هل تنتهي مشاكل السودان العرقية باستقلال الجنوب عنه والى الأبد؟ سؤال شكّل محور البرنامج التلفزيوني القطري الذي أعده الإرلندي جيمي دوران لقناة «الجزيرة»، عبر بحث تاريخ المشكلة الجنوبية وجذورها. واستعان المخرج، إضافة الى التسجيلات الوثائقية، بحوارات صحافية أجراها مع عدد كبير من السودانيين، شماليين وجنوبيين، بينهم شخصيات سياسية لعبت دوراً مهماً في صنع الأحداث. أما مرجعيته فالتاريخ نفسه، كما يوحي العنوان: «السودان: تاريخ بلد مقسم». تقسيم لم يأت عشية الانتخابات الشعبية التي أظهرت رغبة أكثر من 90 في المئة من سكان الجنوب بالانفصال. فهذا أمر كان متوقعاً، وصار واقعا لأسباب كثيرة منها ما هو سياسي وعرقي وديني. ولكن ثمة مفارقة كامنة في هذا الواقع الصارخ تتمثل في كون هذا البلد كان لدى كثيرين، وبعد استقلاله بالتحديد، أملاً لكثر في أن يصبح مثالاً للتعدد الثقافي والعرقي، وقدوة للتعايش بين المسيحيين والمسلمين، بين العرب والأفارقة، وحتى اللحظة ما زال هناك من يؤمن بهذا، مثل الأستاذ في جامعة جوبا الشمالي الأصل محمد علي الذي يقول في الشريط: «في تسامح السودانيين وطيبتهم الفطرية ما يكفي لجمع كل هذا التنوع». غير أن الصورة كما يعرضها البرنامج وبدرجة محسوسة من الحياد تشي عكس ذلك. فالمقابلات التي أجريت مع جنوبيين شددت على إظهار درجة التمايز العرقي الممارس ضدهم وكيف ظل الناس في الشمال ينادونهم ب «العبيد» على رغم العيش بين ظهرانيهم لعقود طويلة. ووصفوا، أيضاً، الألم المستمر الذي تسببه لهم هذه المفردة وشعورهم دوماً بغربتهم عن هذا الجزء من البلاد. لقد سكن النازحون الجنوبيون، وبسبب الحروب هناك منطقة الحزام الأسود التي تحيط بالعاصمة الخرطوم. وتشعر غالبية سكانها بالتمييز العرقي ضدها، على ما فيها من قلة فرص الحصول على عمل وضعف الخدمات، لهذا كان كثر منهم يرغبون في العودة الى موطنهم الأصلي تخلصاً من هذا الواقع. وثائقي «الجزيرة» يعود الى هذه النقطة المهمة من تاريخ تجارة الرق في السودان، والتي نشطت مع وصول التجار المصريين والأتراك عام 1839 الى منطقة التجمعات المائية سود، وراجت معها تجارة العاج والذهب، ومن نتائجها كما يقول المؤرخ بول مورتات «وصول أعداد كبيرة جداً من الأفارقة الى السودان، وكان الناس يميّزونهم عن أبناء المنطقة الأصليين بلقب «العبد»». وعن هذا التاريخ يقول رئيس وزراء السودان السابق الصادق المهدي: «لتجارة العبيد تاريخ تراجيدي يُظهر الجانب المظلم من تاريخ البشرية ولكن على الشماليين، تقديم اعتذار لربطهم بين لون البشرة والعبودية». أما عن دور البريطانيين في ترسيخ الانقسام فلا أحد يحتاج لتذكير الصحافي الإرلندي جيمي دوران به، إذ ذهب بنفسه الى الوثائق التاريخية والرسومات الجغرافية التي بينت له أنه ومنذ عام 1922 عملت بريطانيا على فصل جزءي السودان، من خلال سن قوانين عزلت جنوبه بخط جغرافي (زون) أتاحت من خلاله فرصاً كبيرة لحركة الإرساليات التبشيرية المسيحية ولممارسة نشاطها بحرية كاملة هناك، ما خلق بؤرة تصادم بين أكبر ديانتين في المنطقة، وهذا ما استغله السياسيون من عسكر ورجال دين ليبسطوا نفوذهم ونفوذ أحزابهم على الخرطوم وبقية السودان. ومن الغريب أن الحكومة الديموقراطية المنتخبة التي تركها الإنكليز بعدهم عام 1954، تحولت وبسرعة خارقة الى حكومة عسكرية كرّست نفوذها للسيطرة على الجنوب من خلال إبقائه ضعيفاً معدوم الخدمات. فمن بين 800 وظيفة إدارية لم يحصل الجنوبيون وقتها إلا على أربع وظائف، وبذلك وعبر الكثير من الممارسات العسكرية والمدنية بدأ الشعور بالتمييز يزداد، كما قال الجنرال جوزيف لاغو، أحد أشهر مقاتلي الجنوب: «في عام 1955 بدأ الصراع بين الشمال والجنوب بالظهور، وعسكرياً بدأ مع رفض وحدات جنوبية صغيرة الانصياع لأوامر المركز وهذا ما استغله الجنرال عبود، فدعا لسيطرة الجيش على مقاليد الحكم بحجة وقف التمرد الجنوبي، ومن يومها وحكم الديكتاتوريات في البلاد مستمر». أما على مستوى التمرد الشعبي فيؤرخ لاغو انطلاقته عام 1963 واستمراره حتى وصول جعفر النميري عام 1996 الى سدة الحكم، وفي ظله وللمرة الأولى سُن قانون الحكم الذاتي للجنوب واستمر الوضع في عهده هادئاً حتى حدوث «انقلاب» حسن الترابي، كما يصفه لاغو لكونه خرق ما كان متفقاً عليه مع النميري. أضف الى هذا أن فرضه لقوانين الشريعة أو «قوانين سبتمبر» كما كانت تسمى على الجنوب المسيحي، صعّد من التوتر وحدته، كما قال أحد أصحاب المحلات التجارية في جنوب البلاد: «قوانين الترابي، أثارت الفوضى وخربت كل شيء». وقوّت القوانين حركة التمرد العسكري في الجنوب ولم تهدأ بوصول عمر البشير الى الحكم، بل أخذت بعداً جديداً باكتشاف النفط الذي استثمر موارده لمصلحته ولعب الترابي دوراً تصعيدياً من خلف الكواليس لمصلحة ترسيخ سياسته الأصولية، مستغلاً انشقاق قادة الجنوب الذي أظهر الزعيم الجنوبي الراحل جون غرنغ قائداً جديداً له. والغريب أن كثراً ومن بينهم أشد خصوم غرنغ يتفقون على موقفه المساند لوحدة السودان، ولكن مع حقوق الجنوبيين الكاملة. ولكن بموته التراجيدي انتهت هذه النزعة لتُغذى بدلاً منها نزعة الانفصال بخاصة أن البشير راهن على الجانب القومي والديني مشعلاً بهما جذوة الصراع بين قبائل المسيرية العربية والدنكا المسيحية حول مصادر المياه، والتي تحولت الى حافز جديد للصراع بعد ثروة النفط، ومعه ترشحت منطقة أبيي لتكون منطقة جديدة لحرب أهلية بين رعاة يطلبون الماء لمواشيهم، من منطقة «بحر العرب» فيما ينكره عليهم بعض الجنوبيين كونهم، وبحسب رأيهم، من سكنة المنطقة الشمالية، مع التلويح المبطن الى خيانتهم وتعاونهم مع سلطة الخرطوم، علما أن الانتخابات الأخيرة لم تحسم جغرافياً منطقة أبيي. وقد يكون في هذا مؤشر على مستقبل مشؤوم، تشير أيامه المقبلة الى احتمالات انقسامات جديدة في بلد مقسم أصلاً، وكلمات أحد شيوخ قبائل المسيرية عبرت عنها بوضوح: «إذا مَنعت قبائل الدنكا عنا وعن قطعاننا الماء فسنحاربهم. سنحاربهم حتى نصل الى أعماق أبيي!».