أشار المفكّر السوري الدكتور هاشم صالح أن الهجوم الذي يتعرّض له من قِبل ما أسماه ب«السلفية والأصولية» في العديد من المواقع الإلكترونية ورميه ب«تهمة» العلمانية جزء من الحرب الفكريّة الجارية الآن في العالم العربي، مبينًا أنها شيء طبيعي وظاهرة صحّية وليست ظاهرة مرضية، وليست مقلقة، مشيرًا إلى أن الفهم الخاطئ لمصطلح «العلمانية» مرده إلى عدم وجود كتب كافية لدينا مكرسة لشرح مفهوم العلمانية، وكيف تشكّلت في أوروبا بعد عصر التنوير، كما أشار صالح إلى ما يتهدّد اللغة العربية ببعدها عن المواكبة، داعيًا إلى فتح باب الترجمة على جميع العلوم في الدول المتقدمة، وتخصيب اللغة العربية بجديد المصطلحات لتواكب ما يشهد العالم من تقدّم، مشيدًا في ذلك بجائزة خادم الحرمين الشريفين العالمية للترجمة.. أما موقفه من الدكتور عبدالله الغذامي وأدونيس ومحمّد أركون وبعض القضايا الأخرى، فلا سبيل إلى الوصول إليه إلا بالمرور وئيدًا في مسالك هذا الحوار.. بذور العلمانية * العديد من المواقع ذات الصبغة «السلفية» و«الأصولية» تثبت مقالاتك في صفحاتها تدليلًا على توجهك «العلماني» الواصل عند بعضها إلى رميك ب«الإلحاد».. كيف تقرأ محيّاك في مرآة هذه المواقع؟ هذا من الحرب الفكريّة الجارية الآن في العالم العربي، وهي شيء طبيعي بين التيارات، بين التيار السلفي الأصولي وبين التيار العلماني التحديثي أو الحديث، وهي ظاهرة صحّية وليست ظاهرة مرضية، ولا ظاهرة مقلقة، وشيء طبيعي أن نمر بهذا الغليان الثقافي، وبهذه الجدليّة الفكريّة بين التيارات المتعارضة. أنا لا أنكر تهمة العلمانية؛ ولكن بشرط أن تفهم العلمانية على أنّها ليست إلحادًا ولا كفرًا ولا عداءً للدين، فهي بحسب المفهوم الصحيح هي احترام كلّ الأديان والعقائد، والدولة العلمانيّة هي الدولة التي تحرص على احترام كلّ الأديان والعقائد وليس فقط دينًا واحدًا، أو عقيدة واحدة، فهي تحترم بحقّ الاختلاف في الدين، أو في التدين، وفي التعايش السلمي بين أتباع هذه العقائد المختلفة، وبالتالي فهي دولة أقرب إلى روح القرآن الكريم (لا إكراه في الدين)، وأقرب إليه عندما يقول: (يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير)، وأنا لا أخرج عن الدين بحسب تفسيري للدين فأجد التعددية موجودة في القرآن الكريم، ولابد أن نعترف بحق الاختلاف والتنوّع وبوجود أديان مختلفة في البشرية في العالم المعاصر، ولكن الرب واحد، وينبغي أن تتعايش بسلام، فلا أعرف لماذا يعتبرون العلمانية تهمة سلبية، إنّما العلمانية هي احترام عقل الإنسان، واحترام التنوع، والتعددية وحرية الاعتقاد. بين القصد والجهل * إن صح ما قلت بشأن بذور العلمانية.. فلم تم ربطها ب«الإلحاد» في الوطن العربي.. مع وصف «معتنقيها» بالكفر؟ هذا فهم خاطئ للعلمانية بسبب بسيط وهو أنه لا توجد لدينا كتب كافية مكرسة لشرح مفهوم العلمانية، وكيف تشكّلت في أوروبا بعد عصر التنوير؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن السلفيين أو الأصوليين أو بعضهم أو قسمًا كبيرًا منهم يريدون تشويهها عن قصد، وبعضهم يريد تشويهها عن جهل، فلا يفهمون كيف نشأ هذا المفهوم قبل 200 سنة، وكيف فرض نفسه في كلّ الدول المتقدمة مثل فرنسا، وألمانيا، وإنجلترا، وأمريكا، وكندا، كلها دول متقدمة، والمسلمون في الجاليات الإسلامية في هذه الدول لهم مساجدهم، فأنا أسكن في شرق باريس أنشئ فيها مؤخّرًا قبل عام مسجد جميل إلى جانب بحيرة وفي منطقة خضراء، وهو من أجمل المساجد، وقد مررت عليه قبل أن آتي إلى السعودية بيومين، وملحق بالمسجد مكتبة اسمها مكتبة ابن رشد، وملحق به مطعم عربي إسلامي، ومقهى، وهو شيء جميل ومريح وملتقى للعرب والفرنسيين ومختلف الجنسيات، فالتعايش شيء جميل، وهذا مثال على دولة علمانية أنشأت جامعًا جميلًا بالقرب من بحيرة تعتبر منتزه لكلّ النّاس، وقيام فرنسا بذلك؛ لأنها دولة علمانية تحترم ليس فقط دين الفرنسيين التاريخي الذي هو المسيحية الكاثوليكية، وإنما هي تعترف بالدين الثاني وهو الإسلام الذي يبلغ عدد المسلمين فيها 5 ملايين، فلهم الحق في أماكن عبادة محترمة، وهذه هي الدولة العلمانية، ولو بقيت فرنسا دولة أصولية كما كانت في القرون الوسطى لكانت رفضت أن تنشئ مسجدًا؛ لأنّ المسجد بالنسبة لها أمر مرفوض، والآن بما أنها دولة علمانية فهي تقبل بإنشاء المساجد، وهناك العديد من المساجد في فرنسا مثل مسجد باريس، ومسجد ليون، ومساجد أخرى عديدة بالعشرات. فهم خاطئ * وماذا عن قضية الحجاب التي أثيرت قبل فترة في فرنسا.. ألا تتعارض مع «علمانيتها» التي تمجدها؟ قضية الحجاب فهمت بشكل خاطئ في العالم العربي وفيها مبالغة كبيرة، فالحجاب ليس ممنوعًا في فرنسا على الإطلاق إلاّ في المدرسة الابتدائية والثانوية وفي الجامعة غير ممنوع، والممنوع هو الحجاب الكامل الذي لا ترى منه إلاّ العينين، وهو أقليّة نادرة جدًّا. بدايات قرآنية * هل تغيّرت ملامح بداياتك الفكرية الأولى المستندة إلى الجذور السلفية والتربية القرآنية؟ نعم كانت بداياتي قرآنية، فأنا نتاج تربية قرآنية؛ فوالدي كان رجل دين وشيخًا، ومنذ أن كان عمري خمس سنوات كان يفرض عليَّ تلاوة القرآن في الصباح والمساء (وسبحوه بكرة وأصيلًا)، وكنت كلّ يوم أعيش مع القرآن الكريم في الصباح والمساء، وأحيانًا بعد الظهر، إلى درجة أنّني كنت أضجر من والدي، واستغل فترة غيابه عن البيت؛ لأذهب للعب مع أصدقائي في البراري والقفار، وعلى ضفاف الأنهار، وكنت أحبّ الدين، وقداسة الدين، وأحبّ القرآن الكريم؛ لأنّه على الأقل أعطاني فصاحة في اللغة العربية فيما بعد وإن لم أكن أفهمه في وقتها لحداثة سني، وكانت تلاوتي شعائرية عبادية، وتعوّدت من خلالها على الفصاحة العربية من خلال القرآن الكريم. قشور وجوهر * إلى أي مرحلة استمرت معك هذه التربية الدينية القرآنية؟ استمرت حتى السادسة عشرة من عمري عندما دخلنا المدرسة العلمانية إذا جاز التعبير بسوريا، وكانت فيها مواد أخرى غير القرآن مثل الأدب والشعر وعلم الاجتماع، وأفكار أخرى أتتنا من بيروت ومن مصر وابتدأنا نطّلع على الأدباء الكبار مثل طه حسين، وعباس محمود العقاد، والمنفلوطي، ومن اللبنانيين جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وعدد من هؤلاء المفكّرين التحديثيين، وبالطبع وقتها لم تبقَ ثقافتي دينية مثل ثقافة والدي، واستطعت أن أطّلع على فكر الحداثة وعلى كبار مفكّري مصر، ولبنان، وهذا ما أثّر عليَّ وصرت ما بين ثقافتين؛ ثقافة دينية، وثقافة علمانية إذا جاز التعبير، وبالتالي فيما بعد صارت لدي متغيرات دون أن أتنكّر للقيم الأخلاقية أو الروحية في القرآن الكريم أو في تعاليم الدين الإسلامي، ولكن فيما بعد صار لدي مفهوم آخر هو التفريق بين جوهر الدين، وبين قشور الدين، جوهر الدين لدي هو القيم الأخلاقية والروحية العليا فعندما يقول القرآن الكريم (فمن يعمل مثقال ذرّة شرًّا يره، ومن يعمل مثقال ذرّة خيرًا يره) فهذا قسطاس مستقيم أعطاني مبدأ الحق والعدل لسلوكي في الحياة، هناك آيات أخرى في القرآن الكريم عن الحق والعدل في القرآن فأنا آخذ هذه الأشياء وأعتبرها هي جوهر الدين وجوهر الرسالة القرآنية، والإسلام الذي هو غائب الآن، فالمسلمون الآن يتمسّكون بالقشور وليس بالجوهر. خشية وحذر * هل كان والدك يحذرك من هذه الأفكار؟ كان يخشى ويحذّر من الأفكار الماركسية والشيوعيّة، وهو ككل رجال الدين الذين يخافون من الأفكار الحديثة، وكانت مثل هذه الأفكار منتشرة في ذلك الوقت في عام 1965و66و67م، وكان والدي يحرص على التربية الدينية مثل كلّ السلفيين. * إلى أي الأحزاب الإسلامية كان ينتمي والدك؟ لا.. لم يكن منتميًا إلى أي حزب سياسي، ولم يكن مسيّسًا. * فمن أين له هذا التأثر الديني الذي أثر فيك أنت أيضًا؟ هذا من التراث أبًا عن جد؛ فالقرآن الكريم وعلوم الدين كلّها من تراثنا العربي الإسلامي. تدجين أيديولوجي * في فترة تعلّقك بالمدرسة العلمانية كان صيت الشيوعية والماركسية والقومية ذائعًا.. ألم يجذبك بريقها.. كيف نجوت من سطوة تيارها؟ طبعًا كان هناك التيار القومي العربي البعثي والناصري، وكان التيار الماركسي أيضًا، وفي الحقيقة أنني كنت ميّالًا إلى تيار طه حسين والعقّاد وأحمد أمين، وأحمد الزيّات، ومحمود تيمور، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم؛ فهؤلاء كانوا غذائي الفكري والأدبي في تلك الفترة، فقد كانوا ليبراليين مشهورين باحترامهم لقيم التعددية والحداثة، وهؤلاء قضى عليهم فيما بعد التيار القومي العربي والماركسي، ولم تناسبني أو تجذبني الماركسية أو الشيوعية يومًا إليها، نعم أخذت منها بعض الأفكار، وكنت أستغرب من بعض زملائي الذين تأثروا بها ودخلوا فيها. وجاءت نجاتي منها؛ لأنني كنت ليبراليًّا، متأثّرًا بالتيار الليبرالي الذي ذكرته لك ما بين الحربين في مصر، فقد كان تيارًا رائعًا ولديه مجلات متعددة مثل مجلة الرسالة، والهلال، وكان هذا التيار هو الأقرب إلى نفسيتي، ولايزال هو الأقرب، فالشيوعية كانت تدجينًا أيديولوجيًّا مثل التدجين الأصولي ولكن بأفكار أخرى. سلفي بطريقة خاصة * أنت سلفي إذًا؟ نعم أنا سلفي بمعنى أنه يعجبني في التراث أبو العلاء المعري، وأبو حيان التوحيدي، والجاحظ، والمعتزلة، وعدد من الفلاسفة مثل الفارابي والكندي، وابن رشد، وعدد من الشعراء الكبار فهذا تراثي، بينما تراثهم التيار الآخر. انغلاق وضيق فهم * من أوردتهم يحاربهم التيار الأصولي وينفي عن بعضهم صفة الإسلام.. إلى أي شيء يرجع ذلك؟ نعم يحاربهم حتى ينفي عنهم صفة الإسلام بالرغم من أن ابن رشد كان قاضي قضاة الجد والحفيد، إلاّ أنه كان يكفر؛ لأنه أخذ بالعقل والفلسفة عند أرسطو واحترم الفلسفة وتشبع بالفلسفة، فهم أحرار. وكيف يحق لهم أن ينفوا صفة الإسلامية عن ابن رشد، وبالتالي فهم مخطئون، ويكفرون كذلك ابن عربي أكبر صوفي في الإسلام رغم أنني لست صوفيًّا ولكني أحبّ أن أقرأ له مثل الفتوحات المكّية، وترجمان الأشواق، فأنا أرى في ابن عربي شخصيّة عظيمة أيضًا وإن كنت لست من الاتجاه الصوفي، والبيروني كذلك أعتبره من تراثي وهو الذي كان يأخذ حتى بالفكر الهندي ويطّلع على كلّ الثقافات وينفتح على كلّ الثقافات ويصهرها في بوتقة الثقافة العربية الإسلامية، والآن انعكست كلّ القيم الإسلامية التي كانت في صدر الإسلام وفي العصر الذهبي القرون الخمسة أو الستة الأولى فقد كانت بغداد أهمّ مدينة في العالم ومركز إشعاع حضاري، ومن ثم انتقل هذا الإشعاع إلى قرطبة في الأندلس وأشعت على أوروبا، وترجموا فلاسفتنا، وكنا نأخذ الدين بانفتاح لا انغلاق ويسر لا عسر وعقل واستيعاب لكلّ الثقافات البشريّة المحيطة بنا، وبالتالي فأنا أعتبر الأصوليين السلفيين المعاصرين هم الخارجين على الإسلام طبعًا؛ لأنهم منغلقون داخل فهم ضيق حرفي متحجّر وأدى بنا إلى مؤخرة الأمم. عصر الانحطاط * إذًا أنت تلقي بما أصاب الأمة اليوم من تأخّر وانحطاط بسبب التيار الديني؟ لا هناك عدة عوامل منها عوامل فكريّة وعوامل مادية اقتصادية اجتماعية، وعندما دخلنا في عصر الانحطاط بعد القرن الثالث عشر الشيء المؤكّد هو سيطرة الفكر أو التفسير الضيق المنغلق للإسلام التفسير السلفي الذي يقول: إنه ليس في الإمكان أحسن مما كان، ونظرته للوراء وليست للأمام وللمستقبل، والذي يفهم الدين كعسر لا كيسر، ويأخذ شكليات الدين، وكل هذا تزامن مع دخولنا في عصر الانحطاط وانهيار الحضارة العربية الإسلامية. تفسير تنويري * برغم ما تقول به في حق التيار الأصولي الإسلامي ودوره في انحطاط الحضارة.. إلا أن الناس اليوم منجذبة إلى التدين.. فكيف تفسر ذلك؟ حتى الماركسية في الستينيات والسبعينيات الناس قالوا: إنّها ستكتسح العالم، ورأينا ماذا حصل للماركسية فيما بعد من انهيار العالم الشيوعي والاتحاد السوفييتي، ومن ثم انحسرت الماركسية والشيوعية، ومن يضمن لي أن التيار الأصولي الذي يكتسح العالم حاليًا أنّه سيبقى إلى الأبد، وعندما يظهر التفسير التنويري للإسلام سوف تتراجع الأصولية شيئًا فشيئًا، ويظهر التنوير الفلسفي الإسلامي، سوف يحتل هذا التيار الساحة تدريجيًا وتتراجع الأصولية، الذي يعتمد على ميراث ما ذكرته، ويعتمد على ما عند الأوروبيين، فهذا التيار يعتمد على اتجاهين الأول: تيار التنوير في تاريخنا، والآخر: تيار التنوير في الحداثة الأوروبية. بقع تنويرية * ما ملامح أو مقدمات هذا التيار التنويري العربي الإسلامي في العالم العربي؟ هذه الملامح موجودة مثل الصراع بين السلفيين والليبراليين في العالم العربي؛ حتى هنا في المملكة العربية السعودية، وأحيانًا تحصل بعض الصدامات بين الليبراليين وبعض المشايخ المتشددين، وموجود هذا التوتر في مصر وفي إيران وفي سوريا وفي تركيا وفي كل أنحاء العالم الإسلامي وإن كانت الغلبة السوسيولوجية حتى الآن للتيار الأصولي السلفي؛ ولكن ليس من المؤكد أنّها سوف تستمر، فهناك أيضًا بقع تنويرية وفئات تنويرية أقلّية الآن، ولكنها قد تكبر وتتوسّع يومًّا ما. موجات منحسرة * بوصفك متابعًا ومساهمًا في مشروع الحداثة العربية.. كيف ترى نجاحه من فشله إلى الآن؟ لا، لم ينجح مشروع الحداثة العربي إلى الآن؛ بدليل سيطرة التيار الأصولي على الشارع، وهذا لا يعني الفشل إنّما إخفاق فربما كان الأسلوب المتبع غير صحيح، وربما كانت الصعوبات أكبر منه فأجهضته، وعندما نتحدث عن إجهاض النهضة في العالم العربي من القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين وهو ما يدعى بالعصر الليبرالي العربي عصر النهضة من أيّام محمد علي 1805 إلى 1950 تاريخ سقوط التيار الليبرالي أو البرلماني في مصر، حيث كان عدد من المفكّرين يمثّلون تلك النهضة مثل رفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين، وسلامة موسى، وعشرات المفكّرين الذين يدعون إلى تبنّي الحضارة والحداثة والاكتشافات العلمية، ووجدت العديد من المجلات مثل المقتطف والهلال التي تنقل الثورات الفلسفيّة والأفكار العلمية من الغرب، فأجهضت كلّ هذه النهضة، والآن يمكن لهذا التيار أن يستمر، والآن موجود ما يمكن أن نطلق عليهم بالليبراليين أو الحداثيين أو التيار التنويري العربي الإسلامي وله مستقبل؛ لأننا الآن في عصر العولمة، ويمكن أن تأتينا الأفكار الحديثة؛ فالأنترنت والمعلوماتية قلبت الأوضاع، نعم هذه الوسائل تنشر الأفكار الأصولية على أوسع نطاق؛ ولكنها أيضًا تنشر الأفكار العلميّة والفلسفيّة، فبعد أن تنحصر الموجة الأصولية؛ لأن الموجة حينما تطلع فإنها تطلع بشموخ وعنفوان حتى تصل إلى الذروة ثم تبدأ في الانحدار، وهذا حال الموجات الأيديولوجية في كل أنحاء العالم، فالأصولية الآن نلاحظ أنها لم تعد بنفس العنفوان، وأتذكّر في عام 1978 بعد حركة الخميني والثورة الإيرانية كان كلّ الناس حتى المثقفين انضموا إلى هذا التيار، والآن بدأوا في التراجع بعد أن رأينا فشل هذا التيار، ففي إيران هناك مظاهرات عارمة ضد حكم رجال الدين، ومعنى هذا أنّ الموجة المعاكسة ابتدأت الآن، وردة الفعل المعاكس لليبراليين أو التحديثيين ابتدأت، ولم تعد الموجة الأصولية بنفس الهيمنة المطلقة كما كانت في عشر أو عشرين سنة. تراجعات مزدوج * لكن هناك أيضًا تراجعًا عند أصحاب التيار الحداثي العربي بأفكاره المتغيرة.. ويمكن أن ينضم للتيار الإسلامي وعلى سبيل المثال الدكتور الغذامي في السعودية أعلن بعض التراجعات مؤخّرًا؟ التراجعات موجودة بكلا الاتجاهين؛ فأنا أسمع أيضًا عن تراجع الجماعة الإسلامية الليبية، وعن تراجع الجماعة الإسلامية المصرية عن الخط التكفيري أو الجهادي، فالتراجعات في كلا الجانبين؛ ولكن هذا لا يؤثر على ما قلت. ضد التشخيص * كيف تقيّم مشروع أدونيس في الحداثة العربية؟ أنا لا أحب أن أتحدث عن هذا الموضوع الآن؛ فبدون شكٍّ أن أدونيس شاعر كبير خصوصًا في مراحله الأولى، وأدى إلى تحديث اللغة الشعرية العربية، وأوجد لغة شعرية جديدة، فأهمّيته من هذه الناحية كبيرة، وأوجد معجمًا شعريًّا ومجازات شعرية إبداعية أصبحت مدرسة للشعراء الشباب، فأدونيس شاعر كبير دون أدنى شك، وأنا لا أريد أن أتحدث عن التجربة من منظور شخصي؛ بل أحب أن أتحدث عن الحداثة بشكل عام، فلا أريد تشخيص الأشياء والتوسع حول الغذامي أو أدونيس؛ بل أحب الحديث عن التيارات بشكل عام.\ مخاضات صراعيّة * ما قيمة الكلمة عند المثقف خاصة إذا كانت لها تبعات؟ نعم على المثقف أن يتحمّل مسؤولية كلامه وكتاباته، وعندما نقرأ في تاريخ المفكرين العربي والغربي نجد أنّ قسمًا لا بأس به منهم دفع ثمنًا غاليًا؛ ففي التاريخ الأوروبي بدءًا من سقراط الذي دفع أغلى ثمن وهو حياته، وهو أول شهيد في تاريخ الفلسفة، وفي تاريخ أوروبا الحديث مثلًا كان ديكارت، فقد كان يعيش خارج بلده فرنسا؛ لأنّها كانت دولة أصولية متعصبة جدًّا بالقرن السابع عشر، وعاش في هولندا، ومات بالسويد، وهناك عشرات المفكّرين، ففي العالم العربي أبو حيّان التوحيدي فقد كان منفيًا في وطنه وكتب كثيرًا يشكو من حاله ومن فقره ومن احتقار الحكام والسلاطين له، ومن ثمّ أحرقت كتبه ولحسن الحظ نجا قسم منها، وعبّاس محمود العقّاد أيضًا سُجن من أجل أفكاره وكلماته، وطه حسين أيضًا نعرف ردّة الفعل عليه بعد أن أصدر كتابه “في الشعر الجاهلي”، وهذه مسيرة الحياة لأنّه يبدو أنّه لا يسير التقدم إلاّ على المخاضات الصراعية، والحقيقة تتمخض عن طريق الصراع، وكنّا نتمنّى لو تتمّ بشكل سلمي أو إيجابي، ولكن للأسف لم يحصل هذا، وخذ مثلًا أيضًا باروخ سبينوزا المفكّر اليهودي حاول أحدّ المتعصبين للدين طعنه، ولحسن الحظ نجا من ذلك؛ لأنّه بدأ يفكّر بشكل فلسفي عقلاني في شؤون الدين. حرب سلمية * أنت تشارك في ندوة في السعودية وتقدم محاضرة أخرى.. كيف تتوقّع ردود الأفعال؟ نتمنى أن لا يحصل لنا ما حصل لهؤلاء؛ ولحسن الحظ إنّنا لسنا بهذا المستوى ممن ذكرت ممن دفعوا ثمن الكلمة والفكر، ونتمنّى أن تكون الحرب بشكل سلمي كتاب ضد كتاب، ومقال ضد مقال، وفكرة ضد فكرة، وأن لا توصل الأمور إلى استخدام العصي والأسلحة، ولا أعرف لماذا يلجأ إخواننا الأصوليون السلفيون إلى مثل هذا العنف مع أنّ لديهم مواقع أنترنت ومجلات وجرائد، وهناك قسم منهم محترم، فأنا لا أعتبرهم خطًّا واحدًا؛ فهناك أصوليون منفتحون، وسلفيون جدد يحاولون أن يتصالحوا مع الحداثة والتطور، ويقبلون بالاكتشافات العلمية إلى حدٍّ لا بأس به، فهناك عقلاء من الإسلاميين مستنيرون ومرتبطون بجذور دينهم وهذا حقّهم ونحن معهم، وتفسيرهم للإسلام يتماشى مع العصر ومع العقلية الحديثة والعلم الحديث، ويسعون إلى المصالحة بين العلم والإيمان، وهذه المصالحة هي مستقبل البشرية أجمع؛ فالدين والفلسفة والعقل والإيمان لا تعارض بينهما إنّما تصالح، ولابد أن نصل إلى هذا التصالح، فأنا لا أريد تدمير الدين إطلاقًا بل أريد أن يكون هناك تفسير عقلاني فلسفي للدين وللتراث الإسلامي، وهذا التفسير هو القادر على التصالح مع الحداثة، وينبغي أن لا نظل مصطدمين مع العالم الخارجي؛ لأنه لدينا مشكلة اليوم نحن المسلمين مع الغرب والشرق على حد سواء، وصرنا مشكلة العالم كما يقول الدكتور رضوان السيد، ولابد أن ننتبه لهذا ونراجع حالنا، ونسأل أنفسنا هل فهمنا لديننا صحيح يا ترى وهل هو فهم دقيق؟ وهل هو فهم قادر على التصالح مع العصر؟ وهل سلوكنا كلّه صحيح؟. أفكار صعبة * البعض يصم كتب محمد أركون بالتعقيد والاستغلاق والعجز عن فهمها.. فكيف تراها واقع ما قمت به من ترجمة لبعضها؟ بينما آخرون يقولون: إنّهم لا يفهمون أركون إلاّ من خلال ترجماتي، ولا ريب في أن من يقرأ أركون باللغة الأصلية الفرنسية وهو فكر أكاديمي معقّد مليء بالمصطلحات والمرجعيات والعلوم الإنسانية والألسنيات والفلسفية والأنثربولجيا وعلم الاجتماع وعلم التاريخ الحديث فيصعب فهمه بالنص الفرنسي، وأنا بالعكس أحاول أن أسهّل فهمه عن طريق شروحات كثيرة، وهو ما أعتبره البعض خدمة للقرّاء العرب عن طريق تسهيل فكر أكاديمي صعب ومعقّد جدًّا، وهذه الشهادة التي تأتيني من قِبل القراء، والترجمة عملية صعبة جدًّا، وقد حضرنا هنا جائزة خادم الحرمين الشريفين للترجمة وهذا شيء إيجابي جدًّا، وهذا يشجّع العلم العربي والثقافة العربية والترجمة العربية، وهذا يعطي أملًا في المستقبل. مفكّر قدير * وما الذي دعاك إلى ترجمة كتب محمد أركون من بين كلّ الثقافة الغربية؟ الذي دعاني هو أنني وجدت عنده ضالتي، وأن هذا المفكّر هو الأقدر على تشخيص مشاكل التراث العربي الإسلامي فهو يسيطر على المنهج والمصطلح، ويعرف كيف يطبّق المنهج الحديث والمصطلح الحديث على نصوص التراث العربي الإسلامي بدءًا من القرآن الكريم إلى أبو حيّان التوحيدي، وابن رشد، والمعتزلة، فهو يدرس التراث ويشخّص مشاكل التراث وقضايا التراث، وإذا ما نجح تياره فسوف تحصل المصالحة الكبرى ما بين الإسلام والحداثة، ولن يعود هناك هذا الصدام المروّع بيننا وبين العالم الغربي، وسوف يحل الحوار، مثل ما عمل الملك عبدالله بخصوص حوار الأديان، فهذا التيار هو تيار حوار الحضارات، ونحن ضد صدام الحضارات؛ لأنه لا مستقبل له، ويقابله أيضًا تحالف الحضارات الذي أقامه ثبتيرو رئيس وزراء إسبانيا، ويشاركه أردوغان بالرغم من أنه من تيار يحسب على الأصولية ولكنّها أصولية مستنيرة عقلانية، فأنا أفرّق في الأصولية ما بين تيارين الأول تيار أصولي جاهل بقضايا الحداثة والعصر، وتيار إسلامي منفتح ويسمى في أوروبا الديمقراطية المسيحية، وهذا حزب الديمقراطية الإسلامية تقيم هذه المصالحة ما بين الإسلام والحداثة. لغة غير مخدومة * ولماذا لم تطرح فكرة أن يكتب محمد أركون كتبه بالعربية بدلًا من الدخول في دوامة الترجمة؟ لأنّه أستاذ في جامعة فرنسية منذ خمسين سنة، وهو مضطر لأن يكتب بالفرنسية؛ لأنّها لغة الجامعة ولغة الندوات العلمية والمحاضرات، وهناك خصوصية لوضعه، فسيطرته على الفرنسية أقوى، ويضاف إلى ذلك أنّه بالفرنسية لا يوجد نقص بالمصطلحات التي يستخدمها أو يطبقها، ومشكلتنا الآن هي أن لغتنا العربية من أعظم اللغات لكن للأسف أننا لا نخدمها، ولذلك مشاريع الترجمة وتشجيعها سوف يفيد اللغة العربية فائدة كبيرة في تعريب كل مصطلحات العلم الحديث وإدخالها في لغتنا، والآن لغتنا مقصرة جدًّا ومهدّدة من قِبل لغات أجنبية، وهنا في العالم العربي بعض الدراسات العليا في الجامعات تكون بالفرنسية أو الإنجليزية وهذه مصيبة كبيرة جدًّا، فلابد أن ننقل هذه المصطلحات وهذه النظريات والمناهج إلى لغتنا العربية التي هي صيغة الوصل بين كل العرب، وينبغي خدمتها. مشكلة الترجمة * كيف السبيل إلى حل مشكلة المصطلحات الغربية في اللغة العربية؟ هذا سوف يدخلنا في دوامة صراع المصطلحات؛ فالمشارقة العرب يترجمون بترجمات تختلف عن ترجمات المغاربة، وحتى في المشرق هناك ترجمات متعددة، وأرى أن البقاء هو للأصلح، وتنطبق علينا نظرية داروين «الاصطفاء الطبيعي»، فالترجمة الأذكى والأنجح هي التي ستبقى، بينما الترجمات الأخرى هي التي سوف تسقط. فلسفة ممنوعة * هل ترى أن الاختلاف في الترجمة إلى العربية دال على عجز في العربية؟ لا.. ليس هذا عجزًا في اللغة العربية، وأي شخص يقول بهذا فهو يريد أن يقضي عليها، فلماذا كانت لغتنا العربية في العصر الذهبي مستوعبة لكلّ لغات العالم اليونانية والفارسية والهندية، والعربية قادرة إنما العجز في قومها؛ نحن المقصرون، فعندما انقطعنا عن الحضارة 700 سنة ونحن في الانحطاط إلى الآن، فالفلسفة ممنوعة في كثير من بلدان العالم العربي، وكفروها وكفروا أهلها ومن يتعاطاها، وفي علم الفيزياء وعلم البصريات وعلم الرياضيات لم يعد لنا فيها وجود، وقد كنا سادة العالم فيها، فنحن السبب؛ والآن نحن أمام تحدٍ كبير هو إنقاذ اللغة العربية، وهذا هو الهدف الذي ينبغي أن نخطط في المستقبل وفي السنوات القادمة له بنقل كل العلم الحديث إلى لغتنا العربية وترجمة آلاف المصطلحات والتركيبات العلمية واللغوية من الإنجليزية والفرنسية والألمانية وكل لغات العالم، من أجل أن تعود لغتنا من جديد لغة علم وفلسفة وحضارة وليست فقط لغة أدب وشعر وفقه، طبعًا لابد أن تبقى هذه مع ما ذكرت، ونتمنى أن تؤتي جوائز الترجمة ثمارها في إغناء لغتنا العربية وإعادتها إلى الساحة من جديد.