لم يدرس المخرج الأميركي الكبير ستانلي كوبريك، الراحل قبل أكثر من عقد من السنين، السينما في أية جامعة أو مدرسة مختصة، كذلك لم يفعل ألفريد هتشكوك أو تشارلي تشابلن ذلك، ولا فعله انغمار برغمان أو صلاح أبو سيف أو جان - لوك غودار... وعشرات غيرهم من كبار المبدعين في تاريخ الفن السابع، ويمكن هذه اللائحة أن تطول. وفي المقابل كانت الدراسة في الجامعات والمعاهد السينمائية الخلفية التي رسمت المسار الفني لعدد كبير آخر من المخرجين وغير المخرجين. فيوسف شاهين وخالد الصديق ومارتن سكورسيزي وجيل سبعينات القرن العشرين وعدد كبير ممن تلاهم من مبدعي السينما العرب وغير العرب، مرّوا بالدراسة السينمائية، إخراجاً وغير إخراج، قبل أن يقفوا وراء الكاميرا ليحققوا أفلامهم. والحقيقة أنني لم أشر إلى هذا إلا كي أقول – من ناحية مبدئية - إن الإبداع السينمائي لا يحتاج بالضرورة إلى أن يمرّ بالدراسة الأكاديمية كي يتجسّد. ولكن مهلاً هنا... فأنا لا أحاول أبداً أن أقول إن الدراسة السينمائية يمكن الاستغناء عنها. ما أحاوله هو الانطلاق من حديث التجربة الملموسة لمئات المبدعين في هذا المجال الذي نحن في صدد الحديث عنه هنا، كي أصل إلى موضوعنا الذي نعالجه. وموضوعنا هو طبعاً: أثر غياب المدارس السينمائية في الحالة شبه السلبية نسبياً التي تعيشها السينما في بلدان مجلس التعاون لدول الخليج العربي. ومهما يكن من أمر، فأنا أتطلع هنا إلى أن أقلب السؤال بتغيير صيغته فأجعل عنوان مداخلتي: الأثر الذي يمكن أن يكون لوجود المدارس السينمائية في هذه المنطقة من العالم... لكنني سأبدأ تقديم إجابتي في شكل موارب... واقع السينما الملموس ولعل من المفيد أن أبدأ في الحديث من واقع بات لا بد من الإقرار به وهو حتمية وجود السينما بصفتها ترجمة بالصور المتحركة للأفكار والحكايات والصور... انطلاقاً إما من رؤى تخص المبدع نفسه أو من مواضيع يعثر عليها من حوله في الحياة أو صور يشاهدها... فالحال أن من يهتم بالسينما في زمننا المزدهر بالصور هذا، يدرك تماماً أن في إمكان الفن السينمائي أن ينهل من أي مكان وكلّ مكان عبر مرشّح أساسي هو رؤية الفنان المبدع... حيث نعرف أن الفيلم – ومهما كان من شأن طوله ونوعيته – ينطلق دائماً من هنا، من صور من أفكار من رؤى فردية الطابع سرعان ما تتحول إلى لقطات ومشاهد... في اختصار، إلى فيلم تبدأ حياته العامة الحقيقية منذ أن يكتمل على شريطه (أو أسطوانته المدمجة... أو في أي شكل آخر تحققه التقنيات). ونعرف أن رحلة الفيلم منذ اللحظة التي يكون فيها مجرد فكرة أو صورة أو رؤية في ذهن صاحبه... إلى اللحظة التي يكتمل فيها حضوره على شاشة ما، ليست رحلة بسيطة كحال القصيدة أو اللوحة التشكيلية أو حتى الرواية وما شابه ذلك... فنحن هنا أمام مسار شديد التعقيد والاتساع... أمام رحلة تشمل الكثير من الفنون والتقنيات، ولا تعود مجرد إبداع فردي يتكل فقط تقريباً على ملكة الإبداع (...) طبعا، لا يمكن القول هنا إن هذا كلّه – ناهيك بطبيعة الإنتاج السينمائي كصناعة آلية وتجارة محلية وعالمية أيضاً – سيخطر بالضرورة على بال المبدع وهو يفكر في صنع فيلم جديد له... ثم حين يخطّ أفكاره الأولى على الورق... لكنه يخطر في أغلب الأحيان. غير أن الأهم من هذا هو أن تحديد تلك الخطوط ليس في حاجة إلى أن يكون صاحب التحديد قد درس في جامعة أو معهد... هو عند ذلك يكون أشبه بالشاعر أو القصاص أو حتى الناقد معتمداً في عمله على موهبة ما، كما على معارف عامة وما أشبه. ومن هنا، تلك الحقائق التي بدأت بها هذا الكلام من أن ثمة مبدعين سينمائيين كباراً درسوا السينما في المعاهد وآخرين لم يفعلوا... ولكن الحال ستختلف إلى حد كبير منذ اللحظة التي تبدأ الأفكار بالتحوّل من الورق وأعماق الفكر والذاكرة والرغبات الإبداعية إلى عالم الشريط السينمائي (...). نحن إذاً هنا أمام عالم شديد التشعّب والتنوع يضعنا في مكان بعيد جداً عن المكان الإبداعي الفردي الذي كنا نرى المبدع الفرد يقطف فيه ثمار موهبته ومعرفته وحبه للسينما. لقد قلنا أعلاه إن أولى الثمار ليس عليها أن تكون أكاديمية الطابع عند الخطوات الأولى... غير أن هذا الكلام سيبدو لنا عند هذا المستوى من الحكي خدّاعاً... وذلك لأنه ليس صحيحاً أبداً أن المبدع السينمائي سيكون – من حيث المعرفة – أشبه باللوح الأبيض حين يبدأ التفكير بمشروعه. المبدع هو في نهاية الأمر خلّاق ينتقل من المعلومات إلى المعرفة ومن ثمّ إلى الإنتاج الإبداعي، غير أن المعلومات والمعارف التي يكون في حاجة إليها لا تكون بالضرورة على علاقة بالدراسة السينمائية التقنية في حد ذاتها. عند المستوى الأول هو في حاجة إلى مستوى علمي ودراسي يماثل ما قد يكون الشاعر الحقيقي المثقّف أو الروائي أو حتى الرسام في حاجة إليه. وطبعاً لا يلغي هذا الكلام خصوصية السينما ولا يحاول أن يقول إن كبار مبدعيها، من الذين درسوها في المعاهد والجامعات أضاعوا وقتهم في تلك الدراسة. لعل ما نقوله هنا هو أن الدراسة الأكاديمية لا تصنع مبدعين كباراً... أما هذه الدراسة فإنها تكون إضافة حقيقية إلى الموهبة. ومع هذا لا بد لنا من التنبيه إلى أن المبدعين «العصاميين» أكاديمياً، لا يأتون من فراغ. إنهم في معظم الأحيان يأتون – إضافة إلى الموهبة كممرّ رئيسي لتحولّهم إلى صانعين كبار للسينما – من إحدى المهن الإبداعية التي تصبّ هنا في العالم السينمائي: بعضعهم يأتي من التصوير الفوتوغرافي (ستانلي كوبريك مثلاً) بعضهم يأتي من الإخراج المسرحي (انغمار برغمان مثلاً) بعضهم يأتي من التمثيل (يوسف شاهين درس التمثيل لا الإخراج في معهد باسادينا الأميركي) بعضهم يأتي من الكتابة الأدبية (جان كوكتو بين آخرين)... والبعض من الفن التشكيلي (جوليان شنيبل وبيتر غراناواي مثلاً) وهناك من يأتي حتى من الشعر (مثل بيار باولو بازوليني ومواطنه الإيطالي برناردو برتولوتشي) ناهيك عن الذين يأتون من الصحافة والسيرك... أما الغالبية العظمى فتأتي عادة من المهن السينمائية في تدرّج متصاعد (عدد كبير من مخرجي مصر المعاصرين أتى من العمل كمساعدين ليوسف شاهين أو صلاح أبو سيف وهذا الأخير أتى من غرفة المونتاج في وقت أتى رمسيس رزوق مثلاً من التصوير السينمائي فيما أتى جان - لوك غودار وفرانسوا تروفو وكلود شابرول من النقد)... أما بدءاً من نهاية خمسينات القرن العشرين فقد أتى العشرات من المخرجين من عالم التلفزيون لتأتي لاحقاً حقبات تتزايد فيها الهجرة المعاكسة من السينما نفسها إلى التلفزيون... قواسم مشتركة على أي حال وكي لا نضيّع طريقنا لا بد من العودة هنا إلى السياق الذي يهمنا، لنقول إن ثمة قاسماً مشتركاً بين كل ما ذكرنا وبين مئات مبدعي السينما الآخرين – أي الذين تلقوا الدراسة السينمائية في المعاهد والجامعات - هو أنهم جميعاً ولا سيما بعد انقضاء العقود الأولى من عمر السينما... أي بعد زمن الفهلوة والبدايات، إنما يكمن – يتشاركون في ذلك القاسم المشترك - في أن كل هؤلاء إنما أتوا في سياق تواصل لتقاليد سينمائية باتت مع الزمن عريقة. بل وأكثر من هذا أتوا كاستمرار لنهضة بصرية مندمجة في نهضة علمية تتواصل منذ قرون لا منذ عقود فقط. ومن هنا فإن تكوّن أصحاب الفنون المركّبة (والسينما واحدة منها)، يأتي طبيعياً في مجتمعات نشأت على التفاعل مع التراث السينمائي والمسرحي الموجود منذ أزمان سحيقة، بالفعل ومع تقاليد بصرية تجعل من العمران والتفاعل مع الفن التشكيلي والمفاهيم المدنية وصولاً إلى العلوم المتنوعة والتحليل النفسي بل حتى مفاهيم كالحرية والفردية والتحليل النفسي وصراع الأجيال ومساءلة التاريخ، جزءاً من الحياة اليومية للفرد سواء كان مبدعاً أو إنسانا عادياً... فما بالك هنا بالتقنيات المتراكمة والتبادل في الخبرات وما إلى ذلك؟ إنه لمن المحزن بالطبع أن نقرّ هنا أن أشياء كثيرة من هذا كله لا تبدو كجزء من تقاليدنا وتاريخنا... على الأقل لعقود قليلة منصرمة... في معنى أن الإنسان العربي يبدو، وهو يدخل معمعة هذه الفنون والعلوم الأكثر حداثة في التاريخ الإنساني، يبدو قليل العدة والعتاد غير مزود بما يحتاجه حقاً من أسلحة كي يكون وجوده فيها صحيحاً وندّاً لند مع إنسان الخارج... ومع هذا يمكن القول اليوم إن ثمة تفاوتاً بين مجتمعات عربية وأخرى في هذا السياق... فمصر مثلاً باتت ذات تقاليد راسخة في مجال قيام علاقة صحيحة مع الفن الذي نتحدث عنه، وتحديداً من خلال تراكم الإنتاجات على مدى ما يقترب من تسعين عاماً. وفي المغرب وتونس خُلق تراكم مشابه من طريق عمل أفراد كثر في تصوير أفلام غربية حققت في البلدين... ولبنان وفلسطين يملكان الآن مبدعين سينمائيين تخرجوا في معاهد أجنبية... أما البلدان الخليجية – وهي، كما تعرفون الموضوع الأساس لكلامنا هنا - فإنها في خضمّ رغبات عامة ومشروعة للوصول إلى نهضة سينمائية، تبدو أحوج ما تكون في هذا السياق إلى الاتكاء حقاً على مبدعين وطواقم عمل، تتوافر لها مؤسسات تعليمية وتدريبية، يستوي في ذلك الذين يريدون أن يصبحوا مخرجين والآخرون الذين قد يفضلون مهناً سينمائية أخرى. فالحال أنه لا مناص للخليجيين من أن يحرقوا المراحل... ولعل في وسعنا أن نقول إن العدد المتواضع من الأفلام التي حققها مبدعون خليجيون يشي حقاً: أولاً، بأن هناك سينما خليجية تستحق أن توجد. ثانياً، أن ما تحقق حتى الآن يحمل وعوداً كبيرة واحتمالات مستقبلية أكبر. ثالثا، أن الرغبة في حرق المراحل مشروعة تماما (...) رغبات مشروعة في اعتقادنا أن غياب التقاليد المعرفية والبصرية حتى العقود الأخيرة يفرض عند زمن البدايات هذا، تكثيف عقود بل قرون من المعرفة في سنوات قليلة... ونحن بعدما سرّبنا في ثنايا كلامنا هنا، أهمية الثقافة المعرفية في صنع سينما حقيقية تتلاءم مع الطموحات البيّنة، وأهمية أن يولد تكثيف حقيقيّ في هذا المجال... ولأن هذا التكثيف لم يعد قادراً على التحقّق من خلال العمل المتراكم الذي سيحتاج إلى عقود طويلة قبل أن يكتمل ويتحول إبداعاً حقيقياً، تُطرح أمامنا بقوة حاجة الرغبات الخليجية السينمائية إلى مدارس ومعاهد وجامعات تكون مهمتها الأساسية، ليس فقط تعليم السينما وفنونها وتقنياتها عبر برامج مكثفة، بل كذلك وفي شكل خاصّ تدريس برامج أكثر تكثيفاً تتعلق بالكثير من الفنون والعلوم والآداب المتعلقة بالإبداع السينمائي وإنما تنتمي إلى ذلك النوع من العلوم والفنون التي قد لا يجد الدارس الغربي نفسه في حاجة إليه طالما أنها تشكل عنده جزءاً من التقليد التعليمي العادي، من علم النفس إلى تاريخ الفنون والآداب مروراً بقواعد الفن التشكيلي وعلم اجتماع الفنون ودراسة علم التشريح. وعشرات غيرها من المواضيع... ومن الواضح هنا أننا أمام مهمات بالغة الصعوبة... ومع هذا ينبغي ألا يغرب عن بالنا أن هذا كله إنما يبعث على عدم الاستخفاف المعهود إزاء هذا الفن الذي ننسى دائماً أنه الفن الأخطر من بين الفنون كافة لأنه الفن الأكثر تأثيراً في الناس في القرن العشرين وسيظل هكذا في القرون التي تليه. ففن القول من طريق الصورة المتحركة سواء كان هذا القول من طريق الشرائط الوثائقية أو من طريق أفلام التحريك، وطبعاً من خلال السينما الروائية، هذا القول خلق – كما يؤكد عدد كبير من علماء الاجتماع في العالم كله - تلك «الطبيعة الثانية» التي تجعل من الإنسان السينمائي شيئاً آخر تماماً – في المعرفة والوعي والإبداع – مختلفاً عن الإنسان الذي لا تزوره السينما ونعماها إلا في شكل عابر.