ضمن إطار اهتمامه المعتاد بتاريخ السينما وتكريمه لكبار مبدعيها، يكرم مهرجان «كان» في دورته لهذا العام عدداً من هؤلاء. وإذا كان تكريم اليزابيث تايلور الراحلة حديثاً، يفرض نفسه ليس فقط لكونها واحدة من أبرز النجمات في تاريخ الفن السابع، وواحدة من أكثر الممثلات أوروبية في السينما الأميركية، بل كذلك لكونها صديقة قديمة للمهرجان السينمائي الفرنسي الكبير، هي التي اعتادت زيارته، في شكل علني أحياناً - ولدوافع إنسانية مثل جمع التبرعات لمكافحة السيدا -، وفي أشكال أقل علنية في أحيان أخرى، فإن التكريمين الأبرز سيكونان من نصيب النجم الفرنسي جان - بول بلموندو من ناحية، والمخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي من ناحية أخرى. وذلك إضافة الى تكريمين آخرين ينطلقان من عرض فيلمين: تكريم ستانلي كوبريك بعد 12 عاماً من غيابه، عبر عرض نسخة مرممة من فيلمه الأشهر «البرتقال الآلي» وتكريم الأميركي جيري شاتسبرغ عبر عرض فيلمه: «صورة مفككة لطفلة ساقطة». من المؤكد مبدئياً ان تكريم بلموندو، في حفل خاص يوم 17 أيار (مايو) سيكون مناسبة اجتماعية صاخبة. ولكن مناسبة فنية أيضاً... إذ عبر سمعة هذا الممثل الظريف النجومية والتذكير بكونه لعب أدواراً بطولية في عدد كبير من أكثر الأفلام ذات النجاح التجاري في تاريخ السينما الفرنسية (والإيطالية أيضاً)، ستكون المناسبة صالحة أيضاً للتذكير بأن بلموندو كان في بداياته فناناً طليعياً، مثّل في بعض أبرز أفلام مخرجي الموجة الجديدة، من جان - لوك غودار (في الفيلمين الأشهر لهذا الأخير «على آخر رمق» و «بيارو المجنون»)، الى كلود شابرول ولوي مال... وصولاً الى الإيطاليين دي سيكا ولاتوادا، والفرنسيين جان بيار ملفيل وفرانسوا تروفو وآلان رينيه. ربما يكون المهتمون بالسينما الجادة غير غائبين عن إدراك هذه الحقيقة وتذكّرها، غير ان التكريم «الكاني»، سيكون أشبه بتذكير للجمهور العريض ولجيل اليوم من هواة السينما، بأن بلموندو «ليس النجم الخفيف الذي يعتقدون»... هو الذي عرف في أحيان كثيرة كيف يضع شعبيته وقوة أدائه في خدمة سينما توصف عادة بأنها «صعبة» و «نخبوية». «صعبة» و «نخبوية» هي كذلك سينما المكرم الآخر، ولكن في حفل الافتتاح، مساء 11 أيار، السينمائي الإيطالي الكبير برناردو برتولوتشي، الذي يمكن اعتباره - مع فارق السن - آخر الكبار المتبقين من أجيال العمالقة في الفن السابع الإيطالي والعالمي، حتى وإن كان قد غاب عن ساحة الإخراج منذ عام 2003 حين حقق فيلم «الحالمون» (أو «الأبرياء»)، الذي أتى أشبه بسيرة ذاتية مواربة له، وكذلك بسيرة ما لربيع أيار 1968 الفرنسي. في هذه الأيام، وإذ يكرم وسط ما يبدو انه غياب في مهب النسيان، ينتفض برتولوتشي سينمائياً من جديد، حيث ينجز حالياً أشغال ما بعد التصوير لفيلم جديد له عنوانه «أنا وأنت» يرجح البعض أن يكون فيلم الافتتاح لدورة العام المقبل من مهرجان «كان». وفي انتظار ذلك، وإذ يعيش برتولوتشي هذه الأيام عامه الواحد والسبعين ويبدو، نظرياً على الأقل، منتمياً الى جيل سابق، يأتي التكريم - الصاخب بالتأكيد - في «كان» ليضمه الى الكبار، الذين ما فتئ هذا المهرجان «يُدخلهم» تاريخ الفن السابع من الباب العريض وعبر سعفة ذهبية خاصة، من برغمان وجان رينوار ثم يوسف شاهين في الماضي، الى وودي آلن وكلينت إيستوود في أزمان أقرب الينا. والحقيقة ان مهرجان «كان» لا يفعل إلا الصواب حين يضم هذه الالتفاتة في سهرته الافتتاحية وبالتواكب مع عرض فيلم وودي آلن الجديد «منتصف الليل في باريس» (خارج المسابقة)، الى مخرج يحمل اثنان من أبرز أفلامه إما اسم العاصمة الفرنسية، أو صورة لجزء من تاريخها. ونعني بهذا فيلميه الأشهر «آخر تانغو في باريس» (1972)، و «الحالمون» (2003). غير ان اللافت هنا هو أن كلاً من هذين الفيلمين شكل فضيحة (أخلاقية) حين عرض، كما كانت حال فيلم آخر لبرتولوتشي وهو «لا لونا» (1979) من تمثيل جيل كلايبرغ... كما ان اللافت أيضاً هو واقع ان هذه الأفلام الثلاثة تعتبر من أقل أفلام برتولوتشي تجديداً وقوة من الناحية الفنية. ذلك ان أفلام هذا الفنان الذي بدأ مساعداً لفيسكونتي وبازوليني، وبدأ حياته متشرباً الشعر (إرثاً عن أبيه) والثورة (لكونه من فتيان سنوات الستين الصاخبة) والثقافة الفرنسية، أفلامه الكبرى هي غير هذه... هي: علامات في تاريخ السينما، تحمل - كما نرى في مكان آخر من هذه الصفحة - عناوين كبيرة، مثل: «قبل الثورة» و «الشريك» و «إستراتيجية العنكبوت»، ثم بخاصة «القرن العشرون 1900» و «الإمبراطور الأخير» و «السماء الواقية» (أو «شاي في الصحراء») و «الممتثل». وانطلاقاً من هنا، ولمناسبة هذا التكريم الذي آن أوانه لواحد من كبار مبدعي الفن السينمائي، نتوقف في الفقرات المجاورة عند بعض أبرز سمات حياته وفنه.