عند مشاهد النهاية في فيلم «الإمبراطور الأخير» لبرناردو برتولوتشي، حيث يصطحب الإمبراطور السابق العجوز بويي، طفلاً ليريه أنه كان حقاً آخر عاهل حكم الصين، صاعداً معه إلى غرفة العرش السابقة وقد أضحت الآن جزءاً من متحف، يكون تأكيد بويي، الثمانيني، للطفل أنه كان هو حقّاً الإمبراطور، من طريق علبة معدنية صغيرة كان منذ طفولته خبأها في مكان سري في العرش. وحين يفتح الطفل العلبة تقفز منها جرادة كانت موجودة هناك منذ زمن بعيد جداً. ترى، أفليس في وسعنا أن نرى الجرادة كناية عن الذاكرة. والعلبة كناية عن السينما؟ بالتأكيد. لكن الأهم من هذا أن المشهد الحميم والخاص الذي نراه، وفيه عجوز منهك يعيش أيامه الأخيرة وطفل يكاد لا يعي مما حوله شيئاً، يبدو لنا هنا على حميمية تلوح في ظاهرها على تناقض تام مع ضخامة فيلم يروي، أصلاً، ثمانين عاماً تقريباً من حياة الصين، آخر الإمبراطوريات القديمة في تاريخ البشرية. من ناحية مبدئية فيلم «الإمبراطور الأخير» فيلم تاريخي. لكن التاريخ هنا يروى من طريق فرد عاشه، وربما عاشه في وعيه الباطني أكثر مما عاشه في وعيه الظاهري. ولعل هذا ما يعطي هذا الفيلم تلك الحميمية، التي ميزت دائماً سينما برتولوتشي، حتى وإن اختفت دائماً خلف قناع الأحداث الكبيرة. وهذا الاختفاء كان هو ما جعل بعض نقاد السينما يقسمون أفلام برتولوتشي إلى قسمين رئيسين: قسم ضخم يتعامل مع التاريخ وأحداثه الكبرى، وقسم آخر حميمي خاص، ليقولوا إن أفلام هذا القسم الأخير تبدو أشبه باستراحة محارب يلجأ إليها هذا المخرج الإيطالي بين فيلم ضخم وآخر. خصوصية لكن هذا ليس دقيقاً، إذ حتى في أفلامه الضخمة، لن يبدو لنا برتولوتشي سوى مخرج حميم وخاص جداً يطرح أسئلته الخاصة على السينما والعالم... وإلى درجة تبدو معها أفلامه كلها أشبه بسيرة ذاتية متواصلة. ومن هنا لم يكن مخطئاً ذلك الناقد الإيطالي الذي قال عن سينما برتولوتشي إنها «إلى جانب سينما فيلليني، تبدو الأكثر ارتباطاً بالسيرة الذاتية لصاحبها». وقد يحدث في بعض الأحيان أن يستعير برتولوتشي لسيرته الذاتية، أشخاصاً يبدو، ظاهرياً، أن ثمة انفصالاً تاماً بينه وبينهم، كما هو الحال مثلاً في «آخر تانغو في باريس»، أو... في شكل أكثر راهنية، في فيلمه الأخير «الحالمون». هذا الفيلم الذي ينطلق، كما تنطلق معظم أفلام برتولوتشي الأساسية من سؤال ذاتي جداً هو: «أين كنت يا ترى، حين اندلع ربيع باريس 1968؟». صحيح أن جواب برتولوتشي كان واضحاً: «لم أكن هناك»، فهو كان في ذلك الحين يصور فيلمه «الشريك» حاصداً سمعة طيبة كان حققها له فيلمه الأول «قبل الثورة». ولكن اليوم، إذ ننظر إلى هذين الفيلمين المبكرين في مسيرة برتولوتشي، سنجد أن مخرجنا لم يكن أبداً خارج ذلك «الربيع» بل داخله حتى وإن لم ينزل الشارع مع الطلاب المتظاهرين، ولم يقم متاريس أو ينادي بشعارات: كان عمله السينمائي هو ثورته، هو الذي كان في ذلك الحين في السابعة والعشرين، «أي أكبر قليلاً من الطلاب صانعي الربيع الثوري آنذاك»، كما يقول. مهما يكن من أمر، فإن برناردو برتولوتشي هو ابن من أبناء حركة الشبيبة والطلاب في ذلك الحين. لكنه ابن لا يعيش أية أوهام، ويعرف أن التغيير الحقيقي لا يكون عفوياً ولا مفاجئاً، ولكن عبر التراكم، وعبر مراجعة الذات والعالم. صحيح أن من غير المنطقي القول إن أفلامه كلها تحمل تلك المراجعة، ولكنها تحمل التراكم، انطلاقاً من لغة الذات على الأقل. وعلى هذا النحو - وكما سنرى - يمكننا أن نفهم كيف أن سينما برتولوتشي هي في نهاية الأمر، سينما راهنة ومعاصرة جداً... وحتى عبر خوضها في أجواء تبدو خارج الزمن وخارج المكان الذي ينتمي إليه، كما هو حال «ثلاثيته الاستشراقية» التي حققها في أفلام ثلاثة عرضت خلال عشر سنوات وأتت متتالية من دون أن يفصل بينها أي عمل حميم: «الإمبراطور الأخير» (1987)، «السماء الواقية» (1990) و «بودا الصغير» (1993). عند بداية برتولوتشي السينمائية لم يكن في الإمكان الافتراض أنه سيصل يوماً إلى تحقيق مثل هذه الأفلام. فهو، كتلميذ لبيار باولو بازوليني، كان معدّاً تماماً لتحقيق أفلام أقل طموحاً وضخامة. إذ إنه، بتكوينه كشاعر وناقد وبنزعته التمردية الدائمة، وخصوصاً بلغته السينمائية المستقاة مباشرة من الموجة الجديدة الفرنسية، وبأفكاره المستقاة من نوع مبهم من الماركسية، كان مؤهلاً لأن يكون نبياً في محفل السينما المتقشفة ذات القوة الفاعلة عبر بساطتها. غير أنه سرعان ما خرج عن ذلك الإطار لنزوعه إلى التناقض. وهو نفسه كان قال في درس سينمائي ألقاه ذات مرة: «... إنني أحب دائماً أن أنفخ في اتجاه ريح التناقض... ذلك أنني اعتبر التناقض أساس كل شيء، ومحرك كل فيلم وإبداع. وأنا على هذا الأساس حققت فيلم «القرن العشرون» (1900) عن ولادة الاشتراكية... فهو بالتالي فيلم اشتراكي موّلته دولارات هوليوود. وهو فيلم مزجت فيه بين نجوم هوليوود الكبار وبين فلاحين من منطقة «البو» لم يسبق لأي منهم أن شاهد فيلماً في حياته... ولكم سلاّني هذا الأمر ورفّه عني». تناقض طبعاً هذا الكلام يبدو هنا، في ظاهره، على شيء من التبسيط، لكنه في الحقيقة يتخذ دلالته حين نجد أن سينما برتولوتشي كلها قامت، في أعماقها، على مثل هذا التناقض. وبالنسبة إلى برتولوتشي نراه، إذ يطرح على نفسه سؤال: ما هي السينما؟ يجيب: «في ظاهره يبدو الفيلم مجرد وضع للفكرة في صور. ولكن في شكل أكثر سرية، السينما هي دائما بالنسبة إليّ طريقة ما لسبر شيء أكثر ذاتية وشخصية وتجريداً. ومهما يكن من أمر، فإن أفلامي، ما إن أنتهي من تحقيقها حتى أكتشف أنها مختلفة كلياً عن الشيء الذي كنت تصورته في البداية. إذاً، فالفيلم هو سيرورة تطورية بالنسبة إليّ. لذا تراني أقارن غالباً الفيلم بمركب قراصنة: ذلك أن من المستحيل معرفة أين سيصل هذا المركب إذا تركناه حراً في اتباع رياح الإبداع». وهذه الحرية هي ميزة أساسية من مميزات سينما برتولوتشي. ولد برناردو برتولوتشي عام 1941 في مدينة بارما الإيطالية ابناً للشاعر والكاتب والناقد السينمائي آتيليو برتولوتشي. وهذا ما جعل برناردو يتجه منذ صباه إلى الشعر والسينما معاً. وهو كان عند بداية مراهقته حين راح يصور بعض الأفلام الصغيرة القصيرة على سبيل الهواية. ولاحقاً حين اصطحب الوالد الأسرة للإقامة في روما، كان برناردو بالكاد بلغ السابعة عشرة، وهناك التقى بيار باولو بازوليني... وما إن انقضى عامان على ذلك اللقاء، حتى طلب بازوليني من صديقه الفتي أن يكون مساعداً له في تحقيق فيلمه: «أكاتوني» (1961). واستجاب برناردو ليبدي في عمله دقة وحماسة، جعلتا بيار باولو يختاره ليخرج بنفسه فيلماً كانا كتباه معاً بعنوان «الموت»... وبالفعل حقق برتولوتشي على ذلك النحو، وتحت إشراف بازوليني، ذلك الفيلم في عام 1962، من دون أن يعتبره لاحقاً فيلمه الأول. فهو، على رغم حماسته، كان لا يزال يرى أن مجاله التعبيري هو الكتابة، وأن هذا الفيلم ينتمي إلى بازوليني. ومع هذا ربما يكون علينا أن نلاحظ في «الموت» من الشاعرية ما ينتمي إلى برتولوتشي الشاعر، في الوقت الذي ينتمي فيه موضوعه وأجواؤه إلى عوالم بازوليني. فالفيلم الذي يدور حول مقتل عاهرة والأسئلة المتحلقة حول هذا الموت، مملوء بزعران الضواحي والمراهقين وفكرة «الموت الزاحف إلى كل واحد منا ببطء ولكن بثقة». والحال أن هذا الفيلم، عبر أحداثه تمكن من أن ينقل إلينا سؤالاً أساسياً، على الأقل، يتعلق بفكرة الزمن ومروره... وهذه الفكرة سنراها تلح على سينما برتولوتشي الذي اكتشف، على الأقل بفضل هذا الفيلم المبكر والمجحود، أن في إمكانه هو أيضاً أن يكون سينمائياً شرط أن يعبّر عن أفكاره هو... لا عن أفكار الآخرين. ولسوف نُفاجأ بمقدار ما سيحافظ برتولوتشي على هذا البعد، حتى حين يقتبس رواية من مورافيا، أو قصة من بورخيس، أو نص بول بولز الأساسي «السماء الواقية»... أو حين يغوص في رحى التاريخ، أكان إيطالياً أم صينياً أم بوذياً. وحتى لو كان برناردو برتولوتشي يرى اليوم أن «الموت» لا ينتمي إليه، فإن النقد لا يوافقه على ذلك، حتى وإن كان لم يشجعه كثيراً على تلك البداية. وفي هذا الإطار قد يكون مفيداً أن ننقل ما قاله عن هذا الفيلم الناقد الإيطالي مورانديني في معرض لومه النقاد الذين لم «يكتشفوا» برتولوتشي باكراً، أي منذ ذلك الفيلم: «كان المرء في حاجة إلى أن يكون مغمض العينين تماماً لئلا يرى أن برتولوتشي لا يدين إلا بالقليل القليل لبازوليني في هذا الفيلم: فالفيلم يبدو انطباعياً شاعرياً متأرجحاً، بينما نعرف كيف أن بازوليني كان في ذلك الحين ملحمياً صاخباً وصلباً. إن برتولوتشي هنا، يدور حول الأشياء بدلاً من أن يجابهها... إنه هادئ ورومانسي بينما نعرف أن بازوليني عنيف وروماني». ولاحقاً سيحذو كثر من النقاد حذو مورانديني في حكمه هذا... بالطبع. سمات طليعية إذاً، مهما كان الاستنتاج الذي يمكن أن نطلع به، لا بد من أن نقول اليوم إن «الموت» كان تجربة برناردو برتولوتشي الحقيقية الأولى. لكن دخوله الواثق من نفسه إلى عالم الفن السابع كان عبر «قبل الثورة» الذي حققه بعد ذلك بعامين، أي في عام 1964. والأهم من هذا أن «قبل الثورة» أتى منتمياً إلى عالم السيرة الذاتية تماماً، مفتتحاً بالتالي سينما يصنعها برتولوتشي - ولا يزال يفعل حتى اليوم - مهتماً فيها بأن يسبر تاريخه الخاص ويسائله. لقد وصف «قبل الثورة» بأنه فيلم سيرة ذاتية حققه فنان مفتون بالكاتب الفرنسي ستندال (الأحمر والأسود)، وأخرجه سينمائي مبهور بفيسكونتي، لكنه يتمنى أن يعبر عن نفسه على طريقة غودار. غير أن النتيجة أتت خاصة جداً لا تشبه إلا برتولوتشي نفسه. أما فيسكونتي فسينتظر دوره كملهم لبرتولوتشي حتى تحقيق فيلم «القرن العشرون»، وأما غودار فإن سماته ستظهر في الفيلم التالي لبرتولوتشي «الشريك»، أي الفيلم الأكثر إثارة للخيبة بين أفلام هذا السينمائي الإيطالي كلها. * مقاطع من دراسة طويلة عن برتولوتشي تشكل أحد فصول كتاب «ما وراء الشاشة» لإبراهيم العريس الصادر أخيراً عن المؤسسة العامة للسينما – دمشق