تلعب الثقافة دوراً كبيراً في تشكيل سلوك الإنسان، فهي العامل المؤثر في ما ينجزه، ولها أهمية كبيرة أيضاً في السياسات العامة لأي دولة، لما لها من قدرة على فتح آفاق جديدة عبر الحوار والتفاعل، إلى جانب أنها ضمانة رئيسة لقيم التحضر والمساواة، ومدخل نحو الحكم الرشيد. وفي ظل ما تمر به منطقة الشرق الأوسط حالياً، تصبح الثقافة أداة لكي تكون مدخلاً مهماً لمكافحة الإرهاب، واقتلاع جذور التطرف. ومِن دون دور واضح للدولة في الاهتمام بالبعد الثقافي، مع الجدية في رسم وصنع وتوجيه السياسات الثقافية ومدى اتفاق هذا التوجه مع السياق الثقافي العالمي، لن تفلح هذه الخطوة. التركيز على الدور الأمني في مواجهة الإرهاب، ثبتَ فشله، فلا بد من مواجهة شاملة تركز على مواجهة حاسمة مع عناصر دوائر التطرف، بداية من أصحاب الفتاوى الخاطئة والمصادر التي يعتمدون عليها، إلى جانب تنظيم ظهور مثل هذه الأفكار المتطرفة في مجتمعاتنا. المثقفون والمفكرون وحدهم هم الذين يملكون القدرة على تصور المستقبل، ومِن دون منحهم الأدوات المناسبة والبيئة الملائمة لن يمكنهم القيام بشيء. لذا، لا بديل عن منح هؤلاء الفرصة لاختراق الممنوعات والقوالب الجامدة في عالمنا اليوم. ومِن دون حرية الحركة واتساع الأفق، لن يمكنهم تحقيق ما ينتظره منهم المجتمع، ومن ثم ستظل مكافحة الإرهاب أسيرة المواجهات الأمنية. وكلما يتم استهداف شخص متطرف وقتله يخرج العشرات فداء عنه، وهذا يرجع إلى الحشد والقدرة على دغدغة مشاعر البسطاء، إلى جانب تصفية الحسابات مع السلطة الحاكمة. والأهم هنا هو اقتلاع الأفكار المتطرفة وخلق مساحات من النقاش وتبادل الأفكار كي يشارك المواطن في نقاش جاد حول أزمات الشارع وسبل حلها، والمشاركة الإيجابية لتنفيذ ذلك وبالتالي تنقية وتبصير العقول بالمفاهيم الصحيحة ومنح الشباب فرصة التعبير عن أنفسهم. ولكي تكتمل المعادلة لا بد من اهتمام الحكومات العربية بحماية التراث الثقافي الذي تتميز به كل دولة، والتركيز على الاهتمام بالآثار والمخطوطات والوثائق لتأكيد دور الدولة الإيجابي في تعظيم الاستفادة من هذه المواقع، بدلاً من قيام جماعات وتنظيمات متطرفة تطمس معالم تاريخية وحضارية لتحقيق مصالحها الإجرامية. فالمجتمعات التي تهتم بتاريخها وتراثها وتمنح الفرصة لأبنائها بزيارة المواقع الأثرية وقراءة الظروف المحيطة بها لخلق أجيال تعشق بلادها وتراثها، تمنع تكرار مشاهد تحطيم المتحف الوطني في الموصل وتدمير التراث الإنساني في سورية والعراق وليبيا. لا نريد زيارات روتينية للتلاميذ والطلاب للكنوز الثقافية والتاريخية والأثرية التي نملكها، وإنما نريد دعوة الأجيال القادمة للارتباط بأوطانهم كي لا يشعروا بأنهم غرباء في بلدهم، ومن ثم لا بد من تشكيل الوجدان والعقول بأن هذه الممتلكات لهم ولأولادهم. فمثلاً، كنتُ في زيارة لقلعة صلاح الدين في القاهرة، ووجدت رحلات مدرسية كثيرة، ففرحت واطمأن قلبي، حتى فوجئت بأن المشرفين يكتفون بوضع التلاميذ في الحدائق للترفيه من دون الدخول في تفاصيل القلعة، معماراً وتاريخاً. كذلك لا بد من توفير الخدمات الثقافية للمواطنين وتوفير البنية التحتية لممارسة الأنشطة الثقافية والاستمتاع بها، لخلق حالة من الحيوية بوتيرة متسارعة تتزامن مع انتشار الأفكار الإرهابية وإفلات الجناة من العقاب. علينا أن نبدأ من الآن في بناء قصور ثقافية جديدة وتطوير بيوت الطفل كي تتماشى مع الظروف المحيطة، والتغيرات التي يمر بها المجتمع، واتباع أفكار وسياسات جديدة تناسب عقلية الطفل اليوم، وليس عقلية الثمانينات والتسعينات، كذلك اختيار رؤساء لهذه القصور على أسس علمية صحيحة، وشخصيات محترفة تعمل على تنمية الأفكار الإبداعية لدى الأطفال، والكف عن اختيار شخصيات نمطية، لم ولن تطور نفسها، ومن ثم ستظل غير قادرة على مواجهة التحديات الراهنة. وكثيراً ما طالبنا بتنظيم معارض كتب متنقلة، خصوصاً في المناطق الحدودية، مثل شمال سيناء، ومرسى علم، ومطروح. لذا آن الأوان لتنفيذ هذه الأفكار، وتحويلها من مجرد أحلام ومطالب ونصوص إلى واقع. اطلعتُ أخيراً على جملة الاستثمارات الحكومية المستهدفة في قطاع الثقافة للعام الجديد، والتي بلغت 444،5 مليون جنيه، وتساهم الخزانة العامة للدولة بنحو 86،4 من إجمالي الاستثمارات الحكومية بقيمة 339،7 مليون جنيه، ولكن هل تترجم هذه الأرقام على أرض الواقع لتغيير الصورة إلى الأفضل؟ هل ينعكس ذلك على المجتمع في ظل تراجع الاهتمام بالثقافة، والتجاهل التام لدور الثقافة في تحريك المياه الراكدة في المجتمع، ودفع دور الثقافة للأمام لمكافحة الإرهاب تارة، وللنهوض بالتنوير في المجتمع، وبث الأمل في النفوس بعد سنوات من اليأس والإحباط؟ أذكر أنني تحدثت من قبل عن ضرورة مواجهة الإرهاب بالثقافة، فهي قادرة وبقوة على تعرية فكر الإرهاب وتحجيم خطورته، حيث تحمل في مضمونها فلسفة واتساع أفق يجعلان من المفكر والمثقف مدركاً حجم التحديات، ورؤية نقدية وخيالاً إبداعياً يسمحان بدق ناقوس الخطر في شأن التهديدات التي يتعرض لها الوطن. ومع تعزيز ثقافة التسامح وقبول الآخر وتأكيد مبدأ المواطنة عملياً ينهض المجتمع، وتتوافر البيئة الحاضنة لمقاومة الإرهاب والتطرف. عندما ترشحت في انتخابات مجلس الشعب المصري 2010، دعوت كثيراً لتوفير دور إيجابي لمراكز الشباب والنوادي الاجتماعية ومراكز الثقافة على مستوى الجمهورية من أجل تنظيم دورات رياضية وفكرية، تكون فرصة لتبادل الأفكار البناءة وزيادة اللحمة بين المواطنين من دون تمييز. وتحضر في ذهني تجربة في إحدى مدن الدنمارك، حيث يجتمع مواطنو كل حي أسبوعياً في مبنى ويشاركون في أنشطة ثقافية ورياضية، كما يتبادلون الحديث والنقاش من أجل مناقشة مشكلات الحي وكيفية حلها، وسط حضور أعضاء المجالس المحلية ونواب البرلمان، وهي بلا شك تؤدي إلى نتائج إيجابية على المستوى البعيد، تضمن مشاركة فعالة لكل المواطنين، من دون تفرقة على أساس الدين أو الجنس أو اللون، فلماذا لا نستلهم مثل هذه الأفكار ونطبقها في مجتمعنا، فهي سيكون لها دور في محاربة التطرف، مع زيادة الوعي السياسي وتعزيز الانتماء الوطني، بخاصة بين الشباب؟ وكنت أسمع عن الحاجة إلى مثل هذه المبادرات، لذا تحمست للحضور حينما طلبت مني المشاركة لإدارة حوار مع الشباب في معسكرهم حول «الثقافة والمسرح ضد التمييز»، والذي يرعاه الاتحاد العام لنساء مصر برئاسة الدكتورة هدى بدران، وبالتعاون مع وزارة الشباب والرياضة وجامعة القاهرة، في إطار مشروع تصحيح المفاهيم الثقافية التي تدعو وتشجع التعصب ضد المرأة والأقباط، وحضرت أيضاً نخبة من المثقفين منهم د.عمار علي حسن وأسامة الأزهري، للمساهمة في حوار مفتوح وتغيير للمفاهيم التي تدعو للتمييز والتعصب الديني والانغلاق على الذات. وتحدثنا في موضوعات شائكة مثل، الطائفية، ختان الإناث، القمع الأسري، حقوق المرأة، حتى نساهم في غرس الإيمان بقدرة الفن غير المحدودة في التغيير لدى الشباب وتصحيح المفاهيم والانفتاح والوعي. وهنا نؤكد دور الثقافة في مكافحة الإرهاب ليس بمفهومه التقليدي من خلال ندوات وأنشطة فنية، وإنما من خلال تبني صغار وشباب المبدعين وزيادة فرص مطالعة الكتب والوثائق وضخ مزيد من أجهزة الكومبيوتر ومخاطبة الشباب بلغة اليوم، ومنحهم الفرصة كاملة للإبداع والخيال الفكري، بعيداً من الملاحقات التي يقوم بها دعاة الشهرة والإعلام، وما يقومون به من تجميد للفكر والإبداع، ومساعدة المتطرفين على بث سمومهم في المجتمع من دون أي صد، فالإبداع الفني والأدبي يساهم مع خيال الكاتب في التحذير من صعوبة الوضع الراهن وضرورة اتخاذ خطوات استباقية لمنع تغلغل الأفكار الإرهابية في المجتمع. والحوار مع الشباب بداية نحو تحقيق ما يتمنون، بدلاً من تملية ما نريده عليهم وما يترتب على ذلك من اتساع فجوة جيلية تعمق الأزمة. وأتذكر أنني شاركت في كثير من المؤتمرات والفاعليات المعنية بمكافحة الإرهاب في الولاياتالمتحدة وعدد من الدول الأوروبية والآسيوية، ووجدت أنه يتم تنظيم محاضرات لمتخصصين موجّهة لأفراد الجيش والشرطة لإطلاعهم على تحليل متخصص لتفكير العناصر المنضمة للجماعات الإرهابية بالأرقام والإحصائيات، بما يضمن تحديد الطريقة المناسبة في التعامل معهم، وهو ما يصب في النهاية في جهود الدولة لمكافحة الإرهاب، وعدم الاتكال على المعالجة الأمنية فقط، التي أثبتت الممارسة العملية أنها لم تعد مجدية في ظل التغيرات الإقليمية والدولية. ختاماً... الثقافة والشباب يمثلان حائط الصد الأول في معركة التقدم نحو مصر التي نريدها، ديموقراطية عادلة حديثة مبنية على مبدأ المواطنة للجميع، ضد قوى التخلف والظلام والإرهاب الأسود. * برلمانية مصرية سابقة وأستاذة علوم سياسية.