غالباً ما يدفعنا ترتيب الفنانين الكبار الذي يتّبعه مؤرّخو الفن إلى الاعتقاد بأن أهمية هؤلاء الفنانين تنحصر في الحقبة «التاريخية» التي يُفترَض أنهم قدّموا فيها أبرز إسهاماتهم الفنية. وينطبق هذا الأمر على العملاق النروجي إدوارد مونك (1863 - 1944) الذي ما زال يُعتبَر فناناً من القرن التاسع عشر نظراً إلى قيمة الأعمال التي أنجزها في العقد الأخير من القرن المذكور وجسّد فيها في شكلٍ استحواذي حالة القلق والاستلاب التي يعاني منها الإنسان في عالمنا. طبعاً، لا يمكن التشكيك في أن مونك بلوَرَ بين عامَي 1892 و1900 ذلك الأسلوب الشخصي الفريد الذي يقع عند تقاطع الرمزية والتعبيرية والفن الجديد، وأن المواضيع القاتمة التي عالجها بهذا الأسلوب في بداياته تسلّطت على فنّه حتى وفاته. ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن جوهر عمله يتركّز في تلك المرحلة، فمسيرته الفنية التي انطلقت عام 1880 امتدّت حتى عام 1944، وبالتالي أكثر من ثلثي إنتاجه الفني أنجزه بعد عام 1900، أي في المرحلة التي اعتبرها صديقه الكاتب وهاوي الفن رولف ستينيرسن «الأكثر خصوبةً في مساره». وبغية كشف هذه الحقيقة، ينظّم متحف «ميتروبوليتان» (نيويورك) حالياً معرضاً مثيراً لهذا الفنان يتوق أيضاً، من خلال عشرات اللوحات التي تغطي العقود الستة التي نشط مونك خلالها، إلى تسليط الضوء على الحدّة والوحي المتجدّدين اللذين استكشف بهما مواضيع سنواته الأولى. ولفهم سيرورة تطوّر الفنّ عند مونك، لا بد من الإشارة أولاً إلى أنه فنانٌ عصامي لم يرفض فقط التعليم الذي تلقّاه خلال فترة دراسته القصيرة للفن في بداياته، بل ثار عليه بسرعة وفضّل تغذية فنّه من مآسي حياته، وفي مقدّمتها وفاة أمّه وأخته وهو صغير، ثم علاقته التعيسة مع زوجته تولا لارسن، قبل أن يطوّر فنّه في مطلع القرن العشرين من أجل معانقة قيَمٍ شاملة. وفي هذا السياق، لم تعد المواضيع السوداء التي ثابر على معالجتها تعكس معاناته الخاصة، بل معاناة البشرية جمعاء. وفعلاً، سعى مونك طوال حياته إلى سبر لغز النفس البشرية انطلاقاً من صور كانت تتسلّط عليه منذ صغره. ولذلك، يقودنا التأمل في أعماله، الهلسية في طبيعتها، إلى تلك الذكريات المؤلمة في عمق وعيه. وفي الوقت نفسه، إلى داخل أنفسنا بالذات، تماماً كما يحدث أمام نصوص مالارميه التي ينعكس وعينا في مرآتها ويتحطّم. وبتمكّنه من تجسيد ذلك الشعور بالضيق والاكتئاب والمنازعة الذي عانى منه، بحدّة دراماتيكية لا سابق لها، فرض مونك نفسه كأحد روّاد التيار التعبيري، مجبراً معاصريه، بمواضيعه وتقنيته العنيفة وإنسانويته النابضة، على التأقلم داخل عالمٍ تشكيلي شديد الخصوصية يشكّل نقيضاً راديكالياً للتوجّه الأكاديمي، بجماليته المبتكَرة والمشحونة بتوتّر سيكولوجي استبطاني مفرط. ولا عجب في أن لوحات مونك صدمت النقّاد في زمنه. فالانفعال الحاد المستشعَر داخلها جعلها تبدو لهم وكأنها أعمال غير منجَزة أو متحكَّم بها، في ضوء الأسلوب الواقعي البورجوازي الذي كان مرجعهم آنذاك. في حين أن حداثتها التي تستبق زمنها تكمن تحديداً في خطوطها العصبية والحيّة، وفي ألوانها الحارّة والحادّة، المتضاربة غالباً وغير الطبيعية، التي تصعق المتأمّل فيها بقوتها الدراماتيكية. هذا ما نستنتجه بسرعة في سلسلة لوحات مونك الشهيرة التي أرادها استعارة للحياة، من الولادة حتى الموت، أي «القبلة» (1893) و«مصّاصة الدماء» (1895) و«السيدة العذراء» (1894) وخصوصاً «الصرخة» (1893) التي استوحاها من هلوسة اختبرها أثناء نزهة له شعر خلالها بأن «صرخةً لا نهاية لها تدوي في الطبيعة»؛ لوحة أصبحت رمز القلق الوجودي بمناخها الدراماتيكي الناتج من تموّجات خطوطها وألوانها، ومن سدّ شخصيّتها الرئيسة أذنيها بيديها وتشوّه وجهها بفعل تلك الصرخة. وهذا ما نستنتجه أيضاً في أعماله اللاحقة التي قارب فيها مواضيعه المفضّلة ضمن أسلوب تشكيلي وتقنيات جديدة عمّق بواسطتها منظور هذه اللوحات وذوّب نطاق أو حدّ أشكالها وأكثر من المفاعيل الحيوية داخلها وعزّز حدّة ألوانها. وبالتالي، معرض مونك الحالي ليس معرضاً استعادياً آخر تم فيه جمع أبرز أعماله ضمن ترتيبٍ تاريخي لها، بل محاولة موضوعية لاستكشاف مختلف جوانب حداثته. وفي هذا السياق، يسائل منظّموه أيضاً نزعة الفنان على استعادة مواضيعه السابقة وتكرارها في شكلٍ مطابق، أو إعادة تفسيرها داخل ظرفٍ جغرافي جديد أو بواسطة وسيطٍ تقني آخر. سلوكٌ يعكس طرح مونك، أكثر من أي فنانٍ آخر من جيله، مسألة إمكان استنساخ الصور، المركزية في فن القرن العشرين. يتوقّف المعرض أيضاً عند تركيز الفنان على موضوع البورتريه الذاتي بعد عام 1902، كاشفاً عن وجود أكثر من 40 لوحة من هذا النوع مقابل خمس أنجزها قبل التاريخ المذكور. موضوع قلب مونك بواسطته النظرة، كما لو أنها قفّاز، كما يتجلى ذلك خصوصاً في الرسوم واللوحات التي حققها في الثلاثينات، أي أثناء الفترة التي تشوّش فيها بصره إثر نزيفٍ في عينه اليمنى. فمن خلال رسمه بعينٍ معوقةٍ، تمكّن من تمثيل نظرته، أو الرؤية نفسها، أو «ما في داخل الرؤية»، كما قال ماكس أرنست في الفترة ذاتها، مثبتاً بذلك أيضاً عن حداثةٍ كبيرة. ولا شك في أن هذه الحداثة بالذات هي التي تفسّر الأثر البليغ الذي تركه مونك في الفن الغربي على طول القرن العشرين. وبفضل عفوية رسمه واستقائه مضمون أعماله المقلِق من تجربته الوجودية المؤلمة، أنجب - في ظروفٍ أيديولوجية مختلفة وأحياناً متناقضة - «أبناء روحيين» نشطوا داخل الحركات التعبيرية المختلفة في أوروبا والولايات المتحدة، بدءاً بفناني حركة «الجسر» الألمانية، ومروراً بفناني حركة «كوبرا»، وانتهاءً بفرانسيس بيكون وويلام دو كونينغ وبينغت أولسن وجورج بازيليتس. يبقى أن نشير إلى أن الخطاب النقدي الطاغي حول مونك، منذ وفاته، لم يتمكن بعد من تجاوز تلك النظرة إليه كفنان اسكندينافي معزول وقلِق، ومن اعتماد المقاربة السيكولوجية لعمله. إذ ما زالت كآبة النفْس الإسكندينافية وضوء الشمال والمناخ الخاص بهذه المنطقة تُشكّل المفاتيح لقراءة لوحاته، إضافة الى اختبار الفنان الاكتئاب والموت منذ صغره. ولكن ثمة عوامل أخرى لعبت من دون شك دوراً في بلورة فنّه ولم تؤخذ بعد في الاعتبار، حتى في معرضه الحالي، مثل أسفاره الكثيرة والعلاقات الغزيرة التي نسجها خلالها، وتردّده الثابت إلى دور السينما في العقود الأولى من القرن العشرين، وشغفه بالفن الفوتوغرافي، وقراءته الصحافة الدولية واشتراكه في الكثير من المجلات المصوّرة، وبالتالي اهتمامه بالأحداث السياسية والفنية الكبرى لزمنه ومتابعته النقاشات حولها.