الفنون والآداب تهذب الإنسان، وتمنحه تذوق الجمال، وتكرس في داخله ثقافة الحياة لا ثقافة الموت، وفي المجتمعات العربية، يُمثل المثقف طوق نجاة لمجتمعه، حيث يجوع المجتمع إلى المثقف المستنير، وباتت الحاجة ملحة وضرورية إلى صوت الكلمة وسط سيول الدماء التي لم تجف بعد، إثر الإرهاب الذي ضرب العالم كله والتطرف الذي اخترق العقول بخاصة في بعض البلدان العربية. غير إن ثمة معوقات قد تعرقل أداء المثقف العربي، وتحد من دوره وتطلعاته, فالمثقف إما أن يكون مثقفًا عضويًا يلتحم بواقعه من خلال مشروع ثقافي إصلاحي، ويتدفق إلى أرض الواقع عمليًا، وإما أن يكون مثقفًا تقليديًا يرتكن إلى قلمه وإبداعه فحسب، يُنظّر كتابة ويشتبك مع واقعه على الورق, لكن هل تستطيع حقًا الثقافة أن تواجه الإرهاب والتطرف؟ كبسولة التوازن طرحت "الرياض" هذا التساؤل على بعض المثقفين العرب، وباحوا بطموحاتهم وأفكارهم في هذا الصدد كالتالي: "الطاقة الروحية الدينية المعتدلة، والفكر العلمي، والإشباع الفني الوجداني"، هم الكبسولة التي يجب أن يتجرّعها المواطن العربي لتقليص الفكر المتطرف والقضاء على الإرهاب، وذلك كما يوصي الناقد الدكتور صلاح فضل (مصر)، في حديثه ل "الرياض"، مشيرًا إلى أن الثقافة معمل بالغ الأهمية، والمجتمعات التي تأخذ حقها من الفكر العلمي والتشبع الجمالي، معظمها مجتمعات محصنة من الاختراقات الفكرية الظلامية, ويؤمن "فضل" أن العقل العربي بحاجة إلى توازن معرفي ووجداني من عدة جوانب، الأول يتمثل في برامج التعليم العربية، مؤكدًا أنها بحاجة إلى أن تأخذ في اعتبارها المقومات الحقيقية للفكر العلمي الحديث، وأن تربي كل المعاهد والمدارس الشباب على التفكير العلمي المنظم، وتقدم لهم الجوانب الدينية والروحية في مستواها الرفيع العالي المتصل بالعقيدة, فالتوازن الوجداني للإنسان العربي لن يتم إلا بدعم تنمية وتشجيع الجرعة الثقافة العامة، والبعد عن مخاطر الوقوع في براثن التطرف والإرهاب. محاكمة الواقع صحيح أن الآداب تهذب الإنسان وتمنحه تذوق الجمال، لكن الروائي يوسف المحيميد (السعودية)، لا يرى أن الإبداع وحده يكفي لمواجهة التطرف والإرهاب، والفنون بأشكالها المجردة قد تساعد لكنها لا تكفي أيضًا، هي منظومة شاملة تستطيع تغيير الإنسان، فمع أن الأدب أحد عناصر هذه المنظومة إلا أن تناوله المباشر لقضايا التطرف قد يفسده، لأن تناولها بشكل غير مباشر هو أكثر تأثيرًا، وفِي الوقت نفسه نلاحظ أحيانًا أن قراءة الأدب الذي يتناول الإنسان في انكساراته وقوته، في هزائمه وانتصاراته، قد يمنح القارئ راحة ووعيا وعمقا، ويضفي عليه مخيلة خصبة وحالة صفاء وتأمل، وجرعة من التعدد والتنوع في مقابل التعصب والتطرّف. فعلى مستوى المشهد الخليجي، تحديدًا السعودي - كما يضيف "المحيميد" - ظهرت تحولات كثيرة، ذات تأثير على الجيل الجديد في رؤيته، بدأت منذ الألفية الجديدة، وتشكلت مع شبكة الانترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي التي منحت حرية الحوار والنقاش، وكذلك ازدهار التأليف والنشر في مجالات الأدب، بالذات في الرواية التي خلقت جمهورها من الشباب، ومن الجنسين، فكانت إحدى أدوات محاكمة الواقع، وكشف قسوته في فرض رؤية واحدة تجاه الإنسان والحياة والعالم، كل هذه العوامل جاءت مدعومة في ازدهار التعليم الجامعي في المملكة، وبرنامج الملك عبدالله للابتعاث، الذي منح الفرصة لمئات الآلاف من الشابات, والشباب السعوديين للتعلم في الخارج، واكتشاف حيوات جديدة، وعالما مختلفا، هذه الأوضاع مجتمعة - في نظره - كونت منظومة متكاملة استطاعت مساءلة السائد والمألوف في حياة راكدة، بل واستطاعت تغييره تدريجيا، فأصبح هذا الجيل الشاب المثقف يعرف الأدب جيدًا، ويفهم في الفنون البصرية والأدائية، بل ويسهم فيه كتابةً وتأليفاً وأداءً وإنجازًا. وباعتبار أن الإرهاب والإقصاء والتكفير هي أفكار متطرفة، ومجابهتها أو تفكيكها لن يتحقق إلا بالفكر المضاد، أي الفكر المتسامح، والفكر الحر المتعدد الذي انفتحت عليه الأجيال الشابة من خلال العلم والمعرفة، إضافة إلى الأدب، خاصة الفنون السردية، وهو ما تحقق في المملكة منذ مطلع الألفية الجديدة وحتى الآن. قوات ثقافية انطلاقًا من ختام "المحيميد" ل"الرياض"، يدعو الدكتور عبد الرحيم العلام، رئيس اتحاد كتاب المغرب، إلى تأسيس جبهات ثقافية عربية لمواجهة التطرف والإرهاب، وإشاعة ثقافة التسامح والاختلاف والتنوع, فالبرغم من إجراءات "مكافحة الإرهاب" التي اتخذت على نطاق واسع، بهدف صون أمن الدول ومواطنيها، فقد أقدمت الجماعات الإرهابية المحلية والعابرة للقارات، يغذيها التطرف، على ارتكاب أعمال عنف فظيعة، إذ لم يعد هناك مكان ولا شخص في منأى عن التهديدات والضربات الإرهابية العمياء التي لا منطق ولا مبرر ولا دين ولا عرق لها, وإذا كان من واجب الحكومات أن تحمي أمنها القومي، وتمنع وقوع مثل هذه الفظائع وتعاقب مرتكبيها، فإن المقاربة الأمنية وحدها لا تكفي، فالأمر يستدعي اعتماد مقاربة إنسانية شاملة وردا ثقافيا قويا, إننا نحتاج إلى محاربة التطرف وتداعياته ليس بقوات أمنية فقط، ولكن بقوات ثقافية، وبمعنى آخر، فإن المثقفين مطالبون بالوقوف في خط المواجهة الأول ضد التطرف والإرهاب، فالمعركة على الجبهة الثقافية هي المعركة الحاسمة في الحرب ضد البربرية، ومن أجل تحقيق التعدد والاختلاف والحرية, ولأن الإرهابيين يكرهون هذه القيم فهم يكرهون الثقافة والفكر والإبداع والرأي الآخر، فلا أمن إلا ثقافيا، ولا حصانة لمجتمع ما من هذه الآفة المدمرة إلا حين تبنى قيمه الثقافية على التسامح واحترام الآخر وتقبل وجوده، وتدبير العيش المشترك، في احترام تام لحرية الأفراد وسلوكياتهم, من هنا مسؤولية المثقف الجسيمة في مناهضة الإرهاب وكشف منابعه وتجفيفها، بالعمل الثقافي، في البيت والمدرسة والفضاء العام، وعبر اللغة ووسائل الإعلام والمنابر الدينية المتنورة. ويرى "العلام" أن المثقف والكاتب بالكلمة، ذات التأثير العميق، قادران على إحداث التغيير، وبالقدرة على التشخيص والنقد، والجرأة الفكرية إنارة العتمة التي ينمو بداخلها التطرف والإقصاء والتمييز، والتي تقود في النهاية إلى الإرهاب, ولذا فإن للمثقف مسؤولية ينبغي أن يضطلع بها ويؤديها، وله شهادة ينبغي أن يجهر بها، فالتاريخ لا يغفر أبدا صمت المثقفين "إنهم لن يقولوا كانت الأزمنة رديئة بل سيقولون: لماذا صمت الشعراء ؟"، هكذا تحدث بريخت. وفي هذه اللحظة التاريخية الفارقة، التي تنهار فيها دول أمام أعيننا، ندعو كافة المثقفين والكتاب والمبدعين المتنورين، وكل القوى الحية والهيئات والمنظمات والمؤسسات والجمعيات المدنية بالعالم العربي، إلى مزيد من التكتل والتعبئة والمواجهة، والتعجيل بتشكيل ائتلاف ثقافي في بلدانهم، لمواجهة التطرّف والتصدي له، ولن يتحقق دحر الارهاب إلا من خلال التزام مشترك قائم على القيم المشتركة، إن ما بأيدي المثقفين من قوة رمزية ومعنوية مؤثرة ومضيئة، لمن شأنها أن تغير وجه حياة الإنسان في المستقبل، كما غيرته في الماضي. وسيظل هذا الأمل مع فرسان الكلمة، قويا ومفعما بالحياة. القيم الإسلامية ويُعوّل الروائي محمد حيّاوي (العراق)، على دور الثقافة القوي في مواجهة الإرهاب، معتبرًا أن أهم المرتكزات الإنسانية التي يرتكز عليها الأدب والثقافة إجمالاً هو الانتصار لقيم التسامح تلك ونشرها ومحاولة تحصين الأجيال الجديدة ضد تسلل الأفكار الظلامية التي يحاول المتطرفون نشرها في أوساطهم. كما أن اشتغال أغلب المثقفين في وسائل الإعلام المختلفة وامتلاكهم لناصية التقنيات الجديدة، يتيح لهم فرصة التصدي ونشر قيم التسامح وفضح الأفكار المنحرفة وإشاعة ثقافة القبول بالآخر واختلاف الرأي والانشغال ببناء الأوطان وتوضيح السبل للسياسيين من أصحاب القرار على هذا الصعيد, ويتصوّر "حيّاوي" أن من أهم سبل التصدي لتلك الموجة هو العناية بالمناهج الدراسية وتفعيل دور "أمانة التربية والعلوم" التابعة لجامعة الدول العربية في مراقبة تلك المناهج واقتراح الأساليب الكفيلة بتطويرها وتدعيمها وتحصينها ضد لوثة التطرف بما يجعلها قادرة فعلياً على توصيل قيمنا الإسلامية الحميدة للأجيال الجديدة, وبالنسبة لدور المثقف يأتي من خلال المؤسسات الثقافية في العالم العربي التي يتوجب عليها النهوض بمهمة فضح الأساليب المنحرفة واعتماد مفهوم النقاش والاقناع بما يشذب النفوس الطرية وينمي نزعة الخير والقناعة وحب الأوطان، سواء كان ذلك بواسطة المنتج الثقافي، أو بواسطة التوعية المباشرة للجمهور. الصفر إرهاب كون سلطنة عمان منذ عدة سنوات تُسجل نسبة 0% في مؤشر الإرهاب العالمي، وهو سجل مشرف ومبعث فخر لنا كعرب وكعمانيين، حتى بات الجميع يرى أن الحالة العمانية تستوجب الدراسة كتجربة مثالية ليس في مكافحة الإرهاب، وإنما في درجة "الصفر" إرهاب التي تحققها عالميا, كان هذا حديث الشاعر حسن المطروشي (عمان) ل "الرياض" حيث يرى أن ثمة أسبابا عدة وراء ابتعاد الفرد العماني ونأيه بنفسه عن الإرهاب وممارساته داخليا وخارجيا. وهذه الأسباب تاريخية حضارية وتعليمية وقانونية. فعلى المستوى الحضاري التاريخي فإن عمان بلد مسالم وقد نأى بنفسه عن الحروب والصراعات طوال تاريخه, وهذا بدوره انعكس على الثقافة العمانية وأسهم في تكوين الوعي العماني، باعتبار السلام والتعايش مبدأ تاريخيا وخيارا حضاريا تبناه الأسلاف وتوارثته الأجيال, فيما يرجع السبب الثاني إلى التعليم، فقد سعت الدولة الحديثة إلى استثمار هذه القيم الأصيلة في الثقافة العمانية التي انعكست على العادات والتقاليد الاجتماعية وكذلك الممارسات الدينية وقبول الآخر، فغرست هذه المبادئ في عقول النشء عبر التعليم والتثقيف الديني في كافة منابره سواء المدرسة أو الجامع أو الإعلام بكافة وسائله, وحرصت السلطنة على أن يكون التعليم الديني معتدلا وبعيدا عن الغلو, وعلى المستوى القانوني يتضمن القانون العماني نصوصا تجرم الطائفية والمذهبية، وهناك عقوبات واضحة تنص عليها هذه القوانين لكل من يتعرض للقضايا المذهبية سواء أكان معلما أم خطيبا أم كاتبا أم إعلاميا. وبالتالي ينأى الجميع بنفسه ومجتمعه عن ما يثير الفتن ويخلق الاحتراب بين طوائف المجتمع. احتلال ثقافي وكما تبدو المسألة داخل الحدود الفلسطينية أكثر تعقيدًا، لأن المثقف الفلسطيني يواجه أخطر أنواع الإرهاب، وهو إرهاب دولة الاحتلال، واستهداف الهوية الفلسطينية, هكذا يتتبع الروائي الفلسطيني أسامة العيسة، تحوّلات الثقافة الفلسطينية، موضحًا أنه حدث تراجع ثقافي ما زالت الثقافة الفلسطينية تعاني من تبعاته, غاب عن الأدب الفلسطيني ما يمكن أن نسميه الأدب المقاوم أو الأدب الملتزم، كما عرف عنه سابقا، وحل مكانه نسبيا أدب اقل خطابية, ومن المؤسف ان العديد من الروايات التي أنتجت في السنوات الماضية، قدمت المحتلين وكأنهم شخصيات طبيعية يعيشون على ارض فلسطين ويتحركون وينتجون وكأنهم ورثوها عن آبائهم. أسامة العيسة: إسرائيل.. احتلال «الأرض» و«الثقافة» ويشير "العيسة" إلى أن الإرهاب الاحتلالي الذي يعاني منه الفلسطينيون، بشكل يومي ودائم، هو من الخطورة بحيث انه يهدد ليس فقط الأرض الفلسطينية، التي استولى المحتلون على معظمها، ولكن أيضا الهوية والتراث والثقافة والفلكلور، حيث تتعرض هذه المكونات إلى عملية سطو كبيرة وذكية من قبل أذرع الاحتلال الأكاديمية والثقافية والأثرية والبيئية، وهي عملية من الصعب تقدير خطورتها بالكلمات، ولا يملك الفلسطينيون الإمكانات الكافية لمواجهة هذه الهجمة، والمثقف المنتبه ويحاول المواجهة فانه يبدو كفارس يقاوم وحده، عندما يدافع عن نبتة تُهود، أو حكاية تُحرف، أو اسم غزال يتم تغييره، أو لقى أثرية تؤول. متطرفون أميون وبرغم الدور المنجز المهم للثقافة في الوطن العربي، لا يجد الروائي السوداني عبدالعزيز بركة ساكن، أيّة جدوى لطالما أن المثقف العربي يكبّل إبداعه, فيقول "ساكن": "الثقافة لا تحارب الإرهاب في البلاد العربية، لأن الناس لا يقرؤون، بل ينظرون إلى المعرفة كرجس من عمل الشيطان، والأدب فسق متخيلات الأدباء، والكثير من المتطرفين أميون، بمعنى انهم لا يقرؤون سوى ما هو مقرر للقراءة من قبل آخرين لا يقرؤون أيضا، والمتطرفون عُميان، لا يرون ببصيرتهم، وهم ايضا لا يسمعون، آذانهم انتقائية, والثقافة كما يتصوّرها "ساكن" لا شأن لها في كل ذلك ولا تستطيع اختراع تلك الاسوار المنيعة للإرهاب. الأدب للمتعة فقط ويتفق الروائي اللبناني جبور الدويهي، فيما يقوله "ساكن"، حيث انه لا يتفاءل بدور الأدب والثقافة في مكافحة الإرهاب والتطرف، ولا يعتقد أن للأدب أيّة وظيفة إصلاحية للنفوس أو للمجتمعات، ولا بد أن يكون للأدب دور ما في إنضاج المشاعر والمخيّلة لدى القارئ وهذا فعل مستدام كما يقال التنمية المستدامة ويصعب إن لم يستحيل تبيّن هذا التأثير بشكل ملموس على المتلقين، ويختم حديثه ل"الرياض": "أكتب رواياتي للمتعة أولاً، متعتي ومتعة من أحبّهم، ولأعبّر عن إحساسي بالعالم محاولاً تجسيد شخصيات وأمكنة تراود خيالي ومشاعري, ولا يخطر في بالي مرة تقديم نموذج يحتذى به من الأفعال او الشخصيات". صلاح فضل: العقل العربي بحاجة إلى توازن عبدالرحيم العلام: لماذا صمت الشعراء؟! محمد حياوي: حبوا أوطانكم حسن المطروشي:هذه وصفة 0% إرهاب جبور الدويهي: الكتابة للمتعة فقط عبدالعزيز ساكن: الإرهابي لا يقرأ