يتصرف رئيس تيار «المستقبل» رئيس الحكومة السابق سعد الحريري مع ملف انتخابات رئاسة الجمهورية بواقعية تُقلق حلفاءه لبعض الوقت، وخصومه لوقت أطول، باعتبار أن خريطة الطريق التي رسمها لنفسه في هذا الخصوص يمكن أن تؤشر إلى وجود نيات لديه بإعادة خلط الأوراق في المعادلة السياسية المحلية، مع أنه يبدي حرصه الشديد على عدم المغامرة أو الإفراط في التفاؤل، وهذا ما لمسه الذين التقوه أخيراً أثناء تنقلاته بين الرياضوباريس. وبطبيعة الحال، فإن اجتماعه مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في باريس في حضور رئيس كتلة «المستقبل» النيابية الرئيس فؤاد السنيورة، أدى إلى تبديد كل ما يشاع عن وجود اختلاف بينهما حول ملف الاستحقاق الرئاسي، لأنه اتسم بصراحة متناهية في تبادلهما الآراء في شأن الخيارات الرئاسية، بعيداً من المكابرة والتهويل. ويؤكد الذين واكبوا لقاء باريس أن الحريري والسنيورة وجعجع توقفوا ملياً أمام جملة من الخيارات المطروحة، لكنهم رأوا أن لا مصلحة في إحداث فراغ في سدة الرئاسة الأولى وأن هناك ضرورة لانتخاب رئيس الجمهورية الجديد قبل انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال سليمان ليل السبت - الأحد المقبل في 25 أيار (مايو)، وهذا ما يعكس رغبة قوى 14 آذار في عدم مقاطعة جلسات الانتخاب التي دعا اليها رئيس المجلس النيابي نبيه بري، والتي غاب عنها سابقاً «تكتل التغيير والإصلاح» برئاسة العماد ميشال عون وقوى 8 آذار باستثناء الكتلة النيابية التي يرأسها رئيس البرلمان إضافة الى كتلة «جبهة النضال الوطني» بزعامة وليد جنبلاط. وأبدى جعجع، كما يقول الذين واكبوا هذا اللقاء، تفهماً لوجهة نظر الحريري، خصوصاً لجهة تبنيه فكرة إمكان التوافق على رئيس جديد والذي لا يشمل زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون وحده وإنما المرشحين الآخرين، وهي فكرة ما زالت قائمة. ويؤكد هؤلاء أن الحريري لا يضع «فيتو» على أي مرشح رئاسي ولا مانع لديه من التوافق على عون شرط أن يكون قادراً على إقناع الأطراف المسيحيين وعلى رأسهم المنتمون إلى 14 آذار، ولفتوا إلى انه أبلغ موقفه هذا إلى وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل عندما التقاه أخيراً في باريس. ويضيف هؤلاء أن «القرار بالتوافق على رئيس جديد ليس عند الحريري وإنما يقع على عاتق المسيحيين، وهو كان أول من سهّل لهم الوصول إلى التوافق عندما أبلغ جميع من يعنيهم الأمر أنه لا يلعب لعبة «الفيتوات» ويدعم في الوقت نفسه الحؤول دون الفراغ وعدم تطيير النصاب القانوني لتأمين انعقاد جلسة الانتخاب». ويقولون إن الحريري ليس عقبة أمام التوافق المسيحي على رئيس ولن يسمح لنفسه بأن يلعب لعبة الآخرين ممن لا يريدون انتخاب عون ويطلبون منه أن ينوب عنهم في وضع فيتو على انتخابه، وإلا لماذا لم يصدر موقف عن 8 آذار تتبنى فيه ترشيحه؟ ويشير المواكبون للقاء باريس إلى أن هناك في 8 آذار من يبدي انزعاجه من الحوار المفتوح بين «المستقبل» و «تكتل التغيير»، وأن المنزعجين يتطلعون إلى «توريط» الحريري باتخاذ موقف ضد عون يدفع في اتجاه وقف الحوار وعودة العلاقة بينهما إلى نقطة الصفر، خصوصاً أن الحريري كان واضحاً في اجتماعه مع باسيل، إذ قال له: «إننا نأمل بأن يستمر الحوار لمصلحة البلد واستقراره حتى لو اختلفنا حول الاستحقاق الرئاسي». مخاوف تتكرر ويرى هؤلاء أن جعجع يتصرف بواقعية وسيبقى مرشح 14 آذار في جلسة الانتخاب المقررة غداً، كما سيبقى النائب هنري حلو مرشح «جبهة النضال الوطني» و«اللقاء النيابي الديموقراطي»، فيما يميل بعض أطراف 8 آذار و «تكتل التغيير» إلى تكرار مقاطعة الجلسة خشية تمرير اتفاق تحت الطاولة يجري الإعداد له بين جنبلاط و14 آذار ويؤدي إلى انتخاب رئيس بأكثرية نصف أعضاء البرلمان زائد واحداً، أي 65 نائباً، مع أنه لا يلوح في الأفق أي بوادر تصب في هذا الاتجاه. لكن واقعية جعجع تكمن في أنه يدرك أنه يواجهه أكثر من عقبة تمنع انتخابه رئيساً للجمهورية، وهو كان ألمح إلى استعداده للعزوف عن الترشح في حال توافرت القدرة لرئيس المجلس الأعلى للكتائب الرئيس أمين الجميل أو لوزير الاتصالات بطرس حرب لخوض مبارزة رئاسية ناجحة إذا ما تمكن أحدهما من انتزاع تأييد نواب من خارج 14 آذار. وعليه، فإن جعجع بدأ يفتح الباب تدريجاً أمام خروجه من المنافسة الرئاسية بعدما حقق من خلال ترشحه أكثر من نقطة إيجابية لمصلحته، ومن بينها أنه نجح في رفع الحرم السياسي عنه كقائد ميليشيا أو كسجين سياسي سابق، وتمكن من أن ينضم إلى لائحة الأقطاب السياسيين الذين يصنفون على خانة صانعي الرؤساء، كما أن جعجع وإن كان يلوم بعض النواب المنتمين لقوى 14 آذار، لعدم انتخابه في جلسة الانتخاب الأولى، التي تأمن لها النصاب، واقتراعهم بورقة بيضاء، فإن هذا المشهد لن يتكرر وتمت معالجته، إضافة إلى أنه سيكون أحد أبرز المشاركين في المعادلة السياسية لمرحلة ما بعد انتخاب الرئيس، خصوصاً وأنه نال تأييد حوالى 40 في المئة من أصوات العدد الإجمالي للنواب. وعليه، فإن نواب 14 آذار سيشددون من الآن وصاعداً على التحذير من تداعيات الفراغ السياسي ولن يدخلوا طرفاً في السجال الدائر حول إمكان التمديد للرئيس سليمان لئلا يتهموا بأنهم يخططون للهروب إلى الأمام لا سيما أن التمديد يبقى أكبر من قدرة الأطراف المحليين على تسويقه في الداخل، وهو يبقى رهن المعادلات الدولية والإقليمية، مع أن هناك صعوبة في تظهيره خلال الأيام المعدودة المتبقية من ولايته. وفي شأن المواقف من ترشيح عون غير المعلن حتى الساعة، فإن المصادر المواكبة لمداولات باريس تسأل لماذا لا يشارك نواب «تكتل التغيير» وحلفاؤهم في جلسة الانتخاب لضمان انتخابه طالما أن أوساطه تتحدث عن أن 65 نائباً سيؤيدونه، وبالتالي لا يمكن تطيير الجلسة في ظل إصرار «المستقبل» على عدم مقاطعة جلسات الانتخاب. وإزاء حديث أوساط «تكتل التغيير» عن أن عون يتطلع إلى تأييد نواب «المستقبل» لينتخب رئيساً وليكون جامعاً، فإن مصادر أخرى تضع حسابات «تكتل التغيير» الانتخابية في سياق التهويل على الآخرين بغية إرباكهم لعلهم يتداعون، وتحديداً معظم نواب 14 آذار، إلى تطيير النصاب خوفاً من انتخابه، وبذلك تكون المقاطعة قد أنقذته من الإحراج الذي يلقاه من البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي على خلفية عدم التزامه بالوثيقة التي وقعها، وفيها التزام حضوره جميع جلسات الانتخاب. وتعتبر المصادر المناوئة لعون، أن الأخير يتبع حالياً سياسة «تهبيط الحيطان» على خصومه وصولاً إلى إحداث فراغ يؤدي إلى تعليق الانتخابات الرئاسية، متوقعاً حصول تطورات دراماتيكية في المنطقة قاعدتها التقارب الإيراني- الأميركي في الملف النووي واحتمال تطبيع العلاقات الإيرانية الخليجية العربية، بدءاً بالمملكة العربية السعودية والتي يفترض أن تصب لمصلحته من دون أن ينقلب على تحالفه مع «حزب الله» ويقدم نفسه على أنه وحده القادر على ضبط أدائه وسلوكه في لبنان. لكن كل هذه الحسابات تبقى من الفرضيات طالما أن الحراك في المنطقة لم يبدأ حتى الساعة، وبالتالي سيعرف جعجع اختيار الوقت المناسب للخروج من المنافسة الرئاسية لمصلحة البحث عن مرشح توافقي لم يتم تظهيره حتى الساعة، لكنه لن يخرج وحيداً وإنما يراهن على أن يتأبط ذراع عون ليغادرا معاً، فهل سينجح حلفاء الأخير في إقناعه بضرورة البحث عن رئيس تسوية أم أنه سيبادر إلى إحراجهم بقلب الطاولة في وجه الجميع، مقيداً قدرة حليفه «حزب الله» على التصرف، لأنه سيضطر للوقوف خلفه في السراء والضراء وعدم الافتراق عنه إلا بقرار يصدر عن «الجنرال».