لاحظنا فيما ورد ذكره بمقالاتنا السابقة عن الاتجاهات الفنية المختلفة التي بدأت بفنون عصر النهضة الأوروبية "Renaissance" ما بين القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر ميلادي وما حدث من تغيرات بأن فرضت "مدرسة باريس" نفسها على كثير من فناني العالم بأساليبها الصارمة بزعامة مؤسسها الفنان "لويس دافيد" عام 1795م. ومن ثم التغييرات السريعة والمتلاحقة منذ ظهور الأساليب التأثيرية أو الانطباعية التي ظهرت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ميلادي وما تبعها من اتجاهات أخرى. في ذات الوقت كانت هناك مدارس أخرى استقلت بمناهج مختلفة بعيداً عن باريس فما حدث على سبيل المثال في ألمانيا أن كونت جماعة تسمى "جماعة القنطرة-Die bruche" في عام 1905-1913م بزعامة الفنان الأسكندنافي إدوارد مونش "Eduard Munch" وعرف عن فنانين هذه الجماعة النزوع إلى نهج تعبيري انفعالي وصفه الدكتور المؤرخ الألماني "هارتلوب" بأنه يحمل سمات التعبيرية الصارخة ونستطيع أن نلمسها في لوحة "الصرخة" الشهيرة للفنان مونش التي لا تحمل أي مدلولات مثالية بقدر التعبير عن الصرخة المدوية التي تمثلها اللوحة والآتية من الفم الذي أخذ الحيز الأكبر من الوجه المشوه من شدة الألم بالإضافة إلى عامل اللون الأحمر الذي أخذ الجزء الأكبر في التعبير عن ما تركته الحروب من دمار للبشرية، ومن هنا ولد المنهج التجريدي الذي كانت غايته الأساسية هي نقل شعور يمكن تمثيله تمثيلاً وافياً برمز مجازي. الفارس الأزرق كاندسكي 1913 كذلك عند لقاء الفنان الروسي المولد واسيلى كاندنسكي بالفنان الألماني فرانس مارك شاركا معاً عام 1910م في معرض عنوانه "الفارس الأزرق- blue Reiter", وأخذ كاندنسكي يجري تجاربه في التكوين الرمزي الذي استقطب فنانين آخرين ومن هنا تكونت جماعة "الفارس الأزرق" عام 1911م في ألمانيا تزعمها الفنان كاندنسكي كما صدرت له عدة مؤلفات منها كتابه "الروحانية في الفن" نشرت الطبعة الأولى منه بالألمانية وترجم إلى الإنجليزية عام 1912 م, وبهذا اكتشف التجريد المعاصر أو التعبيرية التجريدية "Abstract Expressionism" وهي تركز على الخيال البصري غير العادي مترجمة بذلك الشعور الباطني للفنان أو بمعنى آخر "الضرورة الداخلية" التي أراد التعبير عنها بالتمثيل الرمزي كما عرّفها كاندنسكي بأنها لا تهدف إلى التجريد الكامل للألوان حتى لا يتخذ العمل الشكل الهندسي, ولا أن تُطابق في ذات الوقت ألوان الطبيعة المنطقية. فقد كانت وجهة نظر كاندنسكي تعنى بالخيال الفكري وأن هذا النوع من الفن التجريدي يخاطب الروح أكثر من مخاطبته العين. إنها هذا الانسجام الباطني الذي تنبثق من خلاله أشكال عشوائية وليست تركيبات هندسية دقيقة لتجتمع وتتحد في المضمون فالذي يبدو ظاهرياً مفككاً قد يحتوي على معنى آخر باطني. ثيو فان ديسبرج التجريدية الهندسية 1917 وقد عرّف النقاد كاندنسكي بأنه يرسم أنغاماً حطم بها الحواجز بين الموسيقى واللوحة الفنية، ونستطيع أن نشبه الفرق بين التجريدية التعبيرية والتعبيرية الحديثة التي سبق ذكرها عن أسلوب "مونش" أن الأولى قد تتفق مع الشعر النثري الذي لا ينتمي إلى بحور أو قواعد لغوية والثانية قد تحتوي على بحر من بحور الشعر ولكنها ليست باللغة الفصحى. الفن التجريدي له عدة نزعات فرعية ولكنه يرتكز على قسمين كبيرين الأول هو ما سبق ذكره عن "التعبيرية التجريدية" والقسم الثاني هو التجريدية الهندسية "Geometric Abstractionism" الذي تزعمها الفنان الهولندي بيت موندريان والفنان الهولندي ثيو فاندسبرج وظهرت عام 1917م. وانتهج جماعة التجريدية الهندسية مبدأ التجريد بأن ركزوا على الأشكال الهندسية وبخاصة المستطيل الذي نلاحظه بقوة فى أعمال بيت موندريان باستخدام الخطوط السوداء كفاصل بين المستطيلات ودرجات الألوان والتي تستخدم إلى الآن في الفن الحديث. لوحة الصرخة للفنان إدفارت مونش 1893 لاحظنا هنا أن هذه الاتجاهات المعقدة في الفن الحديث قد اهتمت بالتعبير عن السيكولوجية أو القيم الروحية وأن الفنان كان يجتهد بجانب حفاظه على العنصر البنائي للعمل الفني بأن يجعل العنصر التعبيري مجالاً رحباً لا يحده حدود، وقد يكون في عالمنا المعاصر التوجه نحو هذا الأسلوب من قبل الفنانين العرب بكثرة وبصورة ملحوظة, فهناك فنانون قد ارتبطوا بموروثات ثقافية مشتركة وتعمقوا في دراسة الأساليب والاتجاهات وألموا بالجوانب والعوامل التي طورت الفنون منذ فنان الكهف إلى وقتنا الحالي, وأيضاً الدوافع التي دفعت هؤلاء الرواد الغربيين إلى هذا الانقلاب في تعدد الأساليب والشطط في التقنيات والأساليب الفنية المعاصرة ومن هذه الدوافع الظروف الاجتماعية، والحروب، والظروف الاقتصادية، والاكتشافات العلمية، والنظريات الفلسفية والأدبية وغيرها وهؤلاء الفنانون العرب الملمين بهذه العناصر نجحوا في أن يستفيدوا منها وأن يقدموا فناً معاصراً راقياً لا يخلو من الهوية والانتماء الذاتي مستخدمين هذه المعلومات والخبرات بتميز لبناء نهضة فنية حديثة لبيئتهم وأوطانهم, ومع هذا نجد رموزاً أخرى من الفنانين العرب قد اتخذوا التجريدية كنوع من الهروب من الأسس الفنية الصحيحة وأصبحت أعمالهم تتشابه وكأنها نسخ مكررة من الألوان تحتوي على معان مبهمة بدون أن يتأثروا بالتدرج الواعي للاتجاه التجريدي. موندريان التجريدية الهندسية