في خطوة سياسية غير مسبوقة، أعلنت جوباوالخرطوم طلاقهما وسط إحتفال حضره الرئيسان عمر البشير وسلفاكير مياديت. وأشاد أمين عام الأممالمتحدة بان كي مون بهذا الإنفصال الودي معتبراً أنه لا يقل أهمية عن الإنفصال المخملي الذي عرفته تشيكوسلوفاكيا عقب إنهيار المنظومة الشيوعية. علماً أن هذا الانفصال جاء حصيلة حرب طويلة استمرت من 1983 حتى 2005 وحصدت ألوف الضحايا. في حين يقول المؤرخون أن حرب السودان بدأت سنة 1900 - أي قبل إعلان الاستقلال 1956 - ولم تتوقف باستثناء فترة الهدنة التي دامت عشر سنوات بعد إتفاق أديس أبابا سنة 1972، وكانت نهايتها على يد الرئيس جعفر النميري بالاتفاق مع سياسي جنوبي هو جوزيف لاقو. وبخلاف نصوص اتفاقية أديس أبابا، قرر الرجلان تقسيم جنوب السودان الى ثلاث مناطق ذات سلطات دستورية. وفي مرحلة لاحقة إتفق النميري مع «الاخوان المسلمين» على فرض قوانين دينية إسلامية على بلد متعدد الأديان. وكان من الطبيعي أن يرى الجنوبيون في دعوة الرئيس النميري حركة مشبوهة ترمي الى إجهاض كل مساعي الوفاق الوطني، خصوصاً عندما أيده خصماه الصادق المهدي وحسن الترابي، وباركا صحوته الإسلامية المفاجئة. بعد مرور أربع سنوات على إلغاء إتفاقية أديس أبابا تبدل المناخ السياسي في جنوب السودان بشكل أفرز قيادة جديدة أكثر حرصاً على استقلال الجنوب. وظهر جون قرنق دي مابيور كزعيم لمنظمة سياسية - عسكرية لم تلبث أن أعلنت الحرب باسم «الحركة الشعبية لتحرير السودان». ويقول الوزير السوداني السابق الدكتور منصور خالد في كتابه «أهوال الحرب وطموحات السلام» أن قرنق دعا الى مؤتمر قومي دستوري يجمع كل القوى السياسية والعسكرية في الشمال والجنوب من أجل إعادة رسم الخريطة السياسية. وكانت تلك الدعوة بمثابة إنطلاقة لإشعال حرب واسعة أدت الى إسقاط النميري والإتيان بعمر البشير. وحقيقة الأمر أن حسن الترابي، زعيم «حزب المؤتمر الشعبي» المعارض، هو الذي تآمر على النميري يوم خطط لانقلاب عسكري بالتعاون مع الضابط عمر البشير. وكان البشير في الخرطوم يقضي إجازته السنوية عندما اتصل به الترابي، وشجعه على القيام بالانقلاب. وقد أقنعه، في حينه، بضرورة إعتقاله كتغطية تبرر إعتقال سائر الزعماء السياسيين. وبالفعل، قام البشير بإدخال الترابي الى السجن حيث عومل معاملة خاصة كأنه في منزله. ويبدو أن الاحتفالات الشعبية التي إستقبل بها بطل الانقلاب عمر البشير أوقعته في شهوة الحكم، فاذا به يبعد صاحب فكرة الانقلاب، أي الترابي، ويعامله كواحد من السياسيين الفاسدين. وهكذا إستخدم البشير شعار «ثورة الإنقاذ» سنة 1989 ليشيد فوقها مجده الخاص، ويعلن على الملأ بداية عهده تحت مظلة «المؤتمر الوطني». عندما أُعلنت يوم السبت الماضي (9 تموز/ يوليو 2011) ولادة دولة جنوب السودان في العاصمة جوبا قامت مجموعة صغيرة في الخرطوم بنحر الذبائح فرحاً بما تعتبره إستقلالاً حقيقياً للشمال. وكانت مجموعة «منبر السلام العادل»، التي يتزعمها خال الرئيس عمر البشير، تتقدم المحتفلين في شوارع الخرطوم لتؤكد أن تيارها الانفصالي قد إنتصر. واللافت أن الصحف المحلية سلطت الأضواء على خال الرئيس البشير، بعد مجازر دارفور، واتهمته بالعنصرية كونه ينظر الى أهل دارفور كسودانيين أفارقة لا يتساوون في الحقوق والمواطنية مع السودانيين العرب في شمال السودان. وذكر في حينه أن الرئيس البشير تبنى توجهات خاله، وشجع ميليشيات «الجنجاويد» التابعة للجيش النظامي على القيام بعمليات التنكيل والتشريد ضد قبائل ألفور والمساليت والزغاوة ما بين 2002 و 2007. يوم الرابع عشر من تموز 2008، أصدر رئيس المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لويس اوكامبو مذكرة إتهام ضد الرئيس السوداني. واستندت حيثيات الإتهام على سبعة آلاف وثيقة تتحدث عن مقتل 200 ألف شخص وتشريد مليوني امرأة وعجوز، تحولوا الى لاجئين داخل دارفور أو في تشاد المجاورة. إضافة الى مذكرة الاتهام، صدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس البشير، باعتباره المسؤول المباشر عن قمع الحركات المسلحة في دارفور، وتجاهل مطالب الأهالي. ولكنه في نهاية الأمر رضخ لصيحات الرأي العام العالمي وقبل بنشر قوات دولية - أفريقية، مع الموافقة على تسهيل تقديم المساعدات الانسانية ومفاوضة المتمردين. الرئيس البشير تعامل مع المحكمة الجنائية الدولية بإزدراء وتجاهل. ومع إزدياد ضغوطها عليه أدرك أهميتها وتأثيرها على حريته الشخصية وتحركاته الرسمية. وفي أكثر من مناسبة إضطر الى إستخدام تعابير نابية ضد المحكمة واصفاً رئيسها بأنه «تحت حذائه»، ومطالباً الأسرة الدولية بملاحقة مجرمي الحرب في العراق وأفغانستان وغزة. ولكنه في الوقت ذاته كان يوسّط الجامعة العربية والاتحاد الافريقي من أجل عقد صفقة تنازلات مع واشنطن تحرره من قيد المحكمة الجنائية. خلال تلك الفترة الحرجة، وبعد غرق الولاياتالمتحدة في المستنقع العراقي، قامت الصين بتوسيع نفوذها التجاري والاقتصادي مع 45 دولة أفريقية فتحت فيها أكثر من 150 مكتباً تمثيلياً. وقُدِّر حجم التبادل التجاري بين القارة السوداء وبكين سنوياً بأكثر من 42 بليون دولار. وخلال السنوات الخمس الأخيرة دخلت هذه الدولة الكبرى في مشاريع التنقيب عن النفط في السودان واثيوبيا. ثم لم تلبث أن تخطت حظر دول «اوبك» معلنة المنافسة في الجزائر ونيجيريا وليبيا. بعد إكتشاف النفط في جنوب السودان قررت بكين الحصول على 25 في المئة من حاجاتها النفطية من دول أفريقية. وهي حالياً تستورد ما نسبته 7 في المئة من مجمل وارداتها النفطية من السودان. كما تساهم في إقامة مشاريع ضخمة أهمها محطات توليد الكهرباء، وبناء السدود مثل «سد كاجبار»، وتوسيع خطوط الأنابيب التي تنقل المياه من النيل الى بورسودان. المنافسة العالمية على استثمار الثروات في القارة الأفريقية أغرت الولاياتالمتحدة بولوج هذا الباب. لذلك انشأت قيادة عسكرية خاصة بأفريقيا (افريكوم) تحت ذريعة مكافحة الإرهاب وتطويق نشاطات «القاعدة». علماً أن الهدف الحقيقي كان يرمي الى السيطرة على حقول اليورانيوم ومنابع النفط، على إعتبار أن اميركا تستهلك ما نسبته 25 في المئة من إحتياطي النفط العالمي. بقي السؤال المتعلق بالدوافع الحقيقية التي تقف وراء قبول البشير بالتنازل عن جنوب البلاد، شرط موافقة غالبية السكان في إستفتاء اشرفت عليه الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقي! وبناء على تلك الموافقة شارك عمر البشير في إحتفالات إعلان دولة جنوب السودان، وألقى كلمة وعد فيها الرئيس الآخر سلفاكير بالدعم الكامل لحل المشاكل العالقة. والأسباب، كما يعرفها الديبلوماسيون السودانيون الذين خدموا في واشنطنوالأممالمتحدة، مرتبطة بعدة عوامل شخصية ودولية. على الصعيد الشخصي، قرر عمر البشير الخروج من دائرة العزلة والملاحقة، خصوصاً بعدما أدرك جدية قرار محكمة لاهاي. والدليل على ذلك أن رحلاته كانت تتم بسرية وحذر، وانها إقتصرت على دول أفريقية بينها كينيا وتشاد وجيبوتي. الشهر الماضي لبّى الرئيس البشير دعوة بكين للقيام بزيارة رسمية. وبما أنه مطلوب من المحكمة الجنائية الدولية، فقد رفضت تركمانستان وطاجيكستان السماح لطائرته بعبور أجوائهما. وعلى الفور أجرت القيادة الصينية إتصالاً مع طهران وكراتشي من أجل السماح للطائرة باستئناف الرحلة. يؤكد الوزراء المقربون من البشير أنه أجرى صفقة مقايضة مع واشنطن، أعطى من خلالها موافقته على إنفصال جنوب البلاد عن شماله، مقابل بقائه في الحكم على الشطر الشمالي. وأعانه على إتخاذ هذا القرار الصعب إقتناعه بأن الجزء الجنوبي هو أفريقي غير عربي... وأن غالبيته تتكون من مسيحيين. إضافة الى هذا فان البشير أبلغ الوسيط ثابو مبيكي، رئيس لجنة حكماء أفريقيا، أن مرجعية الحكم في الشمال ستكون القرآن الكريم والسنّة النبوية. وهذا ما تستعد الجبهة الإسلامية الى تحقيقه عن طريق إستفتاء أهل الشمال على إعلان دستور إسلامي يحكم بواسطته عمر البشير شمال السودان مثلما يحكم أحمدي نجاد ايران. لهذا السبب تخلى رئيس الشمال عن أرض تقدر مساحتها بحجم مساحة فرنسا ... وعن شعب يزيد عدده على تسعة ملايين نسمة... وعن نظام موحد لأكبر دولة في أفريقيا. يقول المحللون أن تجربة إنشطار السودان الى دولتين نقيضتين لا يحاكيها في التاريخ الحديث سوى تجربة إنفصال باكستان عن الهند. وكانت تلك التجربة بمثابة إنبعاث للقومية الاثنية في آسيا. ففي سنة 1947 إنقسمت الهند الى كيانين، الهند وباكستان. وكما حدث بين جنوب السودان وشماله من حروب ومذابح، كذلك حدث بين باكستان والهند، الأمر الذي أدى الى نزوح 15 مليون نسمة سنة 1947. وعليه توجه في حينه عدد كبير من اللاجئين المسلمين الى باكستان. اليوم يشهد جنوب السودان نزوحاً من الشمال والعكس أيضا، بانتظار حل أزمة منطقة ابيي الغنية بالنفط. وقد أعلن هذا الأسبوع وزير الدفاع عبدالرحيم حسين، أن أبيي ستبقى مدينة شمالية حتى يقرر سكانها مصيرها في استفتاء عام. وهكذا يكون عمر البشير قد جعل من أبيي «مسمار جحا» كي يمنع دولة الجنوب من السيطرة على أهم مناطق النفط . * كاتب وصحافي لبناني