ما من شك في أنّ الشرارة الأولى للثورة التونسية انطلقت من مدينة سيدي بوزيد في وسط البلاد، بعدما أقدم الشاب محمد البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجاً على أوضاعه المعيشية والاجتماعية. ولكنّ المراحل المهمة من ثورة شباب تونس أججتها صفحات موقع «فايسبوك»، الذي يتصفّحه أكثر من مليون ونصف مليون تونسي يوميّاً. قبل أكثر من عام، بدأت مقاطع الفيديو التي تدعو بشكل علني إلى الإصلاح ومقاومة الفساد المستشري في البلاد، في الظهور على الإنترنت. وبرز عديد من الأسماء، خصوصاً من المعارضين المقيمين خارج تونس على اختلاف خلفياتهم الفكرية والسياسية. ولعلّ من أبرز هؤلاء طارق مكّي المقيم في كندا، الذي دأب على توزيع أشرطة فيديو تصوّر الواقع السياسي والاجتماعي التونسي. وتضمّنت بعض الأشرطة نقداً مباشراً للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وكثيراً ما حملت أشرطة النقد كمية من التهكّم والسخرية من بن علي، مع المطالبة الصريحة برحيله، وإفساح المجال للحريات والديموقراطية. وتجمّع حول مكي عدد كبير من الشباب. وعلى رغم أن بعض المراقبين اعتبروا خطاب مكي ساذجاً وسطحيّاً، لكنه حرص على تأكيد أنه عكس ذلك تماماً، وأنّه ينطق بصوت الشعب ويتكلم بلسانه. فايسبوك أعاد تشكيل الحكومة في الأسابيع القليلة التي سبقت ثورة 14 كانون الثاني (يناير)، تكثّفت نشاطات بعض المجموعات الإلكترونية على الإنترنت. ومثلاً، اشتغلت مجموعة «يزي فك من بن علي» (أي «كفاية من بن علي») على رفض استمرار بن علي في رئاسة البلاد، مع بعض الانتقاد لسياسته. وفي مثال آخر، استخدمت مجموعة «خوذ زريقتك وأرقد» (أي «خذ حقنتك ونمْ») سلاح النكات والتعليقات الساخرة التي طاولت الرئيس المخلوع وعائلته. كما حرصت على تجديد جرعات سخرياتها يومياً، مع توزيعها على آلاف الأشخاص عبر فايسبوك. وازدادت المجموعات التي تنتقد الواقع التونسي من جوانبه كافة. وعمد البعض إلى استخدام الإنترنت في نشر مقالات لمعارضين تعيش غالبيتهم خارج تونس، وكذلك الحال بالنسبة للتقارير حول الحريات وحقوق الإنسان في تونس. ولوحظ أن بعض من لم يمتلكوا الجرأة الكافية، لجأوا الى وضع التقارير والأخبار والنكات وأشرطة الفيديو، على صناديق بريدهم في صفحات «فايسبوك»، من دون نشرها في قسم ال «بروفيل» الخاص بهم، وهو القسم الذي يكون متاحاً للقراءة من قِبل جمهور الإنترنت. وقبل إندلاع الثورة، لوحظ تزايد أعداد المتجرئين على إعلان موقفهم من النظام، من دون أن يخشوا بطشه أو قمعه. وواجهت بعض الصفحات الانتقادية مشاكل مثل الحجب والقرصَنَة الإلكترونية. وطاولت يد الحجب كثيراً من المُدوّنات الإلكترونية، مثل مُدوّنة الصحافي زياد الهاني، التي حُجِبَت عشرات المرات لأنها كانت مقلقة للنظام، على ما يبدو. والمعلوم أن هذه المُدوّنة تضمنت تقارير ومواضيع تمسّ عائلتي الرئيس المخلوع وزوجته بشكل مباشر، ما ساهم في ملاحقة الهاني أمنيّاً غير مرة. وحملت تقارير الهاني أرقاماً وحقائق مفزعة عن ثروات المتنفّذين في السلطة. وازدادت وتيرة الاحتجاج على القمع، وتردي وضع الحريات العامة، وضمنها حرية الصحافة. وأصبح التونسيون يتعاملون بشجاعة أكثر وينشرون على صفحاتهم ما كان يدخل في خانة الممنوع والمحرّم. وعلى إثر مصرع محمد البوعزيزي أخذت الاحتجاجات شكلاً آخر. وبدأت أطياف أخرى تظهر بشكل متواتر، خصوصاً الإسلاميين الممثلين أساساً في «حركة النهضة» التي أسسها راشد الغنوشي. واستغل عدد من قادة «النهضة» مواقع الإنترنت، خصوصاً فايسبوك، ليقدموا رؤيتهم وقراءتهم للمرحلة. وأثناء الثورة، أدى موقع فايسبوك دور المُحرّض على تكوين اللجان الشعبية لحماية الناس والممتلكات. وامتلأت صفحاته بدعوات للتجمع في الحارات والشوارع من أجل حماية البلاد من بعض الخارجين عن القانون. ووُضِعَت صور هذه اللجان على «بروفيلات» الشباب، ما ساهم في التفاف أعداد كبيرة حولهم، عملت على صون مصلحة البلد كما سعت لحماية الثورة من الضياع. وتجدر الإشارة إلى أنّ الدعوات لسقوط الحكومة الانتقالية الأولى، وكذلك لإسقاط حزب «التجمّع» (يتبع الرئيس بن علي)، نُشِرت عبر الإنترنت في شكل متواصل، ما أعطى دعماً للاعتصام في ساحة قصر الحكومة في «القصبة». وبقول آخر، ساهم فايسبوك في إعادة تشكيل الحكومة الانتقالية بنسبة تزيد على 70 في المئة. الإنترنت تحافظ على الثورة وتشهد الإنترنت حاضراً تكاثر المجموعات التي تشتغل في الوضع السياسي التونسي. ويسعى كثير منها لحماية الثورة. ويحرض بعضها بعضاً على ضرورة إسقاط الوزير الأول. هناك مجموعة تضرب في عمق «الاتحاد التونسي للشغل» وتحديداً رئيسه عبد السلام جراد الذي يتهمه كثيرون بالفساد، مذكّرين بأنه من أوائل الذين ناشدوا الرئيس السابق للترشح لانتخابات 2014. وثمة مجموعات تؤكد ضرورة رحيل الوزير الأول الموقت، وأخرى تنادي بإصلاحات جذرية في صلب وزارة الداخلية وتطهيرها من القيادات التي كانت تخدم النظام السابق. كما ظهرت مجموعات تعالت أصواتها في دعوة ملحّة للوحدة الوطنية والالتفاف حول الثورة وعدم الانسياق خلف من يريدون إجهاضها وإدخال تونس في حرب أهليّة. وثمّة مجموعات ظهرت على إثر تشكيل لجان التحقيق في دعاوى الفساد والمحسوبية والرشوة، مُذكّرة أيضاً بأن بعض أعضاء تلك اللجان من رؤوس النظام السابق ما يعني أنّ «حاميها حراميها». وطالب كثيرون من المسجلين في «فايسبوك» بإقصاء كل من ثبت تورطه مع النظام السابق. ونشر شباب فايسبوك صوراً وتقارير لكل المتورطين الذين ساهموا في الفساد والرشوة والقمع خلال العقدين الأخيرين، ويدعون إلى تكثيف نشرها على أكبر عدد ممكن من صفحات هذا الموقع. وبمجرد خروج صورة أو تقرير أو خبر أو مقطع فيديو، تتلقّفها صفحات شباب فايسبوك، ما يُحدث تناغماً كبيراً في هذه المساحة من الفضاء الإلكتروني، على رغم عدم وجود هيئات أو مجموعات منظّمة. والحق أن هذه المجموعات الإلكترونية تتحرك طوّعاً بأثر من الاندفاع الذي انبثق من «ثورة الياسمين» لشباب تونس وأحرارها.