استعاد الجراح اليوناني كريستو جيانو الذي أمضى معظم حياته المهنية في مناطق النزاعات ومنها لبنان ويشغل منصب الجراح الإقليمي للجنة الدولية للصليب الأحمر في الشرق الأوسط، تجربته الفريدة أمام أجيال مختلفة من أطباء المنطقة وأطباء أجانب احتشدوا في «المؤتمر الطبي السنوي للشرق الأوسط في الجامعة الأميركية» في بيروت. جيانو الذي يتقن العربية، وصف لحظة من لحظات «ذروة القصف المدفعي على بيروت أثناء الحرب اللبنانية، ووصول مئة جريح دفعة واحدة إلى المستشفى ومعهم الأهل والفضوليون والصحافة ومسلحون، وكيف يمكن وسط هذا الجو إسعاف المصابين والسيطرة على الوضع وتأمين المعدات والتجهيزات والمواد الطبية». وقال: «انتبهوا في زمن النزاعات لا تفرطوا في استخدام المواد المخصصة للاستعمال لمرة واحدة، هنا العمل مختلف». والحفر في ذاكرة حرب مضت، مرده إلى أن حروب المنطقة لا يبدو أنها ستتوقف قريباً، ما يعني أن الأطباء الممارسين الذين يواجهون جراحة ضحايا الحرب للمرة الأولى مضطرون إلى إعادة برمجة عقليتهم المهنية. وبدا أن بيروت اختارتها الحروب المحيطة بها لهذه المهمة. وكشف رئيس جراحي اللجنة الدولية للصليب الأحمر ماركوس بالدن ل «الحياة» أن لبنان هو «المقصد الأول في المنطقة لمعالجة جرحى النزاعات، إذ يستقبل عراقيين وسوريين ويمنيين يعانون من حالات مزمنة نتيجة حروب بلدانهم»، مشيراً إلى أن «عُمان تستقبل جرحى الحرب في اليمن والحالات الصعبة يتم نقلها إلى بيروت بالاتفاق مع السلطات اللبنانية، شرط عودة المصابين إلى عُمان عند انتهاء العلاج، تجنباً لمزيد من اللاجئين في لبنان». إنه المؤتمر العالمي الأول حول طب النزاعات في الجامعة الأميركية. المداخلات امتدت 3 أيام حول إدارة الإصابات الناجمة عن الصراعات المسلحة والمظاهر المرضية والنفسية والتمريضية. وشارك أطباء لبنانيون ومن سورية والعراق وأفريقيا وأفغانستان ومن أوروبا وأميركا. أحد الأطباء الذين خدموا في أفغانستان أدلى بشهادة مؤثرة عن فقدان الحماية للمستشفيات، خصوصاً أن العديد من الأطباء الحاضرين خبر لحظات فقدان الأمان أثناء العمل على رغم مظلة اتفاقات جنيف. واستعان الطبيب بلقطة لمستشفى يعمل بكل طاقته وفي لقطة ثانية سوته القذائف مع الأرض ولم ينج أحد. وقال الطبيب إن غارة أميركية استهدفته «من طريق الخطأ»، وإن ما حصل يعرف بلغة العسكر بأنه «ضباب الحرب». أطباء سوريون حضروا المؤتمر مستمعين وتجنبوا الإعلام. وعرضت محاضرات المؤتمر خبرات عن تقنيات الجراحة الترميمية وتأهيل مصابي الحرب ومعالجة مصابي الأمراض المعدية والجرثومية التي تزداد في زمن الحرب وطب الطوارئ، والإشارات السريرية للتعذيب. وقال أحد المنظمين الطبيب عبدالرحمن البزري ل «الحياة» إن لبنان «اختبر الحرب الأهلية والعدوان الإسرائيلي المتكرر واكتسب الجسم الطبي الخبرات ولم نترجم الأمر علمياً، وفي ضوء استقبالنا جرحى الحروب المحيطة، تبلورت فكرة تنظيم برنامج عن طب الأزمات مؤلف من أطباء جراحة ترميم وعناية فائقة وأمراض جرثومية وصحة عامة وعلم الإنسانيات بالشراكة مع «أطباء بلا حدود» و «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» وعقدنا مذكرة تفاهم مع مستشفيات في الأردن كونها تستقبل جرحى عراقيين وسوريين ويمنيين أيضاً. ويشمل البرنامج عقد مؤتمرات منها عن تأهيل القطاع الصحي لما بعد الأزمات وإجراء أبحاث عن جراثيم الحروب». وقال بالدن إنه في ضوء الخبرة التي تكونت في لبنان تقرر إنشاء ديبلوم في الجامعة اللبنانية لأطباء من مختلف الدول ولمدة أسبوعين لاكتساب خبرة طبابة الحرب، وأبسطها تنظيف الجروح في غياب المطهرات وأعقدها «فلترة» المرضى لتحديد من يعيش ومن يموت». وأشار إلى أن «المدربين من مختلف أنحاء العالم وهدفنا إعداد كوادر قادرة على تعليم الآخرين». وعما إذا كان يعني ذلك أن الحروب في منطقتنا لن تعرف لها نهاية، اكتفى بالقول: «تخرجون أطباء في لبنان أكثر مما يتخرج في الدول الأوروبية نسبة إلى عدد السكان وأطباؤكم يعرفون 3 لغات وبعضهم يتكلم الروسية. والعالم بحاجة إلى اطباء أمثالهم ولبنان يستطيع توريد أطباء إلى كل العالم».