في أغلب المدن العربية والعالمية، هناك مقاه صنعت أدباء، ومقاه صنعها الأدباء، وكانت محور إبداعاتهم. ففي القرن التاسع عشر اشتهر مقهى «البوستة» في ميدان العتبة في القاهرة، وترجع شهرته إلى الشيخ جمال الدين الأفغاني الذي اتخذه - خلال فترة إقامته في مصر - مكاناً للقاء تلاميذه ليتمكن رواد المقهى من الاستماع إلى آرائه وآراء تلاميذه والمشاركة في الحوار، فقد كان الأفغاني يجلس في صدر المقهى وتتألف حوله نصف دائرة من تلاميذه الذين يتسابقون إلى إلقاء أسئلتهم عليه. ويروى أنه كان يمضي الليل في المكان حتى طلوع الفجر فيعود إلى داره بعد أن يدفع لصاحب المقهى ثمن ما طلبه جلساؤه من مشروبات، وكان من بين هؤلاء التلاميذ الشيخ محمد عبده، والشاعر محمود سامي البارودي، والسياسي سعد زغلول، وعبدالله النديم المناضل الوطني، وإبراهيم الهلباوي وغيرهم. وفي ميدان طلعت حرب في وسط القاهرة، شيّد مقهى «ريش» عام 1908، فرنسي يدعى هنري بير، على غرار أشهر مقاهي باريس التي ما زالت قائمة إلى الآن وتحمل اسم «كافيه ريش» وبطرازها المعماري المميز نفسه وديكوراتها أيضاً. في عام 1919، اشترى مقهى «ريش» ميشيل بوليدس من أشهر تجار اليونان في القاهرة وكان يهوى الأدب والفن، فأجرى توسعات في المقهى وأقام مسرحاً أمامه وأحاطه بحديقة فيها مكان ثابت لعزف الموسيقى، في أوقات محددة، فأصبح المقهى مكاناً لتجمع الفنانين والأدباء والشعراء والمثقفين، وعلى مسرحه عرض الكثير من الروايات لعزيز عيد ومحمد عبدالقدوس، وغنت أم كلثوم أولى حفلاتها عام 1921، وفي الأربعينات شهد المقهى الاتفاق على إنشاء أول نقابة للموسيقيين في العالم العربي. هذا حال القاهرة العاصمة الثقافية لمصر، أما في الأقاليم فقد ظهرت بعض المقاهي التي لعبت دوراً في الحياة الثقافية والسياسية وكان أشهر هذه المقاهي «مقهى المسيري» في مدينة دمنهور لصاحبه الأديب عبدالمعطي المسيري والذي كان بمثابة جامعة أهلية تخرج فيها عدد كبير من أبرز الأدباء والفنانين والشعراء الذين ساهموا بقدر كبير في منظومة الثقافة العربية من أمثال: محمد عبدالحليم عبدالله، محسن الخياط، خيري شلبي، محمد صدقي، رجب البنا، فتحي سعيد وغيرهم. وينسب المقهى لعبدالمعطي المسيري المولود عام 1909 في إحدى حارات دمنهور لأب متواضع الحال يملك مقهى صغيراً، واضطر إلى أن يعمل في المقهى منذ الصغر، وقد نما وحكايات الوطن والأحزاب والإنكليز والثورة وغيرها من الأشياء التي أيقظت قيمة الانتماء في داخله. ومن أهم الأشياء التي جعلت المسيري يهتم بالأدب تلك الطقوس التي كان يقوم بها الشاعر أحمد محرم في ركنه الخاص في المقهى حيث يكتب ويعد مادة الجريدة التي كان يصدرها، فكان عبدالمعطي المسيري يتعمد تجهيز المكان بنفسه للشاعر الكبير ويظل قريباً منه. وقد اختار المسيري المكان المجاور للنصبة وخصصه للكتب والمجلات والجرائد وبدأ التفاعل بين رواد المقهى من خلال إهداء الكتب أو الشراء أو الاستعارة. وبدأ أعلام الفكر المصري والعربي يتوافدون على المقهى ومنهم يحيى حقي ومحمود تيمور وتوفيق الحكيم وزكي مبارك والرافعي والشجاعي وغيرهم. وفي العدد الأول من جريدة «المجلة» التي كان يرأسها يحيى حقي يقول حقي في افتتاحيتها: «ذلك المثقف أو الأديب الذي يفكر في زيارة مدينة التاريخ القديم والتجار الشطار لكي يتعرف إلى صور الحياة وعادات الناس هناك لا بد من أن يجلس على رصيف مقهى المسيري والذي يمثل ظاهرة مهمة عند أبناء المدينة المثقفين والأدباء والزجالين». وقد لعب عبدالمعطي المسيرى دوراً مهماً في الدفاع عن المواهب الفنية والأدبية في الأقاليم قبل أن يظهر ما عرف بعد ذلك بمؤتمر أدباء الأقاليم وله مقال نشر في منتصف الخمسينات في جريدة «المساء» بعنوان «الميثاق والثقافة في الريف» ناقش فيه دور مثقفي وفنانى الريف وتساءل عن متى تكون عاصمة كل إقليم قاهرة كبرى في الثقافة والفنون وألا تقتصر الأنشطة الثقافية على عاصمة البلاد فحسب، بل تمتد إلى كل مدن مصر وأقاليمها. ويقول الروائي أمين يوسف غراب في مقال نشر في جريدة «وطني» في تموز (يوليو) 1961: «رصيف مقهى المسيري كان ملجأ الأدباء والكتاب وكان البوتقة التي صهرت عقلي وتفكيري وشعوري بفضل جماعة الأدباء والكتاب هناك». كما أثنى عليه المفكر الكبير محمود أمين العالم، فقال: «صاحب المقهى الأديب عبدالمعطى المسيري استطاع بكتابه «في القهوة والأدب» الصادر عام 1936 أن ينتزع من رأسي فلسفة أفلاطون ومثالياته». وفي مقهى المسيري جلس توفيق الحكيم حين كان وكيلاً للنائب العام في محافظة البحيرة وكان يختار هذا المقهى بالذات ليكتب أو يقرأ أو يشرد وقد صور عبدالمعطي المسيري ذلك في قصة قصيرة له بعنوان «أهل الكهف» مستعيراً عنوان مسرحية الحكيم ونشرها في مجموعته القصصية «مشوار طويل». كما نمت علاقة وثيقة بين المسيري وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بعد المقالة التي نشرها طه حسين في جريدة «الوادي» انتقد فيها الأدباء الشبان خصوصاً الشاعر إبراهيم ناجي والقاص إبراهيم المصري. فقد رأى المسيري أن نقد العميد جاء محبطاً فعقد في مساء اليوم نفسه ندوة على رصيف المقهى في دمنهور ناقش خلالها ما كتبه طه حسين وفي اليوم التالي كتب المسيري مقالة بعنوان «في الثقافة» يرد بها على طه حسين وأرسلها إلى الجريدة نفسها وفوجئ بنشرها بالإضافة إلى مقالة لطه حسين بعنوان «في تنظيم الثقافة» في بابه المعروف «حديث الأربعاء» بتاريخ 19/9/1934، أثنى فيها على الأسلوب الأدبي الرائع للأديب عبدالمعطي المسيرى، وبعدها كتب العميد المقدمة لأول إنتاج أدبي للمسيري وهو كتابه «في القهوة والأدب» الذي ترجم إلى الكثير من اللغات وأثنى عليه المستشرق الروسي الكبير عميد كلية الآداب الشرقية في موسكو أغناطيوس كراتشوفسكي في الثلاثينات من القرن الماضي. وفي ظل اهتمام عبدالمعطي المسيري بالأدب والأدباء قام بإنشاء جمعية لأدباء دمنهور نجحت في وقت قصير في أن تلفت اليها الأنظار بشبابها المبدعين وأن تقيم الندوات والأمسيات في القاهرة، كذلك كان معظم أدباء القاهرة الكبار يقومون بزيارات متكررة للمقهى فتقام لهم الندوات والأمسيات. وظلت جمعية أدباء دمنهور تقوم بدورها الرائد في تشكيل الوعي الثقافي لأدباء البحيرة وما جاورها من محافظات حتى سافر عبدالمعطي المسيرى إلى القاهرة للإقامة فيها وعمل موظفاً في المجلس الأعلى للفنون والآداب حتى وفاته في 29 أيلول (سبتمبر) 1971. وتحسب للمسيري جرأته وشجاعته وذلك عندما طالب أيام حكم الملك فاروق بتغيير اسم شارع فؤاد وهو الشارع الرئيسي في دمنهور إلى اسم أحمد عرابي، وكان وقتها عضواً في المجلس البلدي للمحافظة، وقامت الدنيا ولم تقعد وشاءت الأقدار فقامت ثورة 23 تموز (يوليو) 1952، ووافقت حكومة الثورة على طلبه فقامت بتغيير اسم الشارع إلى شارع «أحمد عرابي» تخليداً لذكرى الزعيم المصري الكبير. واهتمام المسيري بالأدب لم يكن مقتصراً على أدباء الوجه البحري فقط بل امتد إلى أدباء محافظات الصعيد أيضاً، ومن المواقف الجريئة في حياة المسيري أيضاً أنه بعث الى الزعيم جمال عبدالناصر رسالة يشكو فيها عدم الاهتمام بثقافة الأقاليم ومبدعيها وقصر الاهتمام على القاهرة وأدبائها وقال: «لا بد من تفتيت الإقطاع الثقافي المسيطر في القاهرة»، فكان أن أرسل له عضو مجلس قيادة الثورة ورئيس تحرير جريدة «الجمهورية» حينذاك أنور السادات ليتعرف الى مشاكل أدباء دمنهور الثقافية. وزار السادات المقهى وحضر إحدى الندوات الثقافية التي أقيمت خصيصاً بهذه المناسبة وسلّمه السادات رسالة من جمال عبدالناصر يعبّر فيها عن مدى اعتزازه وتقديره للدور الرائد الذي يقوم به عبدالمعطي المسيري. وكما كان «المسيري» قهوجياً متفرداً فقد كان مثقفاً متميزاً وشخصية قيادية من الدرجة الأولى حشد المثقفين خلفه يذهب بهم إلى كل مكان فكان يقيم ندواته في الكنيسة وكانت له علاقة وطيدة بالقس بولس رجل الدين المثقف الذي كان يعشق الشعر العربي، وهو من رواد مقهى المسيري المعروفين. لم يقتصر دور مقهى المسيري على الجانب الثقافي فحسب بل كان أيضاً دوراً رائداً في تحريك الشعور الثوري لدى الطبقات الكادحة من الشعب المصري إبان حرب 1948 حيث خرجت التظاهرات من المقهى لمناصرة شعب فلسطين وأصبح «المقهى» غرفة عمليات في حالة تأهب مستمر ومنه خرجت جموع المثقفين إلى شوارع مدينة دمنهور مؤيدة الضباط الأحرار عندما اندلعت «ثورة يوليو» 1952. وتوفي المسيري يوم وفاة عبدالناصر، ومن ثم وفي زحام هذا الحدث المثير لم تشعر بموت المسيري إلا قلة من أصدقائه وعارفي فضله مثلما حدث عندما توفي المنفلوطى الكاتب العظيم في اليوم الذي تعرض فيه زعيم الأمة سعد زغلول لمحاولة اغتيال فاشلة فرثاه شوقي بقصيدة صور في مطلعها انشغال الأمة بهول تلك الحادثة عن خسارتها بموت كاتبها العظيم (المنفلوطي) بقوله: «اخترت يوم الهول يوم وداع/ ونعاك في عصف الرياح الناعي/ هتف النعاة ضحى فأوصد دونهم/ جرح الرئيس منافذ الأسماع/ من مات في فزع القيامة لم يجد/قدماً تشيع أو حفاوة ساع». ولعل أفضل وصف لموهبة المسيري ما قاله الكاتب الصحافي رجب البنا في مقال نشر في الستينات: «وعبدالمعطي المسيري ينتمي إلى طائفة سقراط، فأعظم ما تركه ليس كتبه ولكن عظمته تكمن في أنه كان صاحب مدرسة في دمنهور، فمقهاه كان حقيقة مدرسة، وتلاميذ المسيري اليوم في كل مجلة وصحيفة وفي الإذاعة والتلفزيون».