قليلة، بل ربما لا توجد، أفلام بيدرو المودوفار، التي تغيب عنها المرجعية السينمائية، فسينما هذا المخرج الإسباني، الذي لا يكف عن اعادة إحياء سينماه كل مرة - فيلماً بعد فيلم - من جديد، تقوم دائماً على مرجعية سينمائية واضحة: عالم المودوفار، حتى وان كان يمت الى الحياة بصلة وثيقة، هو عالم ينتمي الى السينما، أو - على الأقل - يدنو منها في كل مرة أكثر وأكثر، وهذا منذ روائيّه الطويل المعروف «بوبي... لوثي... الخ» (1980). وثمة لدى المودوفار أحياناً أفلام تدور «أحداثها» في جو السينما - والتلفزيون والاستعراض - عموماً (مثل «كيكا» و «كل شيء عن أمي»)، ما يشكل نوعاً من تحيات متواصلة لأساتذة سينمائيين كبار سبقوه، ومن بينهم روسليني («رحلة في ايطاليا») وبرغمان («برسونا» و «سوناتا الخريف») وجوزف مانكفتش («كل شيء عن حواء» و «عربة اسمها الرغبة»). والحقيقة أننا لو واصلنا الكلام في هذا السياق، سنحتاج حيزاً واسعاً... وهذا كله كي نقول ان المودوفار أوصل «العلاقة مع السينما» في فيلمه الجديد «عناقات محطمة»، الى مستويات استثنائية. ذلك ان ما لدينا هنا، بالتحديد، هو فيلم عن السينما. عن قوة السينما. وعن حضورها... الى درجة قد يبدو الفيلم معها أقرب الى أن يكون منتمياً الى «سينما السيرة الذاتية». أو على الأقل السينما الذاتية المتخيلة. إذ يمكننا، بعد كل شيء أن نكون على يقين بأن ما يحدث في «عناقات محطمة» لا علاقة له بسيرة بيدرو المودوفار الذاتية. سينمائي لا يرى ومع هذا، فإن الشخصية المحورية في الفيلم (ماتيو بيانكو/ هاري كين) شخصية سينمائية، كان يكتب أفلامه ويخرجها حتى اللحظة التي فقد فيها بصره، فبدّل اسمه نهائياً من ماتيو الى هاري، وتوقف - طبعاً - عن الإخراج، ليكتفي بأن يكتب سيناريوات لأفلام يحققها آخرون. هذا التبديل هو - هنا - أشبه بموت حقيقي. والحال أن ولوج هذا الموت كان مقصوداً من جانب ماتيو الذي انما فقد بصره في الوقت نفسه الذي فقد فيه قبل أعوام كثيرة من بداية أحداث الفيلم، حبيبته لينا (بينيلوبي كروز في واحد من أجمل أدوارها) في حادث سيخيل الينا في النهاية أنه مدبر، ربما، من جانب المنتج العجوز ارنستو مارتل، الذي كانت لينا عشيقته قبل أن يخطفها منه ماتيو، لسنوات عديدة خلت، حين أولع بها هذا الأخير - وأولعت به - تحت ظل عملهما معاً في فيلم أنتجه ارنستو من أجل عشيقته، من دون أن يدري سلفاً أنه سيفقده اياها. وهذا الفيلم عنوانه «فتيات وحقائب»، لكنه، في حقيقة أمره يكاد يكون واحداً من أفلام المودوفار الشهيرة «نساء على حافة الانهيار العصبي». فهلاّ يمكننا أن نقول ان الدائرة، بمعرفتنا هذه الحقيقة الأخيرة، تكون قد اكتملت لتضعنا أمام ما يدفع - خطأ طبعاً - الى الافتراض بأننا هنا ازاء سيرة ذاتية لألمودوفار؟ إن الأحداث التي جرت في الماضي هي التي تشكل موضوعاً أوّل في الفيلم، لكنها هنا تروى لنا على لسان ماتيو (وقد حمّل نفسه اسم هاري)، الذي يبدو أنه قرر ذات لحظة أن يوقظ تاريخه الخاص من سباته، راوياً لمساعده دييغو ما حدث له، وهو غير دار بما ستقوله له مساعدته السابقة وأم دييغو (في مقطع من نهاية الفيلم هو على أية حال، أضعف ما فيه، بل يبدو مجانياً للغاية) من أن دييغو هو في الحقيقة ابنه. لقد كان واضحاً أن هذا الجانب الأخير من الحكاية مقحم على الفيلم، وقد يكون مجرد تحية الى واحد من أساطين السينما الميلودرامية: دوغلاس سيرك، الذي اشتهرت أفلامه الهوليوودية في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي بمثل هذه الخبطات المسرحية. بيد أن هذا الجانب من الفيلم في الإمكان صرف النظر عنه، لأن الفيلم الحقيقي الذي يقدمه المودوفار هنا، هو في مكان آخر، فتبدو علاقته بذلك الجانب الميلودرامي من الفيلم واهية جداً. الفيلم الحقيقي هنا هو ذلك المزج الذي أقامه المودوفار - في سيناريو مميز كتبه بنفسه، طبعاً - بين الماضي والحاضر من ناحية، وبين السينما والحياة من ناحية ثانية. فأحداث «عناقات محطمة» تروى في رحلات مكوكية بين ما حدث في الماضي (حين كان ماتيو لا يزال يحمل اسم ماتيو ويمكّنه بصره من أن يحقق أفلامه بنفسه... أي حين كان لا يزال حياً، يعيش حاضره بقوة) وبين ما يحدث الآن (حين فقد ماتيو القدرة على أن يعيش السينما كحياة ثانية/ أو حياة أولى، فعزل نفسه في مكان بعيد، هو المكان الذي شهد أحلى سنوات سينمائيته المكتملة وغرامه البديع). وأحداث «عناقات محطمة» من الناحية الثانية، تتقاطع مع أحداث الفيلم داخل الفيلم: أي «فتيات وحقائب» الفيلم الذي وُضع على الرف بعد أن قتلت لينا، في حادث السيارة، ولم يعد ماتيو قادراً على اكماله (أو بالأحرى لم يعد راغباً في ذلك). وهذه الأحداث، على أية حال، بسيطة: انها حكاية غرام واستحواذ وغيرة (تخلق فيلماً ثانياً داخل الفيلم، هو ذاك الذي يصوره ارنستو الابن بناء على طلب أبيه المنتج، ملاحقاً فيه حركات لينا وماتيو وسكناتهما، من بعيد، كي يتابع الأب تطور حكاية الغرام بين هذين ويكتشف كم ان لينا خدعته. والحقيقة ان هذا الفيلم الثاني، داخل الفيلم، يتيح لألمودوفار أن يقدم تحيتين سينمائيتين اضافيتين الى فن السينما والى اثنين من أساطين هذا الفن السابقين عليه: فرانسيس فورد كوبولا، في فيلم «المحادثة»، حيث التلصص يكون صوتياً، بتكليف من رجل أعمال يريد - ظاهرياً - مراقبة زوجته وعشيقها. ومايكل باول، في فيلم «بيبنغ توم»، الذي أوصلت فيه السينما لعبة التلصص وموضوعها الى الذروة). كلمات متقاطعة واضح أن هذه العناصر كلها، تجعل هذا الفيلم يبدو أشبه بلعبة كلمات متقاطعة، ما يحول الحكاية من لعبة سردية بسيطة، الى اعادة خلق لمناخ يرتبط بفن السينما نفسه كموضوع لا تكف السينما عن سبر أغواره، منذ زمن بعيد. فالسينما داخل السينما. السينما كموضوع للسينما، إذا كان بيدرو المودوفار، يوصله هنا الى مستوى استثنائي ندر ان كان ثمة سابق له، فإنه، أي هذا الموضوع، موجود وأحياناً كنوع مستقل، منذ العقود الأولى لولادة الفن السابع. وهو نوع مرغوب ومحبب دائماً، لأنه يتيح من الازدواجيات الحديثة والمناخية ما قد تنوء بحمله أنواع سينمائية أخرى. وهذا واضح هنا في «عناقات محطمة»، حتى ولو بدا في الجزء الأخير من الفيلم أن استعادة المشاهد التي كان ماتيو بيانكو قد أنجزها من «فتيات وحقائب»، وعرضها كاملة أمامنا بعد أن وصل الفيلم الآخر (أي الفيلم الذي أتينا، نحن المتفرجين، لنشاهده «عناقات محطمة») الى نهايته، أتت، تلك الاستعادة عبئاً على الفيلم، إذ انها - عدا عن وضعنا أمام التباس ان تكون هذه المشاهد جزءاً من فيلم المودوفار القديم «نساء على حافة الانهيار العصبي» - لم تحمل اضافة حقيقية الى سياق الفيلم نفسه. غير أن هذا لا ينقص كثيراً من جمال فيلم، يقول المودوفار انه انما ولد لديه من مشاهدته ذات يوم صورة رجل وامرأة عند شاطئ جزيرة... فتساءل عمَّ يمكن أن يكوناه؟ وما الذي يفعلانه؟ وما الذي يفكران به؟ نعرف طبعاً أن أفلاماً كثيرة في تاريخ السينما تولد من هذا النوع من الأسئلة. ونعرف أن ليس ثمة في الحقيقة ما يدفعنا الى عدم تصديق المودوفار حين يقول هذا... غير أن ثمة في الأمر جانباً آخر، لا يمكن إلا التوقف عنده، جانباً يكاد يقول لنا ان «عناقات محطمة» يكاد يبدو بديهياً في سياق سينما المودوفار، وليس فقط من ناحية ارتباطه بمنطق «الفيلم داخل الفيلم»، بل تحديداً انطلاقاً من فكرة ان المودوفار آن له، أخيراً، أن يحقق فيلماً عن الحب والغيرة والموت وانبعاث الحياة - انبعاثها من طريق السينما نفسها -، وهي مواضيع يمكننا، عبر استعراض مجمل سينماه، منذ بداياته عام 1980، أن ندرك، انها ولو بدت نتفاً هنا ونتفاً هناك، لم تشغل حيزاً كبيراً في هذه السينما، حتى وإن بدت موضوعاً طاغياً - وفي شكل مزدوج - في «تكلم معها» (2001). بل علينا أن نلاحظ أن ما يقدمه لنا «تكلم معها» هو الحب المستحيل، الحب الذي لا يكتمل - وقد بدا فيلمه يومها حنوناً مع الرجال، على غير العادة في سينما المودوفار - لأن عقد الثنائي فيه ينفرط تحت وقع الموت والقدر. صحيح هنا، في «عناقات محطمة» ان عقد الثنائي ينفرط بدوره، ولكن ليس تحت وقع القدر، بل في شكل شبه جنائي (ما يجعل من «عناقات محطمة» أيضاً فيلماً بوليسياً في جانب منه، أو على الأقل - وحتى نبقى في جو التحيات التي يوجهها المودوفار في الفيلم الى تاريخ السينما -، تحية الى النوع البوليسي (بخاصة ان ليس ثمة استكمال لهذا الجانب في الفيلم، أو تصويراً لما يترتب على وجود جريمة في الأمر). ومن هنا، إذا كان لا بد من خاتمة لهذا الكلام، فلا شك في أن هذه الخاتمة يجب أن تدور من حول واقع أساسي يبدو كالبديهية هنا، ويعطي «عناقات محطمة» كل جماله وأناقته: واقع أن بيدرو المودوفار قدم في هذا الفيلم، موضوعاً «سينمائياً» - أي عن السينما في جوهرها وتاريخها - يبدو الأجمل والأقوى، على الأقل منذ «النافذة الخلفية» لأستاذ الجميع الفريد هتشكوك. ولعل في وسعنا هنا، بعد كل ما قلناه عن مشهد «فتيات وحقائب» الذي يختم «عناقات محطمة» ان نقول انه، ومهما كان من شأنه، قدم كناية عن قدرة السينما على بعث الحياة من جديد في من وما كان قد مات... وابتسامة هاري (وقد استعاد هويته كماتيو، في آخر الفيلم) دليل على هذا...