الجمعة الماضي بدا الرئيس اليمني علي عبدالله صالح في خطاب مقتضب حاسماً أمره وجاداً في رفضه المبادرة الخليجية لحل الأزمة الراهنة في البلاد، واستخدم في خطابه أمام مؤيديه الذين احتشدوا من محافظات عدة في ميدان السبعين في العاصمة صنعاء، تصريحات وزير الخارجية القطري، مبرراً اعلان رفضه المبادرة، غير أن الرئيس وقع في مطب سياسي غير عادي، عندما تجاهل دور جميع الدول الخليجية الأخرى وفي طليعتها المملكة العربية السعودية في هذه المبادرة، وتحدث عنها وكأنها مبادرة قطرية وليست خليجية، في حين أكدت المصادر الخليجية إن «المبادرة، التي جاءت بناء على طلب من الحكومة اليمنية هي خليجية توافق عليها وزراء خارجية دول مجلس التعاون في اجتماعهم الأخير في الرياض»، وهو ما كان سيؤدي إلى إغضاب الأشقاء في دول الخليج، وبالتالي إغلاق المنفذ الوحيد المتاح حالياً للقيام بدور الوساطة ونزع فتيل الأزمة في اليمن، وفي الوقت ذاته كسب عداوة هذه الدول ودفعها للانحياز لصف المحتجين والمعارضين، بخاصة ان الرئيس هو من طلب من الدول الخليجية وبالذات المملكة السعودية القيام بهذا الدور. بيد أن مؤسسة الرئاسة سارعت بعد أقل من ساعتين على خطاب الرئيس الذي بثته القنوات الفضائية مباشرة، إلى معالجة ذلك الخطأ السياسي، من خلال تصريح لمصدر مسؤول، أكد فيه أن الرئيس جدد في خطابه الترحيب، «بالجهود والمساعي الخيرة التي يبذلها الأشقاء في مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمهم المملكة العربية السعودية لحل الأزمة بين الأطراف اليمنية، ولكنه يرفض ما ورد في تصريح رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم آل ثاني ويعتبره تدخلاً في الشأن اليمني لا يمكن قبوله». تصريح المصدر الرئاسي حاول معالجة الخطأ الذي وقع فيه الرئيس، ولكنه في الوقت ذاته أكد في شكل حاسم أن المبادرة الخليجية غير مقبولة من قبل الرئيس، حيث جدد التصريح الترحيب بالجهود الخليجية للوساطة، من دون أن يشير إلى المبادرة بأي شكل من الأشكال، ما يعني أن المبادرة التي تقضي بتنحي الرئيس وتسليمه السلطة لنائبه، وتشكيل مجلس وطني يشمل كافة أطياف العمل السياسي وقوى المجتمع المدني في اليمن، وتقديم ضمانات بعدم التعرض لصالح وعائلته مستقبلاً، غير مقبولة، ولهذا فإن الرئيس الذي طلب من السعودية ودول الخليج القيام بهذه الوساطة، يسعى من جانب إلى تخفيف الضغط المفروض عليه، ومن جانب آخر الى البحث عن فرص ومخارج لهذه الأزمة من دون أن يرحل هو من السلطة. ولأن الرئيس يسعى للتوصل إلى تسوية للأزمة الحالية في البلاد، من دون إقصائه من منصبه، أجرى اتصالات هاتفية مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي - عدا قطر - للتشاور حول الجهود التي تبذلها هذه الدول لرأب الصدع بين فرقاء الأزمة اليمنية الراهنة، وقالت مصادر حكومية يمنية أن الرئيس صالح أوفد أيضاً وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال الدكتور أبو بكر القربي، ومعه رئيس جهاز الأمن القومي علي محمد الآنسي إلى المملكة العربية السعودية لإقناع المملكة وباقي دول الخليج بتعديل المبادرة المتعلقة بالأزمة اليمنية. وأكدت المصادر التي طلبت عدم كشف هويتها ل «الحياة» أن موفدي الرئيس اليمني حملا معهما مشروع اتفاق سابق، كان قد تم التوصل إليه في منزل نائب الرئيس عبدربه منصور هادي في 17 (آذار) مارس الماضي، بين الرئيس صالح واللواء علي محسن الأحمر، ورئيس الهيئة العليا للتجمع اليمني للإصلاح محمد اليدومي، وبحضور السفير الأميركي، وأشارت المصادر إلى أن مشروع الاتفاق كان يقضي بنقل صلاحيات الرئيس لنائبه، وتشكيل مجلس انتقالي وحكومة وحدة وطنية وبنود أخرى، وقد فشل الاتفاق بعد مجزرة الجمعة 18 (آذار) التي قتل فيها 54 شخصاً من الشباب المعتصمين في ساحة التغيير أمام جامعة صنعاء، وأصيب العشرات برصاص قناصة كانوا يرتدون زياً مدنياً وهو ما دفع قائد الفرقة الأولى مدرع اللواء الأحمر لإعلان الانشقاق عن صالح وتأييد الثورة الشبابية السلمية، وتسبب في استقالة العشرات من القيادات العسكرية والسياسية والديبلوماسية، والانضمام إلى صف الثورة والمعتصمين. ويرى مراقبون، أن الرئيس صالح الذي رفض المبادرة الأولى، بحجة أنها مبادرة قطرية، طلب من دول الخليج تبني بعض بنود مشروع الاتفاق الذي سبق التوصل إليه في المبادرة الجديدة تحت مبرر أنه اتفاق تم التوصل إليه مع مختلف الأطراف، ومع ذلك لم يوافق الرئيس على المبادرة الجديدة، على رغم استجابتها لمطالبه، حيث جدد ترحيبه بالوساطة الخليجية، «وبما يجنب اليمن تداعيات الأزمة الراهنة ومخاطرها على أمن واستقرار ووحدة اليمن، في إطار الدستور اليمني والمبادرات المطروحة من كل الأطراف»، وقال المراقبون ل «الحياة» إن الرئيس اليمني لم يحدد موقفاً واضحاً من المبادرة، وأنه أبقى الباب مفتوحاً للموافقة أو الرفض، لأغراض المناورة السياسية مع خصومه في المعارضة، ويعتقدون أنه كان ينتظر موقفاً رافضاً من المعارضة، لإقناع الفئة الصامتة من اليمنيين، والتي لم تحدد موقفها بعد من طرفي الأزمة، بتعنت المعارضة وعدم استجابتها لأي مساعٍ تبذل لحل الأزمة، وكسب موقف الوسطاء لصالحه أو على الأقل تحييد موقفهم بعد أن كان ضده، وتحقيق مكاسب تفاوضية في حال وافقت المعارضة على المبادرة، من خلال تمسكه بالدستور للوصول إلى تسوية للأزمة. وبذلك فالمساعي التي بذلها الرئيس ولم تجد قبولاً محلياً منذ بداية الأزمة، نجحت في إقناع الوسطاء الخليجيين، بتعديل بنود مبادرتهم لحل الأزمة في اليمن، وعوضاً عن دعوة صالح للتنحي جاء البيان الصادر عن الاجتماع الاستثنائي الذي عقده وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي الأحد في الرياض، ليدعوه إلى نقل صلاحياته إلى نائبه، وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة المعارضة، ولهذه الحكومة الحق في تشكيل اللجان والمجالس المختصة لتسيير أمور البلاد سياسياً وأمنياً واقتصادياً ووضع دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات. كما تضمنت المبادرة دعوة الحكومة اليمنية وأطراف المعارضة للاجتماع في المملكة العربية السعودية تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي، وأن يؤدي الحل الذي سيفضي عن هذا الاتفاق إلى الحفاظ على وحدة اليمن وأمنه واستقراره. وبالمقارنة بين مضمون المبادرة الخليجية التي سبق وسلمت للرئيس وأحزاب المعارضة في تكتل «اللقاء المشترك» الأسبوع قبل الماضي، وما أعلنه وزراء خارجية دول الخليج في الرياض الأحد الماضي، يتضح الفرق بين المبادرتين، ويرى سياسيون يمنيون أن دول الخليج استجابت لضغوط ومطالب الرئيس صالح، وأجرت ثلاثة تعديلات على المبادرة، الأول تمثل في تسليم الرئيس الصلاحيات لنائبه والبقاء في السلطة بدلاً عن تنحيه، كما اشترطت الصيغة الجديدة التزام «كافة الأطراف بإزالة عناصر التوتر سياسياً وأمنياً»، والدخول في حوار في السعودية تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي. ويقول هؤلاء السياسيون في أحاديثهم إلى «الحياة» أن الصيغة الجديدة للمبادرة فتحت المجال أمام الرئيس لكسب المزيد من الوقت، أكان ذلك من خلال الدخول في التفاوض والحوار حول مجمل الخيارات التي يبحث عنها للبقاء في السلطة مع تخليه عن بعض صلاحياته، في حال الموافقة على المبادرة بمضمونها الجديد، أو حتى في حالة الرفض، بخاصة وعملية نقل صلاحياته غير محددة زمنياً، وهناك مصادر يمنية تتحدث عن أن الرئيس طلب 150 يوماً لنقل هذه الصلاحيات لنائبه، وفي ذات الوقت تحيطها إشكالات دستورية، اذ يتيح الدستور النافذ للرئيس منح نائبه بعض صلاحياته وليس كلها بحسب المادة 124 من الدستور، أما نقل كامل الصلاحيات فلا يتم إلا في حالة التنحي أو الاستقالة. وإلى جانب الإشكالية السابقة، يقول السياسيون أن النص الجديد للمبادرة يشير بوضوح إلى إيقاف الاحتجاجات والمسيرات وإنهاء الاعتصامات، ومن ثم الشروع في حوار قد يأخذ وقتاً طويلاً للتوصل إلى اتفاقات وتفاهمات حول مجمل الجوانب للخروج من الأزمة، وهو ما كان يسعى إليه الرئيس اليمني منذ البداية، وهو إنهاء الاعتصامات والاحتجاجات الشبابية وإجهاض الثورة من خلال الحوار الذي قد يصل إلى طريق مسدود، والعمل خلال فترة الحوار على تفكيك جبهة المعارضة والشباب، وبالذات أنه لا يوجد أي ضمانات لتنفيذ أي من مطالب المعارضة والمعتصمين في ساحات التغيير والحرية في أغلب المدن اليمنية. ويعتقدون أن هذا التعديل، عكس تراجع الموقف الخليجي والأميركي من تنحي الرئيس صالح، بخاصة ان الصيغة الأولى للمبادرة لم تعلن إلا بعد الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الأميركي للمملكة العربية السعودية، للتشاور في شأن الأزمة في اليمن وبحث المخارج المتاحة منها. وقالت الخارجية الأميركية أن توقيت وشكل الانتقال السلمي للسلطة يجب تحديدهما من خلال التفاوض وان يبدأ ذلك سريعاً. إلا أن مصادر ديبلوماسية في صنعاء، أكدت ل «الحياة» أن تعديل صيغة المبادرة الخليجية، لا يمثل تراجعاً في الموقف الخليجي والأميركي المعلن والمطالب بسرعة نقل السلطة سلمياً في اليمن، بقدر ما يعد استجابة لطلب أخير لحليف قديم، وتجزم ذات المصادر أن دوائر صنع القرار في واشنطن، حسمت الموضوع في اتجاه نقل السلطة وإجراء التغيير الذي ينشده اليمنيون، وتدلل المصادر على هذا الأمر بالضغوط التي تمارسها أميركا على صالح للتنحي عن السلطة، وتحويل برامج المشاريع التابعة لوكالة التنمية الأميركية في اليمن لمصلحة دعم حركة التغيير. أحزاب المعارضة في تكتل «اللقاء المشترك» كانت قد رحبت بالمبادرة الخليجية في نسختها الأولى، ودعت الشعب اليمني بكل فئاته وشرائحه ومكوناته السياسية والاجتماعية الى مزيد من الصمود في مواجهة ما وصفته كل أساليب العنف والمراوغة تجاه كل المبادرات السلمية لانتقال السلطة في اليمن وإنهاء الأزمة الراهنة وفي مقدمها المبادرة الخليجية، وأكدت في بيان لها تمسكها بما تضمنته بنود المبادرة الخليجية ورفضها أي التفاف عليها من قبل النظام الحاكم، غير أن التعديل الذي جرى على بنود المبادرة الخليجية، أصاب المعارضة اليمنية بنوع من الدهشة وأربكها لبعض الوقت، وهو ما جعلها تؤجل ردها على الصيغة الجديدة وتطلب توضيحات في شأنها من دول الخليج. وعلى رغم رفض المعتصمين في ساحات التغيير والحرية في العاصمة صنعاء والمحافظات الأخرى للمبادرة الخليجية في نسختها الثانية، لأنها لم تنص صراحة على تنحي الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، باعتباره المطلب الأهم الذي لا يمكن التنازل عنه، إلا أن قائد الفرقة الأولى مدرع اللواء علي محسن الأحمر أعلن قبوله المبادرة ودعا مختلف الأطراف للموافقة عليها، كما أعلن شيخ مشائخ حاشد صادق الأحمر وشخصيات أخرى الموافقة على المبادرة أيضاً، الأمر الذي صعب موقف أحزاب «اللقاء المشترك»، ودفعها وفقاً لمصدر مطلع مقرب منها تحدث إلى «الحياة» إلى إعلان التمسك بالصيغة الأولى للمبادرة، وعدم رفض ما جاءت به النسخة الثانية. وأكد ذات المصدر أنه من الصعب جداً على أحزاب المعارضة التنازل عن مطلب تنحي الرئيس اليمني عن السلطة، وبحيث يبقى الحوار والتفاوض على الزمن والكيفية، التي تتم من خلالها عملية التنحي، إلى جانب الجوانب الأخرى ذات الصلة بموضوع الضمانات التي يبحث عنها الرئيس، وتشكيل الحكومة الوطنية وإعادة هيكلة جهاز الأمن ومؤسسة الجيش، والتعديلات الدستورية والتحضير للانتخابات البرلمانية والرئاسية وغيرها من القضايا المطروحة للتحاور والاتفاق، وقال: «من دون تنحي الرئيس لن تتوقف الاعتصامات والاحتجاجات التي تتواصل منذ 16 شباط (فبراير) الماضي»، ويعتقد أن المعارضة ستتلقى ضربة موجعة في حال قبلت بأقل من تنحي الرئيس، لأن الشباب المعتصمين في الساحات لن يقبلوا أي اتفاق من هذا النوع، وسيواصلون احتجاجاتهم بمعزل عنها. وبغض النظر عن التعديل الذي جرى على مضمون المبادرة الخليجية، تكشف مختلف التطورات ذات الصلة باليمن إجماعاً دولياً وإقليمياً على ضرورة بدء الخطوات الفعلية لتنحي الرئيس صالح ونقل السلطة في أسرع وقت ممكن وبطرق سلسة وآمنة، الأمر الذي يحد من الخيارات المتاحة أمامه، بخاصة بعد إحراقه العديد من الأوراق التي كانت تخدمه في فترات سابقة، مثل ورقة «القاعدة» والتمزق والانفصال، غير أن ذلك الإجماع قد لا يفلح في إجبار صالح على ترك السلطة، خلال فترة قصيرة، بخاصة وأنه لا يزال قادراً على حشد الكثير من المؤيدين له، وهو ما قد يطيل من زمن الأزمة، ويرفع درجة خطورتها على البلاد عامة، الأمر الذي يبقي الأبواب اليمنية مشرعة على كل الاحتمالات.