عاشت الأحياء المكية ردحاً من الزمن وهي تحتضن الفرح وترسمه، لوحة مضيئة في عيون الناس، يحتفلون به ويحتفظون بقصصه إرثاً أبدياً لا ينازعهم فيه أحد. ومكةالمكرمة بما حباها الله من ميزات قل ما تتواجد في مثيلاتها من المدن. لها من طقوس الفرح والاحتفالات ما تتميز به، خصوصاً تلك التي تشهدها مراسم الزواج والأعراس المكية فمن موكب العرس أو ما يسمى عند أهل الحجاز في مكةالمكرمة والمدينة المنورة خصوصاً «المِلْكة» إلى مشهد «الغمرة» مروراً بالتقليد المشهور «الدبش» ونهاية بآخر الليالي وأجملها ليلة الدخلة، حكاية تبدأ ولا تنتهي، وماض خلده عبق التاريخ ليبقى جميلاً في ذاكرة الإنسان المكي. ويصف أحد كبار أهالي حي النقا أحد الأحياء العتيقة في مكةالمكرمة هاشم حلواني شيئاً من تلك الأيام والليالي الجميلة ل«الحياة» فيقول: «تبدأ أول مظاهر الفرح بموكب العرس بعد توافد الجميع من الأهل والأصحاب والمعازيم والمأذون الشرعي إضافة إلى «الجسيس» إلى منزل العريس، ثم يبدأ بعد ذلك تحرك الموكب وسط صوت ابتهالات الجسيس الذي يعطر المكان بصوته الندي وموالاته الخالدة، فيجوب الموكب عدداً من الأحياء المجاورة في طريقه لمنزل العروس، ويمر على البيوت التي يخرج أهلها للمشاركة في هذا الموكب». ويتابع: «يؤدي الجسيس الموال بإلقاء أبيات شعرية تحتوي على مديح العريس وآله والدعاء له حتى يتم الوصول إلى منزل العروس حيث مقر حفلة عقد قران العروس، فيصطف الجميع أمام منزل أهل العروس، ولا يدخلون حتى يؤذن لهم بعبارات ترحيب جميلة، ومن ثم يباشر الجسيس إلقاء بعض الأبيات الشعرية التي يمدح فيها العريس والعروس وأهليهما، ومن ثم يتم عقد القران بواسطة المأذون الشرعي، وبعد الانتهاء من كتابة العقد يلقي الجسيس أيضاً أبياتاً شعرية بالطريقة نفسها، وبمقامات مختلفة يتم فيها المدح والدعاء للعروسين، ليغادر بعدها المدعوون إلى منازلهم وقد غمرت الفرحة محياهم وقضوا ليلة من ليالي الفرح والسعادة». وعن مراسم موكب العرس ودهاليزه وأسراره الجميلة يقول سراج لبان: «لعل من أبرزها ذلك التكاتف الذي تشهده تلك الليلة الخالدة من أبناء الحي الواحد، فبعضهم يحمل «الأتاريك» التي تضيء الطريق للموكب، وآخرون يحملون البواخر وهي سفن صغيرة على شكل مجسمات تعبأ بالحلويات وبعض العطور لإهدائها لأهل العروس، والبعض الآخر يحمل علب الحلوى أو ما يعرف عند أهل مكة بالمعاشر إذ تغطى تلك العلب بغطاء جميل حاملة معها ألواناً زاهية وجذابة في جو أسري جميل يمثل مدى الترابط الأسري بين المجتمع المكي». ويواصل العم سراج حديثه: «يمتاز موكب العرس سابقاً بالمباخر التي يحملها الصغار من أبناء الحي الذين يرتدون الزى المكي الجميل المكون من «الغبانة» والبكشة، إضافة إلى شربة زمزم وهي عبارة عن قنينات نحاسية كانت تستعمل قديماً في الحرم المكي، وتجهز هذه القنينة لسقاية العريس ليلة عقد قرانه وليلة زفافه أيضاً، كما أن الموكب يمتاز أيضاً بحمله لأهم أدوات الحفلة وهو ما يطلق عليه عربة المِلْكة وهي عبارة عن مجسم جميل توضع فيه الهدايا والعطور، إضافة إلى المهر المقدم من العريس إلى عروسته ليلة عقد قرانهما».