هل كان هدف الثورة التونسية إزاحة النظام السياسي كله أم رأس النظام السياسي فقط؟ هل يثق التونسيون بجسد النظام بعدما فُصِل عنه رأسه؟ هل يرضى التونسيون بعد الثورة بأن يتولى جسد النظام هذا إعادة ترتيب الأوضاع وبناء الدولة التونسية وفقاً لأسس ومعايير تخالف بالطبع ما كان يسير عليه النظام طوال 23 عاماً؟ هل يقبل المستفيدون من نظام زين العابدين بن علي بأن تضيع المزايا التي نالوها طوال فترة الرأس؟ هل من قاموا بأعمال النهب والسلب عقب سقوط رأس النظام هم بعض أطراف النظام نفسه ممن سعوا إلى الإساءة إلى الثورة وتشويه صورة الثوار أم بعض اللصوص و»البلطجية الموجودين في كل مجتمع ويزدهرون حين تنفلت الأوضاع الأمنية؟ ما هو مصير الطبقة التي نشأت و»ترعرعت» وأثرت وازدهرت في حضن النظام الذي فُصل عنه رأسه في المرحلة المقبلة؟ إنها أسئلة منطقية تتداولها وسائل الإعلام ونشرات وبرامج التلفزيون منذ الحدث الذي غيّر تونس وأذهل العالم. بالطبع لا إجابة واحدة عن كل سؤال منها بل تتعدد الإجابات بحسب الزاوية التي يتحدث منها هؤلاء الذين يتولون الإجابة. لكن هناك ملاحظة لا يمكن إغفالها تتعلق بردود فعل جسد النظام على سقوط الرأس. في الشكل: وقع خطأ دستوري سعى أعضاء الجسد إلى تلافيه في اليوم التالي وانتهوا إلى تسليم قيادة الدولة إلى رئيس البرلمان وتكليف الوزير الأول تشكيل حكومة وحدة وطنية على أن تجرى الانتخابات الرئاسية في غضون ستين يوماً. بالطبع فإن القادة الجدد القدامى كانوا ينفذون مواد دستور صُنع خصيصاً للإبقاء على رأس النظام إلى الأبد. لكن الأهم أنهم جميعاً لم يصدر عن أي منهم تصريح واحد يشيد بالثورة أو الثوار، لسبب بسيط أن الثورة أصلاً كانت ضد الرأس والجسد في آن، أي ضد النظام كله. سمع الناس أحاديث محمد الغنوشي عبر الفضائيات فكان يتكلم عن المستقبل، ويتفادى الكلام عن الحاضر، ويرفض الخوض في الماضي. وجدوه دائماً يستخدم لهجة تقوم على مناشدة الشعب التونسي الانضباط والحفاظ على مكتسباته والتعاون مع أجهزة الدولة التي هي أجهزة النظام السابق نفسه وعبور المرحلة الحاسمة، ومزج الغنوشي كلامه دائماً بأحلام وردية عن المستقبل والحرية التي سينعم بها التونسيون والرخاء الذي سيتحقق. لكن الرجل لم يتناول أبداً أخطاء النظام الذي سقط رأسه، لأنه كان أحد رموز النظام، ولم يقترب أبداً من خطايا الجسد. قد يكون هذا مفهوماً إذ يصعب عليه أن يفعل كما فعل الزعيم الليبي معمر القذافي الذي أبدى حزنه على ما جرى في تونس! وأشاد بزين العابدين بن علي، وأعرب عن أسفه لسقوطه ورحيله. وأيضاً من الصعب أن يقترب الغنوشي من الحديث عن مثالب وأخطاء وجرائم رأس النظام لأن الناس يعرفون أنه كان قريباً من الرأس وينفذ ما يقرره من أفكار وتوجهات ويساهم بالطبع في تحديد المعلومات والرؤى والانطباعات المسموح بمرورها إلى الرأس. هكذا حُرم التونسيون من الاحتفاء بثورتهم العظيمة ولم يخرجوا في الشوارع لمباركة العهد الجديد. وكذلك لم تستخدم وسائل الإعلام أو النخب السياسية عبارة «العهد البائد» عند الإشارة إلى نظام بن علي، لأن ذلك العهد لم يُبَد فيه إلا رأسه بينما باقي الجسد يلمم جراحه، ويسعى إلى حجز أماكن له في النظام الجديد. أما الإجراءات التي طالت بعض مسؤولي الأمن الرئاسي والحزب الحاكم وأسرة بن علي وزوجته فكلها تدخل ضمن محاولات تبييض «الجسد»، فكل هؤلاء الذين طالتهم الإجراءات كانوا قبل يوم الجمعة الماضي شرايين الجسد وأوردته وخلاياه. في كل الأحوال تبقى الثقة في الشعب التونسي كبيرة مهما كانت التحديات أو التداعيات ومهما كثرت التساؤلات. فالشعب الذي تعرض لسنوات طويلة لحصار أمني، وحجب بينه وبين حريته استخدم الإنترنت و»الفيس بوك» و»تويتر» ليجهز ثورته، بينما شعوب أخرى تعاني ربما أكثر مما عاناه التونسيون، ولديها الحرية في استخدام الإنترنت وتجلس ساعات يومياً أمام «فيس بوك» و»تويتر» لأمور تتعلق بملاحقة أخبار ثورات الآخرين .. أو لممارسة الدردشة.