يمثل المشهد العربي الراهن مرحلة تستحق الدراسة وتغري بالتأمل، فالثورات العربية والحركات الاحتجاجية والانتفاضات الشعبية تمتد على خريطة الوطن العربي في توقيت متقارب وبنمط لا يخلو من التشابه بل ويتصف أحياناً بالتماثل بل وربما بالتطابق أيضاً، ولكن ما يعنيني في هذه السطور هو أن أناقش العلاقة بين التجمعات الإقليمية في العالم العربي وتأثيرها في درجة التجانس القومي وانصهار العمل العربي المشترك بصورة مطلوبة في هذه الظروف الصعبة. ولكن دعنا الآن ننظر قليلاً إلى الوراء لنكتشف أن المحاور العربية ليست جديدة على الساحة: أولاً: إن «الهلال الخصيب» رؤية شامية عراقية انطلقت في المشرق العربي مع نهاية الثلث الأول من القرن الماضي لتشير إلى «سورية الكبرى» وأيضاً العراق كهلالٍ واحد نجمته في جزيرة قبرص، وقد قام «الحزب السوري القومي الاجتماعي» وزعيمه أنطون سعادة بالقيادة الفكرية لذلك التجمع العربي المشارقي إلى أن بدأت ممارسات معادية لذلك الاتجاه ودمغت الحزب والحركة معاً ب «الشوفينية» وانتهت بإعدام أنطون سعادة في مشهد درامي على ساحل البحر، وهو ما أبدع المفكر العربي الكبير هشام شرابي في وصفه وإبراز الجوانب الدرامية في حياة أنطون سعادة ونهايته، ما دفعني لمحاولة رد الاعتبار له في كتابي «تجديد الفكر القومي» الذي صدر عام 1993. ثانياً: إن وحدة وادي النيل كانت تعبيراً ظهر في القرن التاسع عشر يعكس روح الجغرافيا السياسية للعلاقة بين مصر والسودان تحت العرش العلوي لمحمد علي الكبير وأبنائه في محاولة لإثبات العلاقة الوثيقة بين شطري الوادي، ولكن الأمر تجاوز ذلك لكي يكون التعبير ذا مدلول سياسي في الدرجة الأولى، حيث كانت بريطانيا العظمى طرفاً ثالثاً إلى أن قامت ثورة تموز (يوليو) 1952 في مصر وما استتبعها من تطورات انتهت بتوقيع «اتفاقية الجلاء» عام 1954 ثم حصول السودان على استقلاله في أول كانون الثاني (يناير) 1956، وعلى رغم انقضاء المدلول السياسي لوحدة وادي النيل، إلا أن الوحدة الجغرافية التي تجمع دولتي مصب النهر لا تزال مؤثرة في مجريات الأمور تحت المظلة الإفريقية العربية على رغم انسلاخ دولة الجنوب أخيراً وفقاً لاستفتاء شعبي جرى بنتيجته تقسيم السودان. ثالثاً: إن الاتحاد المغاربي عكس هو الآخر ذلك التجانس البشري والتواصل العرقي بين الشعوب العربية في الشمال الإفريقي وتأسس به اتحاد ضم ليبيا وتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا وإن كان قد تعرض لحالة من التوقف يعود مصدرها الرئيس إلى النزاع الجزائري المغربي حول قضية الصحراء، ويعكس هذا الاتحاد النوعي ما جرى تسميته أحياناً «اتحاد شعوب الكسكس» و «الزعبوط» للدلالة على درجة الانصهار الاجتماعي التي تجمع بين الشعوب العربية الإسلامية على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط باستثناء مصر التي حاولت مغازلة ذلك الاتحاد في تسعينات القرن الماضي ولكنها لم تكمل الطريق. رابعاً: ربما يمثل مجلس التعاون الخليجي أكثر التجمعات الإقليمية العربية شهرة وتأثيراً منذ بداية ثمانينات القرن الماضي حتى الآن، وهو الاتحاد الذي يضم ست دول هي: المملكة العربية السعودية والكويت ودولة الإمارات العربية وقطر والبحرين وعمان، أي دول الجزيرة العربية والخليج باستثناء اليمن نظراً لاختلاف نظامه السياسي عن نظام التوارث الرسمي لدول الخليج الأخرى، وقد فوجئنا في الآونة الأخيرة بدعوة وجّهها مجلس التعاون الخليجي إلى كل من المغرب والأردن للانضمام إليه مما أغرى كثيراً من الخبراء للحديث عن مجلس العروش العربية الذي يضم الممالك والإمارات، تمييزاً عن النظم الجمهورية التي عانت في الفترة الأخيرة من تغييرات مفاجئة وشهدت تحولاتٍ شعبية ورسمية لم تكن في الحسبان، وتبقى تجربة مجلس التعاون الخليجي هي الأكثر تنظيماً ونجاحاً حتى الآن على رغم ما يرد عليها من إحساس شديد بالتميز الذي يصل إلى حد الإفراط في الذاتية واختزال الأمن القومي العربي كله في أمن تلك المنطقة وحدها التي تعاني من أطماع وتهديدات بعض دول الجوار بل والقوى الكبرى أحياناً، بسبب تعاظم ثروة دول المجلس وتزايد شهوة السطو على مقدراتها الطبيعية، ولا شك في أن المملكة العربية السعودية هي التي تقود حركة ذلك المجلس على رغم محاولات بعض دوله التملص من مظلة العباءة السعودية رغبة في الارتباط المنفرد بالقوى الأجنبية المختلفة! خامساً: ليكن مفهوماً أن الانتماء الى كيان إقليمي أصغر لا يتعارض إطلاقاً مع الانتماء القومي الأكبر ما دامت الغايات واحدة والأهداف مشتركة، فالولاء لعضوية مجلس التعاون الخليجي – على سبيل المثال – لا يتعارض مطلقاً مع الولاء لمفهوم الأمة العربية الواحدة من دون تمييزٍ أو تفرقة، والأمر ينسحب على باقي الكيانات الجغرافية الأخرى داخل إطار الوطن العربي، إذ إن الولاء الأكبر لفكرة العروبة لا يصطدم أبداً بالانتماء الى الأوطان أو الكيانات الجغرافية تحت مظلة واحدة في النهاية تأخذ مكانتها من الواقع القومي والتاريخ المشترك. سادساً: إنني أنبه هنا الى أن التعصب الإقليمي أحياناً يمكن أن يؤدي إلى نسف جوهر الفكرة القومية وأن يحيل الأمر برمته إلى حالة تجاذب بين الانتماءات وتضارب بين الولاءات ويعبر عن فهم محدود لطبيعة العلاقة بين القوى العربية المختلفة. وعلى رغم أن ذلك لم يحدث في شكلٍ واضح حتى الآن، إلا أن المستقبل قد يحمل في طياته ما يوحي بشيءٍ من ذلك. ويذكر أن المخاوف التي تشعر بها بعض دول الثراء العربي أحياناً قد تقود إلى التقوقع أو الارتباط الشديد بقوى أجنبية وتحالفات غامضة. سابعاً: إن الأمن القومي العربي ظاهرة متكاملة تختلط فيها المصادر الطبيعية بالموارد البشرية ويلعب فيها العامل الجغرافي دوراً محسوساً، فالجوار الإسرائيلي يختلف عن الجوار الإيراني ولكن الشعور بالتهديد والخطر يكون موجهاً في النهاية لمنظومة الأمن القومي العربي كلها مهما اختلفت الأسباب وتفاوتت الدرجات في الخطر المحدق. وينبغي أن ندرك جميعاً أن الأمن القومي العربي يصعب اختزاله في منطقة بذاتها أو بلدٍ بعينه إذ إن مفهوم الأمن القومي المعاصر أوسع بكثير من المفهوم «الجيو بوليتيكي» الذي كان شائعاً من قبل، بل امتد الآن لكي يشمل مجموعة العوامل الاقتصادية والعسكرية بل والثقافية والاجتماعية أيضاً. ولعل الحروب الأخيرة في مناطق مختلفة من العالم وأقاليم متعددة منه هي تأكيد لصحة ما ذهبنا إليه. هذه قراءة سريعة في ملف الكيانات العربية المختلفة تحت مظلة القومية العربية أردنا بها أن نلفت النظر إلى أهمية الحوار العربي المشترك الذي يتخطى حاجز الكيانات ليصبح مؤثراً في الروح المشتركة التي تنظم طبيعة العمل العربي الواحد، إذ إنه لا ينبغي أن نتصور في عصر الكيانات الكبرى أن يتجه العرب إلى الكيانات الصغرى. ولكن لا بأس في أن تكون تلك الكيانات المتخصصة في منطقة بذاتها تعبيراً عن التوجه إلى كيانٍ أكبر بمفهومٍ أوسع، فأنا لا أشعر بفروقٍ بين مواطن عربي من البحرين ونظيره من المغرب ولا بين سوري قادم من الحدود مع تركيا وسوداني يقف على مشارف الجنوب، فنحن العرب يتعين علينا أن نسعى جميعاً إلى بناء جسور الثقة وتشييد دعائم الارتباط من أجل تحسين صورتنا أمام الآخر ودفن خلافاتنا الفرعية ومشاكلنا الحدودية إذا كنا نريد حقاً مخاطبة العالم في شكلٍ مختلف، أما عن انحياز البعض الى طائفة معينة، فذلك يدل على قصورٍ في النظر وضباب يحجب الرؤية، إذ إننا نحن العرب مهيأون لاتخاذ القرار العربي الكبير، فالكل ذاهبون ولكن الأمة هي الباقية. * كاتب مصري