عقدت لجنة جبران الوطنيّة ندوة عن كتاب الشاعر هنري زغيب «جبران خليل جبران – شواهدُ الناس والأمكنة» (دار الساقي - طبعة ثانية) في مقرها (بيروت)، وافتتحها رئيس اللجنة الدكتور طارق شدياق، معلناً ان هذا اللقاء هو الاول في سلسلة لقاءات «نضيء بها على جبران والمبادئ والقيم التي تحدّث عنها وعاشها، وعن مشاكلنا الثقافية والاجتماعية العامة، التي صَمَتَ الكثيرون عن إثارتها رغم أهميتها في هذا البلد المتعب بترّهات السياسة السخيفة». وأضاف: «كتاب هنري زغيب يكمل ما نعرفه عن جبران، ويضيء على أسئلةٍ تختزنها حشريّتنا، من نوع: هل كان جبران دائماً حزيناً، أو منعزلاً؟ هل كان لديه حسّ الدعابة؟ هل كان يضحك؟ هل كان له أعداء؟ هل كان يغضب أم كان خجولاً؟ ويجعلنا هنري زغيب نتساءل معه: هل هو من يلاحق جبران أما جبران يلاحقه؟ والسؤال مشروعٌ إذ شعر الكاتب، وهو في الولاياتالمتحدة، بتلك الجيرة الافتراضية الروحانية الصامتة مع جبران، يوم كان في المدينة نفسها والشارع نفسه حيث سكن جبران سنوات». وتليت من ثَمّ رسالة من الناقد سهيل بشروئي المقيم في أميركا، وجاء فيها: «إنّ لقاءَكُم اليوم حول كتاب الشاعر هنري زغيب، نموذجٌ لإغناء تراث جبران (...) آمن جبران أن «الحقيقة الأزليّة» وحدةٌ متكاملة تتآلف فيها الأضداد وتنصهر كلُّها في جوهر الواحد الجامع الكل. ومع أن جبران كان مسيحياً مارونياً، اتّخذ يسوع المسيح مثال الكمال والمحبة والتآلف، فهو فتح قلبه وعقله للتعاليم الروحية التي جاء بها الاسلام، ومن يدرس فكر جبران عميقاً يلمس موقفه لا من الدين الإسلامي فحسب، بل من الأديان جميعاً. إنها الحقيقة الواحدة التي تأتي في صُوَرٍ وأشكالٍ وظروفٍ وأزمانٍ ولغاتٍ مختلفة، لكنّ الروح فيها واحدة والجوهر واحد. وجبران شَهَر دعوته هذه في كلّ ما فعل وكتب، واصفاً إياها ب «دعوة الوحدة الروحيّة الجامعة كلَّ الأديان، الباسطةِ حمايتَها وغايتَها لكل إنسان». من هنا أطلق جبران رسالةً روحانية وحدويةً تَجْمع ولا تفرِّق، لا ترمي إلى حلول سطحيّة لأشكال الصراع في العالم بل إلى التوفيق بين الأضداد، وخلْق الانسجام والتفاهم رغم الاختلاف والتعدُّد. هكذا نظَرَ إلى تعاليم المسيحية والإسلامية واليهودية (كقدسية الحياة واحترام البيئة ورعاية الضعفاء والمساكين المعوزين والمحتاجين والخضوع والخشوع لله جلّ جلالُه) وفسَّرها بأنها تعاليمُ لا تَحصُرها حدودُ دينٍ من الأديان، بل تعلو فوق الطقوس والمعتقدات، لأنها جوهرُ الدين الصحيح وأُسُّ أساسه. وعبّر عن ذلك المنظور الوحدوي الشموليّ في قطعته الصوفية «إرَمَ ذاتُ العِمادِ»، بقوله: «كلُّ ما في الوجود كائنٌ في باطنك، وكلُّ ما في باطنك موجودٌ في الوجود. لا حَدَّ فاصلاً بين أقرب الأشياء وأقصاها، بين أعلاها وأخفضِها، بين أصغرِها وأعظمها، ففي قطرة الماء الواحدةِ جميعُ أسرار البحار، وفي ذرةٍ واحدة جميعُ عناصر الأرض، وفي حركةٍ واحدة من حركات الفكر كلُّ ما في العالم من الحركات والأنظمة». اما المداخلة الاولى فكانت للكاتب الفرنكوفوني المتخصص في الدراسات الجبرانية ألكسندر نجار، وجاء في كلمته: «جبران لغزٌ دائم وتحدٍّ مستمرّ للباحثين، فغالباً ما نعثر على مخطوطات أو رسائل منشورة تجعلنا نتعمّق أكثر بشخصيته، ونكتشف نواحِيَ جديدة من سيرته، كأن جبران أراد بعد وفاته، أن يبقى في تجدّد دائم. جبران المتعدد وخلافاً لما يعتقد البعض: مَحدُودٌ جداً عددُ الباحثين اللبنانيين في حياة جبران وأعماله، لأن جبران متعدّد المواهب والوجوه واللغات، حتى ليصعب على الباحث الرصين حصره بصورة ثابتة، وأعماله لا تدخل في خانة محدّدة، فكتاب «النبي» مثلاً ليس كتاب فلسفة ولا كتاب شعر ولا كتاب وجدانيات ولا قصة. هو كل ذلك في آن، وتالياً غير قابل أيَّ تصنيف، ما يشكّل في نظر النقّاد عائقاً للتحليل والدراسة. الشاعر هنري زغيب من القلائل الذين تمكّنوا من فهم جبران وسبر بعض ألغاز تكتنف مسيرته. وها هو كتابه الأخير «جبران خليل جبران - شواهد الناس والأمكنة»، يُثبتُ أنه صحافي وباحث وأديب في آن. هو صحافيٌّ لأنه يجمع في كتابه مقالات قيّمة نشرها في بعض الصحف، ولأنه نجح في تقصّي المعلومات والتحرّي عن شخصيات عاصرت جبران، ولأنه تميّز بفضولٍ «صحافيٍّ» دفعَه إلى السير على خطى جبران في واشنطن وبوسطن وغيرهما من المدن بحثاً عن حقائق جديدة، وأجرى مقابلات «حيّةً» مع عدد من أصدقاء مؤلّف «النبي» . وهو باحث لأنه دقّق في المصادر وحلّل معطيات استحصل عليها بعيداً من أساطير وخرافات حاكها البعض حول شخصية جبران وحياته. فهنري زغيب، وإن كان وطنياً بامتيازٍ وحريصاً على صورة وطن الأرز ورسالته التاريخية، لا يجامل جبران ولا يجمّله، بل يعرض مصيره بصورة علمية وموضوعية. وهو أخيراً أديبٌ، لأن أسلوبه في هذا الكتاب سرديٌّ مُشَوِّق يجعل قارئَه متعطّشاً لمعرفة المزيد، ولأن متانة لغته التي اختبرناها في دواوينه الشعرية، هي حاضرة أيضاً في كتابه الأخير المتميّز بأسلوبٍ حيٍّ وسلس. يبدأ هنري زغيب كتابه بسلسلة مقابلات وذكريات من أشخاص عاصروا جبران وعرفوه، أمثال أندرو غريب، فؤاد خوري، المونسنيور منصور أسطفان، ماري هاسكل، ميخائيل نعيمه، مي زيادة، باربره يونغ، الأرشمندريت أنطونيوس بشير، يوسف الحويك، نخله سكّر، فسلّطت هذه الشواهد أضواء جديدة على جبران الكاتب والفنان والإنسان والمهاجر والصديق والقريب والعشيق. ولعلّ هؤلاء الأشخاص مرآة تعكس لنا صورة جبران الحقيقية مع ما تتضمّنه من قناعات وتناقضات». المداخلة الثانية والأخيرة كانت للشاعر محمد علي فرحات، واستهلها قائلاً: «كأنما يبحث هنري زغيب عن اللبناني حين يبحث عن جبران خليل جبران، يساهم في ترميم صورته من نثار بشر وأمكنة، حيث كان جبران حاضراً في منشأ التكوين وفي تجربة العطاء، كأنما يبحث عن اللبناني المرتجى وصورته في طبيعة ملهمة ووجدان يتشرب ثقافات متنوعة وحضور يطاول الإنسان أينما كان. والكتاب «شواهد الناس والأمكنة» فعل خوف من ضياع الشهود والمشاهد، وفرح في القبض على أقوال وعلامات قبل أن تذوّبها الأيام، لذلك نلمح هذا الأسلوب الحماسي والإحساس بالظفر حين يسجل المؤلف معلومة أو إضافة إلى ما كتب عن جبران، بحيث يصبح الكتاب مفيداً للباحثين في إعادة الصوغ المستمرة لشخصية جبران وأدبه وفكره وفنه. في لبنان والولاياتالمتحدة، اصطاد هنري زغيب شواهده، أندرو غريب الذي رأى جبران محباً للانزواء «ودائماً على حزن مكتوم وشوق إلى أوقات يعيشها في الطبيعة واعياً حجمه المتصاعد إلى العالمية»، وأنه «أنيق الخط والهندام والكتابة». واضاف: «جبران بحسب أندرو، كان يساعد رفاقه (الأدباء) ويدعمهم مادياً. كان لهم مظلة في نيويورك. تفرقوا بعد وفاته، كأنما انكشفت رؤوسهم». هذه الاشارة تجد مصداقها في حجم المردود المادي لكتب جبران المكتوبة بالانكليزية التي كان ينشرها «كنوف» ويقبل عليها الأميركيون، وتندرج في هذه الكتب الترجمات التي أنجزها أندرو غريب لمختارات من كتابات جبران العربية ونشرها «كنوف» في كتاب. يقول أندرو إن كتابه صدر سنة 1934 وهو عاد في السنة نفسها إلى لبنان، فكان كنوف يرسل إليه حقوق الترجمة بمعدل أربعة آلاف دولار سنوياً، مبلغ بقي يرده سنوات طوالاً مع تكرار طبعات كتابه، الذي أصبح من مجموعة جبران الكلاسيكية. إذا احتسبنا القوة الشرائية لهذا المبلغ في تلك المرحلة ندرك حال جبران المادية في السنوات القليلة (دون العشر) التي سبقت وفاته، وندرك معنى كلام أندرو عن انكشاف رؤوس الأصدقاء، والأرجح أن ميخائيل نعيمة كان واحداً منهم. نحو الحداثة وفي شهادة المونسنيور منصور اسطفان، أنه جمع نصوصاً عربية من أعمال جبران وسماها «البدائع والطرائف» وأصدرها في القاهرة، كما أن الأرشمندريت أنطونيوس بشير نقل إلى العربية عدداً من مؤلفات جبران الانكليزية وأصدر معظمها في القاهرة. كانت الصحافتان المصرية واللبنانية تعيدان نشر كتابات جبران الصادرة في الجرائد والمجلات المهجرية، ما جعل جبران ومعه رفاقه في الرابطة القلمية وعدد آخر من المهجريين، حاضرين في دفع الأدب العربي إلى الحداثة، بدءاً من ملامح تيار رومنطيقي لا يخطئ الدارسون إذا وجدوا فيه تأثراً بحنين المهجريين، إلى جانب الأثر الأدبي الفرنسي ومتطلبات اللحظة الحضارية التي أفرزت وعياً فردياً للإنسان في منطقتنا. وبين ماري هاسكل، التي يؤلف هنري زغيب صورتها من نسيبتها اليزابيث ديفيس ومصادر أخرى، وبربارة يونغ، التي يسجل زيارتها إلى لبنان بعد موت جبران، تحضر أمامنا صور نساء تحلقن حول صاحب «النبي» وترجحن بين حنان يعطي وأنانية تستحوذ. وتنفرد مي زيادة، التي نسجت علاقة روحية مع جبران بالرسائل المتبادلة، لتدل إلى أن لقاء النفوس لا يأبه بالمسافات، وإلى أن البحث عن اليقين والتشاور الروحي حول مسار الحياة ونوع الخلاص هو ما يجمع اللبناني المقيم في أميركا مع اللبنانية الناشئة في فلسطين المقيمة في مصر، وكلاهما يقيم روحياً في مكان مشترك لعله لبنان المرتجى، دائماً المرتجى. ويرسم هنري زغيب صورة أمين الغريب، الذي فوجئ أثناء زيارة له إلى بوسطن بجبران خليل جبران، فتعهد نصوصه ونقحها ونشرها في جريدته «المهاجر» . إنه أول الكتّاب الذي شجعوا جبران وقدموه إلى النخبة المهاجرة في نيويورك ومنها كان الانطلاق، كما يشير هنري زغيب إلى لقاء جبران يوسف الحويك في باريس وحلمهما المشترك بأعمال فنية في لبنان».