الشاعر المكرّم هو الذي كان يلاقي هوى عند صاحب السلطتين، وفي هذه الحالة لا يمكن الحريّة المطلقة أن تجد لها مكاناً، والتاريخ شاهد على عدد الضحايا الذين قضوا عند افتراق طريقهم عن طريق السلطة الحاكمة. وانسحب الأمر إلى اليوم، فالمثقّف في بحثه عن مصدر رزقه، وفي غياب مؤسّسات الدولة التي تعطيه حقوقه بمعزل عن انتمائه الدينيّ أو الحزبيّ، يجد نفسه مضطراً إلى الاتّكاء والاتّكال على سلطة تحميه وتؤمّن له حياة لائقة، وإلّا هاجر بحثاً عن حريّة التعبير وكرامة العيش. ومتى أضفنا عجز المثقّف العربيّ عن فهم تداعيات العولمة، ومواكبة السرعة في الاختراعات، وملاحقة آخر صيحات الفنون وإنجازات العلوم، تأكّد لنا أنّ التغيير الذي انطلق في الشارع العربيّ لا يدين لأيّ مثقّف بإطلاقه، ولن يستطيع أيّ مفكّر لا يمتلك لغة العصر الجديد (سينما، إنترنت، موسيقى، أزياء...) أن يفهمه ويعبّر عنه، وجلّ ما يمكنه تحقيقه هو وصف ما يراه على شاشة التلفزيون التي صارت جزءاً من أثاث المقهى الحديث. لقد خسرت الثقافة معارك كثيرة: القضيّة الفلسطينيّة والتشرذم العربيّ وانتشار الأميّة والفساد السياسيّ وهيمنة الأصوليّة وقمع الأنظمة، لأنّها، أي الثقافة، كانت دائماً منفعلة لا فاعلة، مشاهدة لا شاهدة، ولعلّ المطلوب الآن كثير من التواضع للقيام بنقد ذاتيّ دقيق يعيد للثقافة دورها في صناعة المستقبل عوض أن تبقى غارقة في البكاء على أطلال الماضي أو اجترار أمجاده الغابرة.