«كتب إسحاق بن بهلول كتاباً، وجاء به إلى الإمام أحمد بن حنبل يقول له: هذا كتاب سميته كتاب الاختلاف، فقال له أحمد: بل سمه كتاب السعة (انظر الفصل الثالث)». أثناء إعداد كتابي هذا ترددت على المدونة الفقهية الإسلامية كثيراً، واستعدت علاقتي معها وتواصلي مع صفحاتها، وكم أدهشني ما كان يتكشف لي من تنوع هائل في الفكر والرأي، وما فتحت صفحة من صفحات هذه المدونة العظيمة إلا وتعزز عندي مقدار الحس بأن الفقه هو ثقافة في الرأي وفي الاختلاف أو في السعة، كما قال الإمام ابن حنبل، هي مدونة فكرية تقوم على الرأي وتتسع به وتؤسس له، وهذا ما قاله الإمام أبو حنيفة: كلامنا هذا رأي (الفصل الثاني)، وبما أنه رأي فهو معرفة بشرية يختلف فيها المختلفون حتى يصل الاختلاف إلى ما نسبته 99 في المئة – كما نص على ذلك الشيخ القرضاوي (الفصل الثالث) - وفي ذلك سعة من جهة بقدر ما فيه من إغراء بحثي عريض ومتعدد لا يقف عند جيل ولا عند أشخاص بأعيانهم. نقول هذا وسط صورة ثقافية عامة ترى أن الفقه الإسلامي متحجر ومتشدد وانغلاقي، ويقوم على الرأي الواحد ويسد الذرائع ويغلق باب الاجتهاد ويخاف من الاختلاف، ويقنن الفتوى ويحصرها بكبار وليس لسواهم القول ولا التفكر، ومن هو خارجهم فهم العوام والصغار، حتى قال البعض بوجوب الحجر على من يسمح لنفسه بدخول كتاب الفقه، حتى لكأنه ليس كتاب السعة، وإنما هو كتاب الضيق وكتاب الرأي الواحد المفترض. هذه صورة ساعدت عوامل كثيرة في رسمها وتكريسها، وهي صورة مشوهة لحقيقة كتاب الفقه، وكل من دخل إلى هذا الكتاب الكبير والعميق سيرى غير ذلك، وسيرى أن ابن القيم وضع خمسة متغيرات كبرى تتغير بها الآراء الفقهية هي: تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد (الفصل الثالث)، ومعها تتغير الفتوى، أي أن الأصل في الفتوى هو التغير وليس الثبات، لأنه هذه الخمسة كلها متغيرات مستمرة ولا تقر قط، ما يعني أن الفكر الفقهي خطاب ثقافي متصل بالحياة، بما إن الحياة والفقه معاً هما متغيران باستمرار. ويزيد من ذلك ما قاله الشاطبي عن شرط الاجتهاد للعامي وليس للعالم فحسب، والعامي في الفقه هو كل من ليس بعالم دين، ولكنه يريد أن يتفقه في أمر دينه، وهذا العامي إذا استفتى في أمر دينه، فإنه سيسمع آراء متعددة في المسألة المستفتى فيها، وهنا لا يجوز له التقليد بأخذ أي واحد من هذه الآراء كما لا يجوز له أخذ الأسهل، وليس له أن يشدد على نفسه بأخذ الأحوط، ولكن الواجب عليه هنا أن يأخذ آراء الفقهاء المتعددة ويقيمها في نفسه مقام الأدلة ثم يأخذ بالترجيح في ما بينها، وهنا تكون آراء العلماء بالنسبة للعامي مثل الأدلة بالنسبة للعالم، بحسب قول الشاطبي (الفصل الرابع). ينفتح باب الاجتهاد على كل وجوهه، مثلما تأتي مقولة (فتح الذرائع) كمقابل المقولة (سد الذرائع) (الفصل الخامس)، وهي تجري مع نظرية الاختلاف والاجتهاد ومتغيرات الحياة، انطلاقاً من ابن القيم وامتداداً مع الفقيه الفضائي. أتى الفقيه الفضائي مع ظهور ثقافة الصورة عبر شاشاتها الثلاث: التلفزيون والإنترنت والجوال، وهي كلها صيغ تواصلية حديثة فتحت الكون البشري ذهنياً وحسياً، وكان لا بد للمدونة الفقهية أن تتفتح متحولة من الكتاب الصامت ومن المنبر المحلي إلى الفضاء المطلق، واستجاب لهذا التحول عدد من الفقهاء، حرصت في هذه الدراسة على تتبع خطابهم، وكشف خصائصه في فصول سبعة تبدأ من وقفة على خصائص مصطلح الفقيه الفضائي وفقه الصورة، ثم تطرح سؤالاً حول طبيعة الخطاب الفقهي، وهل هو رأي الدين أم هو رأي (في) الدين، ثم قضايا الاجتهاد والاختلاف، حتى بشرط اجتهاد العامي، ويقابل ذلك أسئلة عن ثقافة التحصين وحجب الفتوى وتقنينها، وهنا تأتي الحاجة للوسطية كما يطرحها الفقهاء، وهي موضع نقاش في فصل كامل يخصها (الخامس)، وفي الختام فصلان عن الاختلاف السالب وعن الاختلاف الساخن مما هي قضايا يومية تواجه ثقافتنا بقوة وتحد كبير. يقول الإمام الشاطبي بوجوب الاجتهاد على العامي مثلما هو واجب على الفقيه العالم، وذلك لأن آراء الفقهاء بالنسبة إلى العوام هي مثل الأدلة بالنسبة إلى الفقيه، وإذا علمنا أن درجة الاختلاف في الفقه تبلغ 99 في المئة – كما يحدد القرضاوي – فإن باب الاختلاف العريض مع باب الاجتهاد المفروض على الكل يجعل الثقافة الفقهية نشاطاًًًًًًًًًًًً معرفياً حيوياً وتفاعلياً، حتى لا يبقى مجال للخوف ولا لسد الذرائع، وسيكون فتح الذرائع لا سدها مبدأ جوهرياً في مشروع الفقيه الفضائي – كما طرحه سلمان العودة - وهذه قضايا جوهرية في المبحث الفقهي العصري لا تحصر الفقه في تصورات بدائية مثل طلب التسهيل أو فرض الأحوط أو تقليد الموثوق به، وإنما تجعل الفقه خطاباً ثقافياً ومعرفياً اجتهادياً واختلافياً ووسائلياً، وهذا معنى تؤسس له تصورات وسلوكيات الفقيه الفضائي، وهو ما تدور عليه فصول هذا الكتاب، اذ سنرى أن المدونة الفقهية هي مدونة في الرأي والاختلاف والتغيير بحسب تغير الأزمة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، وهذا ما قال به ابن القيم، وبه تتأكد ظرفية وثقافية الخطاب الفقهي، ويكون الاجتهاد شرطاً معرفياً على الكل، العامي مثل الفقيه، والمبدأ في السلوك هو مبدأ الترجيح بحسب مناط الحكم، وسنشهد كيف تتحول ثقافة الفتوى من زمن الفقيه الأرضي إلى زمن الفقيه الفضائي في عصر ثقافة الصورة وثقافة الوسائل.