كتبتْ هذه الرواية، ذاتُ السرْد الدائري، بلغةٍ أدبيّةٍ، فيها رقة الشعر، وسلاسته، وطريقته في التعبير بخطوطٍ مواربَة، تجعل القارئ يبحث عمّا وراء الكلمات، والتكوينات المفعمة بشهوة التحديق في خفايا المشهدِ السرْديّ، وأسراره. تقولُ (جوهرة) بطلة الرواية، في وصف أبيها عند وداعهما في مطار الرياض: "ينقبضُ قلبُها بذكرى وجه أبيها في المطار، غامقا، ذاهلا، تغْرَقُ عيناهُ في غمامةٍ تشبه تلك التي طفرتْ منهما في يومها الأول في إعدادي طب. يخشى أنْ يخاتلها أحدُهم في منعطفاتِ المستشفى، أو يخلو بها، أو يختطفها مَهْووسٌ في أثناء مناوبتها الليلية.. تلك المخاوفُ كانت تثير ضحكها.. وقهقهاتها.. لكنّها ظلتْ ملتصقةً بها، مثلما يلتصق الغبارُ بغرفة مهجورةٍ، ثقيلةٍ، مكبّلةٍ، بأثاثٍ يرفضُ أصْحابُه التخلّصَ منه". فمثلُ هذه العبارات: "مثلما يلتصق الغبار..." تلقي الضوء على ما لدى الكاتبة من تشكيل لغويٍّ أنثويٍّ يُفضي إلى جداولَ ثرّةٍ تضْفي على فضاءِ الرواية نسقاً جماليًا كما لوْ أنّه حِليَةً نسوية، أو رداءٌ مُطرّزٌ بعروق، وزهور ملونة، صغيرة. ويتضح هذا النسق، وضوحًا أكبر، كلما دار المشهد السردي حول المكان، فهذا ليبرمان يدعوها لفنجان قهوةٍ في مقهىً يقعُ في شارع يونغ، فتهبّ على المَشهدِ موْجَة من الكلمات المثقلة بالمُعْجم المنْزلي: "مقهىً بأثاثٍ خشبيٍّ مُعتّق، ونوافذ شاسعة بإطاراتٍ خشبيةٍ مشغولةٍ، تكشفُ الشارع، وتدخل كمّا وافرًا من الشمس، ُتلطِّفُ طغيان لوْن الخشب، في المقهى، مقاعدُ ذاتُ وسائدَ صفراءَ مَرحَة، مع أغطية طاولاتٍ بنفْس اللون". ومثل هذه اللقطات قلما تقعُ عليها عيْن كاتب، فالكاتبة، على هذا المستوى، أكثر تأثرًا. فلنلاحظ، على سبيل المثال، وصفها لألوان الوسائد بالمَرحَة، والإطارات الخشبيّة بالمشغولة، والتضادُّ بين لون الخشب البني القاتم، والأصفر الفاقع.. تنافرٌ له ما له من تأثيرٍ في وضوح الصّورَة. والتأثُّرُ بالمكان لا يقتصر على شواهد من هذا القبيل، وإنما يظهَرُ هذا الأثر، ويتجلى، في وصفها للأشخاص. فالمُعْجم التشكيليُّ، المكانيُّ، لا يفارق الساردة، تقول في الاحتفال بعيد القديس (بياتريك) الذي دُعيتْ الجوهرة لحضورهِ: "في بؤرة الاحتفال فتياتٌ يافعاتٌ يرتدين تنانير مُخملية، قصيرة، يغلبُ عليْها اللوْنُ الأخضرُ، يكوّنّ حلقاتٍ، ويرقصنَ رقصاتٍ سريعةً، رشيقةً، خلابَةً، ويحرِّكْن أرجلهنَّ على وقْع موسيقى إيرلندية يصدَح بها مِزْمارٌ، ما يلبثُ بعدها أنْ يبدأ الرجالُ، والنساءُ، يرقصون رقصة مشتركة، فيها الكثيرُ من الفرَح، والتقافز، في أرجاءِ الصَّالة، كانت شعورُ النساءِ تتطايرُ مع القَفَزَات، بينما الرجال يطوّقون خصورهنَّ بإحْكام ". فالحلقاتُ، واللوْنُ الأخضرُ، والمُخْمليّ، والسواعدُ التي تطوّقُ الخصور بشدّة، لغة تشدنا شدًا إلى لوْحة رُسِمَتْ بالخطوط، والألوان، ولم تخْلُ حتى من الحركةِ، والإيقاع، والأصوات. لغة تحيلُ إلى الإطار، والمَساحة، والمسافة، والكتلة؛ لغة لا تعبّر إلا عن أنَّ المكان هُوَ أساسُ الوَعْي المَحْكيّ: "عينان خضراوان ضيقتان. وجبينٌ عريضٌ ينكفئُ إلى الخَلف. فيما يترك بقية شعْرهِ الأشعث مُتهدّلاً حتى كتفيه". وهذا الانتباه للسَّعة، والضيق، واللون، والطول، أو العرْض، والتقدم، أو الانكفاء للخلف، لغةٌ لا تنتبهُ للمشاعر حسْب، بلْ للتكوين الفنّيّ، ففي وَصْفِ الساردة لنظرات العاشق ليبرمان نحو جوهرة، إحساسٌ يملأ الفضاء التعبيريّ: "تشعرُ بأنه يؤثث تلك المساحة بينهما. على الطاولةِ بطاقاتٌ ودُودةٌ، تصل إلى جسدها، كرائحةِ قمْح أخضر. مُسْتغْرقٌ بها. يتأملها، بتيقظٍ، كأنها نقْطةٌ يتأمّلها من شاهق، وهو يقفز بالبراشوت يحاولُ أنْ يصلَ إليها". هذه الكلماتُ: «يؤثّث المساحة، الأخضر، نقطة في دائرة، يهبط من علٍُ ليَصِلَ إليها".. كلماتٌ تحيلنا إلى مُعْجم هندسيٍّ، تشكيليٍّ، يذكّرنا بمشهدٍ عن بالية مقتبس عن ألف ليلة وليلة، دُعيتْ لحضوره، فكان أبرزَ ما اسْتحْوَذ عليها هوَ المشهدُ، بما فيه خطوطٍ، وألوانٍ، وزخارف "أسواق شرقية، وقصور باذخة، وسجّاد مزخرف.. تودّ أن تعرفَ كيْفَ يروْن جزءًا من "أناها".. من فسيفساءِ تاريخها.. شيءٌ يطوّقها بإطارٍ لهُ كثافةٌ، ولهُ لوْن..". والواقع أنَّ هذه اللغة، ذاتُ المَظْهر التشكيليّ، قد لا تكونُ ضروريّةُ في رواية أخرى، يحتل المكانُ فيها موقعًا ثانويًا، ومنزلة غيْر أساسية، ولا جذريّة. ولكنْ، بما أنّ هذه الرواية تنطلق من فكرة الربط بين المكانِ، والهويّة، وأنّ مفارقتها تتطلّبُ تغييرهُ، والاندماج في المكان الهدف (المرسل إليه) اندماجاً يُنسي الذات، أو الفاعل (المُرْسِل) مكانه الذي انبثقَ منهُ انبثاقاً يجعله دائم الانجذاب إليه، مشدوداً إلى حيث الكوابيس تساورُه، وتعاودُه، فهو، تبعًا لذلك، في حاجةٍ ماسَّةٍ لهذه اللغة التي تكثر فيها مفرداتُ المكان، وتتنوّع ملامحُهُ، ملقية الضوءَ على ما تثيرهُ من تحولاتٍ في الخطاب السَّرْدي، بحيْث يغدو خطابًا بَصَريًا كما الرسُومُ، والأشكال الفنّية ذات الأبْعادِ، من طولٍ، وعرضٍ، وعمْقٍ. هذه اللغة - وإنْ بدَتْ في الظاهر لغةً مباشرةً – يكثرُ فيها التلاعُبُ بالدلالات عن طريق التنظيم القائم على تقابلات ثنائية، من مثل: حيّ عليشة في الرياض، يقابله شارع يونغ في تورنتو بكندا. وضعيّة تحوّل شارع يونغ من مدلول إلى دالّ، يواصلُ عبر السرد البصري تأثيرَهُ في تعديل المستوى الدلالي للمَحْكيّ. كذلك منطقة الشلالات (نياغارا) في الجانب الكنديّ تقابلُ (حريملاء)، مشهدٌ مملوءٌ بالرذاذ الضبابي، والشمْس المُطلةِ عبْر أقواس قزح، تتحَوّل، هي الأخْرى، من مدلول تنْبَهرُ به الجوهرة، وعبد الرحمن، إلى دالّ يؤدي إلى تغيير المَعْنى، وإدامة التحولات الدلالية التي تبحث عن الدوالّ في خروجها المُتكرّر من أقنعة الألفاظ المُباشرة، إلى مدلولاتٍ أخرى كامنةٍ يُوحي بها النصّ. و(جيّا) ذاتِ الأصْل الهنديّ، تقابلُ بصورة عكسيّةٍ أدرْيان النرويجية العاملة في المستشفى، وليبرمان ذو الرأس الذي يشبه البطيخة، يتحول - هو الآخر - من مدلول إلى دالٍّ ينفتح على فيض من الإشارات التي تواصلُ تغيير اللغة المألوفة لمنولوغ البطلة غير المباشر، طوال الأحداث المسْرودَة؛ منذ الطفولة حتى اللحظة التي تعمَّدتْ فيها تغيير رقم الهاتف، ولهذه التحولات، في واقع الأمر، أثرٌ في كشف السّتار عن النسق المضْمَر لسيرورة الحوادث، مما يجعل ظهور منيرة، في نهاية الحبكة، رمزًا يعبّر عن ذرْوة الحدث المِحْوَريّ، وهو مطاردة الماضي لطبيبة مثقفةٍ منبهرَةٍ بالحاضر الآني، وتريد- جادّةً - التخلص من ذلك الماضي، بما فيه من (دَبَبَةٍ) ورؤوسٍ كالبطيخ، وبَدْو لا يحسنونَ مخاطبة الآخر، وأبٍ لا يفتأ ينظرُ لابنته الكبيرة باعتبارها طفلة تفتقرُ لمنْ يُساعدُها على الوقوف. والشيء الذي لا ينبغي أن تفوتَ القارئ ملاحظته، أنَّ «الوارفة» كتبت بلغة تفيض بالأنوثة، ومع ذلك نتردد في احتسابها ضمن الأدب النسوي.. فقد تحررت فيها أميمة الخميس من اللغة المبتذلة، والمتهافتة، التي تشيع في الرواية النسوية عادَة.. فتناولت واقع المرأة بأسلوب متحرّر من حَسَدّ الذكورة. فلا نجد فيها ما نجدُه في «أنثى العنكبوت» لقماشة العليان من إقصاء للأب الطاغي، المستبد، الذي لا يرْحم، ولا يترك للرحمة سبيلا إلى قلبه. ولا على النحو الذي نجده، مثلا، في رواية عفاف بطاينة « خارج الجسد» وهي لا تصوّر الأخ مثلما تصوّرهُ كاتبة مغربية كباهية الطرابلسي في « امرأة ليس إلا « باعتباره ندًا، أو منافساً مُدللا، يجعلها تتمنّى لو كانت ذكراً. ولا على النحو الذي نجده في رواية سحر خليفة « مذكرات امرأة غير واقعية». ولا نجدُ فيها تمرْكزًا حول الجنس، إلا بالقدر الذي تتطلبه، أو تفرضُه، طبيعة العلاقة بين رجلٍ، وامرأة، شاءت الأقدار أنْ يتحابّا، أوْ أنْ يكرَهَ كلٌّ منهُما الآخر. لهذا كله نجد في إدراجها في سياق الأدب النسويّ ضرْباً من التسامُح الذي يتعدّى، الانضباط المنهجي المرجوّ في النقد النسوي، ويتجاوزُه. ويُسْتخلصُ، ممّا سَبَق، أنّ للكاتبة، أميمة الخميس، بصيرةً سرْدية عِمادُها دقّةُ الملاحظة، ودراسَة المَشْهِد السرْديّ، من الداخل، والخارج، مما يُؤدّي إلى نسْجٍ لغويٍّ تمْتزجُ فيه رؤية الفنان، برؤية الراوي. لذا نجدها تهتمُّ بالألوان، وتمْعِنُ في مسائل الضوءِ، والظلّ، ورسْم الأجْسام المشهديّة، رسْمًا ثلاثيَّ الأبعاد، من حيثُ الطولُ، والعَرْضُ، والعمْقُ، مع النَّظر، في الوقتِ ذاته، للمساحة، والمَسافة، نظرةً خاصَّةً، تسْهمُ في بناءِ المَشْهَدِ، إلى جانبِ التنظيم الشكلي المُناسب ِللمَلفوظِ الحكائيِّ، ممّا يدْعم الوشائج بين السَّرْدِ، والفنّ.. أيْ: بين الزَّمَنِ وَالمَكان، إذا تذكَّرْنا بأنّ السرد يحيلُ إلى زمن، والفن البصريّ يحيلُ إلى مَكان. أكاديمي وناقد أردني.