«ثورة الياسمين» عنوان شاعري اخترعته الفضائيات لتطلقه على أحداث دراماتيكية شهدتها تونس. تلك الأحداث التي فاجأت العالم الديموقراطي المتمدن، قبل العالم الثالث، وفوجئت تلك الفضائيات، بدورها، إزاء هذه الثورة التي اتخذت مسارات طارئة لم يكن يتوقعها أحد. فحتى أعتى المنجمين الذين ينشطون عادة في الفترة الفاصلة بين سنة قديمة وأخرى جديدة، لم يكن ليتوقعوا ما كان ينتظر تونس قبل أيام قليلة من وقوعه. خلال الأيام القليلة الماضية، لم يغب الشريط الأحمر الموسوم بكلمة «عاجل» عن شاشة الفضائيات الإخبارية، فهي بالكاد استطاعت أن تلاحق الأخبار والتطورات السريعة، والمفاجئة القادمة من تونس العاصمة وصفاقس ونابل وسيدي بوزيد وسواها من المدن التونسية التي استطاعت أن تربك أداء الفضائيات ومراسليها، وأن تختبر الإمكانيات الهائلة للتلفزة التي عجزت، على رغم جهودها الجبارة، عن تقديم صورة واضحة لحدث استثنائي بكل المقاييس. الاتصالات الهاتفية لم تهدأ، والتحليلات السياسية أفاضت في تأويل المشهد السياسي، وصيحات التونسيين في الشوارع والساحات أرغمت القاصي والداني على الإصغاء الى صوت هذا التحول السياسي التاريخي. وللمرة الأولى، ربما، بدت شاشة التلفزة الشغوفة، عادة، بالإسهاب في توضيح ملابسات خبر ما والاستفاضة فيه، بدت أضيق من أن تتسع لما جرى في تونس. فمجريات الأحداث، هذه المرة، كانت أسرع بكثير من إيقاع التلفزيون، فمع كل دقيقة هناك جديد، وفي الوقت الذي لم يكد التلفزيون ينتهي من خبر عاجل، حتى يرده خبر عاجل آخر، وربما لهذا لجأ بعض الفضائيات الى استخدام عبارة «عاجل جداً»! وعلى رغم الارتباك التلفزيوني، ولجوء الفضائيات، أحياناً، الى إيراد مقاطع فيديو صورها هواة غير محترفين، حصلت عليها من بعض مواقع الانترنت، والانقطاعات المتكررة في الاتصالات الهاتفية، واضطرار مقدم البرنامج الى إنهاء حديث هذا المحلل السياسي أو ذاك للتحول الى خبر أكثر طزاجة، وتضارب الأنباء حول واقعة بعينها الى أن تنجلي الأمور... على رغم هذا لم يستطع كذلك أن يسلب التلفزيون قدرته على رسم بانوراما وافية لما يجري على أرض تونس، بل يمكن القول أن هذا البث الفضائي المكثف لعب دوراً كبيراً في تعريف العالم بدوافع وطبيعة الاحتجاجات التي شهدتها المدن التونسية، واستطاع أن يصوغ رأياً عاماً عالمياً مؤيداً لرغبة الشعب التونسي في التغيير. الفضائيات لا تصنع الحدث، لكنها تساهم، على هذا النحو أو ذاك، في تأجيجه وتوجيه مساره، ومن هنا يمكن القول أنه لولا وجود هذه الفضائيات لربما قمعت «ثورة الياسمين» في المهد بعيداً من أنظار العالم، لكن الفضائيات ومنذ نحو عقد من الزمان تكشف وتفضح وتسرب الحقائق عبر الشاشات، الى درجة أن كل صاحب قرار صار متخوفاً من أن ثمة كاميرا تترصد ممارساته عند كل منعطف!