ما بين صفائح الحديد الرقيقة، ورقاقات الأبلاكاش المنحوتة بدقة، وقطع رخام الألاباستر، وألواح النحاس الأحمر والأصفر المختلفة الأحجام، وقماش الخيامية برسومه الزخرفية وموتيفاته الإسلامية ونجومه الثماني، يطل الفانوس المصري بشموخ في حرفة أصر ّروادها ومن تلاهم من صناع مهرة على يدويتها، رافضين التكنولوجيا بتفاصيلها المغيبة للإبداع وتأثيراتها المعادية للهوية الفنية والثقافية. ظل الفانوس فعلاً تراثياً مصرياً وصناعة يدوية بامتياز، ما يفوق ألف سنة، فقبل حلول شهر رمضان بفترة طويلة تبدأ الورش في أنحاء مصر الاستعداد لصناعة الفانوس على مراحل حتى يخرج بالصورة المعروفة في مصر وخارج مصر، حيث تتلون تلك الصنعة بثقافات المجتمعات الإسلامية والعربية وحتى الغربية التي تستورد الفانوس. في منطقة غربال بمحرم بك في الإسكندرية، عدد من الورش المتجاورة المزدحمة بالفوانيس وأدوات صناعتها وخاماتها، يطل من إحداها العم مجدي بخبرته الممتدة أكثر من خمسين عاماً في صناعة الفوانيس. يرى مجدي أن الفانوس ليس مجرد صنعة فهو مهارة وشطارة وإبداع وذوق. ويقول: «على عكس ما يوحي به الفانوس في صورته النهائية ذات التفاصيل الفنية الدقيقة والزخارف الإسلامية المتقنة، أنه نتاج مصانع ضخمة ومتخصصين في تاريخ الفن الإسلامي، هو نتاج صناعة يدوية تماماً إلا في فورم القطع». ويوضح: «الفانوس التقليدي من النحاس أو صفائح الحديد، يتكون من ثلاثة أجزاء (القبة والصندوق والكعب)، وتبدأ مراحل الصنع بقص الصفيح بعد وضع آلة لها شكل هندسي تقصه لتخرج وفقاً للشكل الذي تم القص عليه، ثم يتم تخريمه وعمل الزخارف من خلال المكبس، ثم يتم عمل مجرى أو كوردون وتجمع قطع الفانوس في النهاية من خلال أداوت اللحام، ثم تأتي عملية تركيب الزجاج والذي يتم قطعه وزخرفته وتلوينه، وبالنهاية مرحلة الإضاءة حيث نرسله لورشة الكهربائي لوضع إضاءات عادية أو ملونة، يعتقد كثيرون أننا نبدأ في عملنا قبل رمضان بشهرين ولكننا نبدأ في عملنا بعد العيد الكبير مباشرة، فالفانوس الواحد يستغرق من ثلاثة أيام إلى أسبوعين بحسب حجمه وزخارفه». وعن أنواع الفانوس التقليدي يقول: «العفريت نسبة إلى عفريت إسماعيل ياسين، وتاج الملك والشمامة وتصميمه يشبه شكل التاج، والفانوس مخمس الأضلاع، وهناك البرج، وفانوس طبلة العالمة وزهرة اللوتس»، لافتاً إلى أن سعر الفانوس يبدأ من 15 جنيهاً حتى 1500 جنيه بحسب الحجم». صناع الفانوس يرفضون رقمنته وعن دقة الصنعة يؤكد العم مجدي ل «الحياة» أن العامل المصري عُرف بدقته ومهارته وصبره، «ونحن نرفض دخول التكنولوجيا في هذه الصنعة التراثية المرتبطة بالهوية الثقافية والقنية، لا نريد رقمنة الفانوس حتى يظهر كالفانوس الصيني بلا روح ولا طعم ولا هوية ولا قيمة فما هو إلا لعبة كارتونية». ويشير إلى أن «مصر كلها ليس فيها مصنع فوانيس بلاستيكي واحد»، فعقب سنوات من الركود واجتياح الفانوس الصيني، «عاد رواج الصنعة على رغم ارتفاع الأسعار، كما أن صناعته لم تغط السوق المصرية فقط بل نصدر الفوانيس المصرية إلى الدول العربية، وبخاصة الخليج ودول المغرب العربي. كما نصدر إلى إيطاليا واليونان وإندونيسيا ودول أخرى وفق طلب الجاليات الإسلامية». يرى الباحث في التراث الإسلامي في جامعة دمنهور الدكتور ناجي عباس أن «الفانوس طقس إبداعي مصري بامتياز، ومنذ بداية ظهوره في الدولة الفاطمية لم تنتقل الصنعة إلى دولة أخرى وظلت مصر المهيمنة على صناعة الفانوس حتى العصر الحديث». ولفت إلى ظهور أشكال أخرى حديثاً عقب منع استيراد الفانوس الصيني، فقد طوّر الصناع الشباب الفانوس القديم وأدخلوا العديد من الأشكال من الخرز والحديد المطروق والرخام الألباستر، وظهر فانوس الخيامية الذي اجتاح الأسواق بشكل غير مسبوق. وهناك فانوس الأرابيسك الذي يتم تفريغ الخشب فيه باستخدام ماكينة الحفر بالليزر، ثم تطعيمه بالزجاج الملون أو الموزاييك. ويشير عباس إلى أن المنتج الصيني غيّب الهوية الوطنية للمنتج المصري الأصيل، «فالألعاب البلاستيك بشخصياتها الكرتونية لا تعبر عن الشهر الفضيل».