ثمة ثلاثة تحديات جذرية تهزّ المجتمعات المعاصرة وتفرض عليها نوعاً من المواجهة المستمرة معها. تتكوّن هذه التحدّيات من 3 عناصر: تقنية (طفرة الكومبيوتر)، ثقافية اجتماعية (التصاعد المحتمل لمعرفة الإبداع، والتضامن والتعاون في وجه الهيكلية العشوائية، والتنافس المتوحّش)، وجغرافية - سياسية (تمثّلها العولمة). وهذه المقولة، توجب محاولة التعرّف إلى التحوّلات العميقة التي تطفو ظواهرها بقوة وكثافة في المجتمع المعاصر، بالتوازي مع تصاعد ظاهرتي الذكاء الإصطناعي من جهة، والذكاء الجماعي للأفراد المترابطين عبر الشبكات الرقمية، من الجهة الأخرى. لقد ظهرت مجموعة من المصطلحات لمحاولة تحديد هذه المتغيّرات الحديثة. ويمكن اعتبار كل مصطلح ظاهرة. ومن الأمثلة على هذه المصطلحات القرية الكونية، ومجتمع ما بعد الحداثة، ومجتمع المعلومات، ومجتمع المعرفة وغيرها. لا يجرى تداول هذه المصطلحات من دون مغزى تطبيقي. وإذا اعتقد البعض أن هذه المصطلحات لن يكون لها تأثير فعلي، بل تبقى جوفاء من الناحية العملانية وتندرج ضمن الشعاراتية الشائعة، فإن ما يحصل حالياً في الوطن العربي يؤكّد أن هذه المصطلحات أصبحت فعلاً حقيقياً. ولم تعد المعرفة كلمة بل أصبحت محتوى فعلياً. وفي المقابل، لا تعبّر هذه المصطلحات عن الوضع الاجتماعي الحاضر، إلا إذا تغيّرت المجتمعات العربية أيضاً! والمقصود هو الإشارة إلى أن هذه التقنيات هي تفاعلية وليست أحادية الجانب، ما يعني نهاية زمن المُتلقي السلبي. وإذا كانت هذه المصطلحات استخدمت كشعارات من قبل السياسيين، فإن لها دلالاتها أيضاً بالنسبة الى جيل الشباب عربياً. وقد استخدمت هذه المصطلحات في تونس، وكان الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي من أبرز مستخدميها، مع الحرص على إبقائها مجرد شعارات تردد كلاماً عن مجتمع المعلومات ومجتمع المعرفة وغيرها. وفي هذا الصدد، من المستطاع تذكّر أن تونس نظّمت «القمة العالمية لمجتمع المعرفة» في عام 2003. ومرّة أخرى، كان نظام بن علي يستخدم هذه المصطلحات على نحو شعاراتي محض. ومع «ثورة الياسمين»، اتّخذت هذه المصطلحات سياقاً آخر ومعنى مغايراً، وصار لها موازٍ في الواقع الفعلي. تفتح التقنيات الرقمية الباب أمام فرصٍ جديدة للتطوّر نحو الديموقراطية. فلا معرفة من دون ديموقراطية، كما أن لا ديموقراطية من دون معرفة. ويكفي تذكّر أن العولمة الرقمية ظاهرة متحقّقة فعلياً، وتتقاسمها الشعوب والدول كافة، كما أنها تدخل ضمن القيَم التي يهدف الشباب إلى تحقيقها. وعلى رأس تجليات هذه العولمة، تأتي الديموقراطية الجماعية، وليس الديماغوجية والسفسطائية المتمترسة في معظم المجتمعات العربية وثقافاتها. من المستطاع النظر إلى شبكة «الويب» التفاعلية باعتبارها حاملاً لشكل جديد من أشكال التنظيم الذي لا يقتصر أمره على التقنية، بل إنه يحمل أيضاً نواة الديموقراطية. إذ تربط شبكة الإنترنت الشعوب بعضها ببعض، وتعطي كلَّ فرد إمكان المساهمة في الممارسة الديموقراطية عبر الكتابة والتعبير عن الرأي. لم تكن هذه الأمور متاحة في ثورات سابقة، ويحسّ الأشخاص على الإنترنت بأنهم فاعلون وليسوا ملحقين بقائد يملي عليهم رأيه، وما يجب فعله. وعلى ال «نِت»، يكتب كل شخص، ويعبّر، ويصوّر، ويُراسل، ويُكوّن مجموعات، وينال شيئاً من الصدقية و «السلطة». بقول آخر، يصبح جزءاً من ظاهرة الثوار الجدّد. في السياسة كما في مجالات أخرى، ليست الكلمات محايدة ولا ضبابية، بل تعبّر فعلياً عن شيء ما. واستطراداً، يمكن القول إن الحقبة المعلوماتية تواجه حاضراً مشكلة المحدودية الجغرافية للغة. وحتى ضمن اللغة نفسها، قد تملك الكلمات معاني مختلفة، وفق الجغرافيا الثقافية لقائليها. ويعمد مستخدمو الإنترنت والشبكات الاجتماعية إلى ابتكار لغة تحاكي الجماعات المعنية بقضاياهم، ما يزيد في تقاربهم أيضاً. وإذا كانت الأجيال الثورية السابقة ناضلت لتوحيد الأمة، فقد وجد الشباب حاضراً ما يجمعهم ( الإنترنت وممارساتها)، بل صنعوا اللغة التي يفهمونها جميعاً لتتجاوز الرقابة والمسافات والحدود.