بيروت – الشرق أعلام الثورة السورية وصور رياض الأسعد فوق أسرّة الجرحى أب يحمل ابنته بعد مقتلها من بابا عمرو إلى لبنان نائب لبناني يدعو الحكومة لتحمل مسؤولياتها تجاه السوريين أطفأت الثورة السورية الشمعة الأولى لميلادها، انقضى عامٌ على انتفاضة الحرية في سوريا، لكن ثوّارها لم ييأسوا بعد، فلا يزال هؤلاء يحاربون باللحم الحي نظاماً يصفونه ب «القاتل»، يتحدثون عن بذل الغالي والنفيس ثمناً لحرية لا يُدقُّ بابها إلّا باليد المضرّجة بالدماءً. لكنهم، في مقابل سنة العزّ هذه، يؤرِّخون ل «سنة ذلٍّ»، لم يسبق لها مثيل، فقد مرّت السنة المنصرمة ثقيلة على اللاجئين والجرحى السوريين في لبنان. أعداد اللاجئين الهاربين من جحيم المعارك بلغت أرقاماً مخيفة، يُحكى عن وجود عشرين ألف لاجئ سوري دخلوا الأراضي اللبنانية منذ بدء الأحداث في بلادهم، ورغم ذلك فإن الحكومة اللبنانية لا تزال تصرّ على اعتبارهم نازحين لغاية في نفس مسؤوليها، تركز على سياسة النأي بالنفس التي يعتمدها أولي الأمر فيها تجاه ما يحصل في سوريا، وهناك الجرحى أيضاً، إذ لا يكاد يمر يوم من دون دخول العشرات منهم إلى لبنان، سواء عبر المعابر الشرعية أو غيرها. يتألم هؤلاء بصمت، يعضّون على الجراح، ويسلّون النفس بنصر يكاد يتحقق، وإن تأخّر قليلاً، ورغم دخول هؤلاء بشكل علني، إلا أن إحصاء أعدادهم بشكل دقيق يكاد يكون مستحيلاً، كون معظمهم من المناهضين للنظام ويخشون التصريح عن أسمائهم. شمال لبنان.. أعلام الثورة فوق أسّرة المرضى هنا شمال لبنان، المستشفيات تعجّ بالجرحى السوريين، يمكن لأي زائر أن يلحظ ذلك من خلال بعض أعلام الثورة السورية التي رفعها هؤلاء فوق أسرّة المرض، ويرفع أحدهم في غرفته صورة لقائد الجيش السوري الحر العقيد رياض الأسعد. الإعلام ممنوع من الدخول إلا ضمن قيود وضوابط مشددة، يخاف القيمون على المستشفى من اختراق يكون عبر انتحال صفة صحفي، فيُمنَع التصوير غالباً. في أروقة المستشفى، يختلط أنين الألم بأصوات جرحى تقصّ نظراتهم الشاردة أحداث ما قاسوا قبل وصولهم إلى لبنان، بينهم ينحشر أطفال أصابهم رصاص القنص أيضاً. هنا صبي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، ممدّدٌ فوق السرير برجل ملفوفة بجبيرة ومرفوعة إلى الأعلى، تجلس بقربه سيدة تلتحف بالأسود، يخبرنا أنها والدته، يحكي الاثنان عن زوجٍ ووالد توفى في طريق القدوم إلى لبنان، حيث كانت إصابته بليغة، نزف كثيراً قبل أن يفارق الحياة على الحدود اللبنانية السورية. في الغرفة المجاورة، يتمدد جريح سوري آخر، يخبرنا أن اسمه أحمد، ويتحدث عن الإصابة التي لحقت به جراء انفجار قذيفة هاون بالقرب منه، تدمع عينا أحمد أثناء روايته للأحداث، حزناً على خسارته قدمه، لحظات تمر فيتبين أن تأثر أحمد لم يكن بسبب قدمه فحسب، فهو يستذكر ما حصل معه في بابا عمرو، يتذكر أفراد عائلته الأربعة الذين قتلوا على أيدي «شبيحة الأسد» عند اقتحام الحي، يضع يديه على عينيه ويغرق في بكاء مرير، يعتذر منا رافضاً المتابعة. رحلة طفلة شهيدة من بابا عمرو إلى لبنان القصص التي يرويها الجرحى تكاد تكون متشابهة، تتكرر الأحداث المنقولة، لكن واحدة منها كانت مختلفة قليلاً، يحكي مهند كيف هرب من القصف حاملاً ابنته سارة بين يديه، يخبرنا عن سارة، وليدته الوحيدة التي رُزق بها من زوجته التي غادرت المنزل قبل ثلاثة أشهر من دون أن تعود، لا يعلم مكانها، كما لا يعرف إذا كانت على قيد الحياة أو أنها قد قُتلت. يمر على زوجته لِماماً ليعود للحديث عن الطفلة سارة التي لم تكن تتجاوز السنتين من عمرها بحسب قوله، ففي واحدة من الليالي الظلماء، اشتد القصف على بابا عمرو، يخبر مهند كيف خرج من منزله مع جيرانه بناء على طلب التنسيقيات الموجودة في الحي، كانوا يتبعون توجيهات مسلّحي الجيش الحر، لكنهم وقعوا في كمين نصبه شبيحة الأسد على حدود المدينة، يذكر كيف انهمر الرصاص عليهم. يومها كانوا يريدون الخروج من بابا عمرو إلى الخالدية ومنها إلى القصير قبل التوجه إلى لبنان، أصيب مهند في كتفه، لكنه تمكن من النجاة بحياته، اختبأ في مدخل أحد الأبنية محتضناً سارة إلى أن خفت صوت الرصاص، عندها اكتشف أن واحدة من الرصاصات قد اخترقت صدغ طفلته مودية بحياتها، لم يصدق أن الروح غادرت جسد طفلته اللعوب، قبّلها كثيراً وهو يمسح الدم عن عينيها، رفض التصديق بأنها توفيت، كما رفض الرضوخ لطلبات جيرانه الذين أصرّوا عليه أن يدفنها، لم يترك مهند ابنته، بقي محتضناً لجسدها طوال الطريق حتى وصلوا إلى لبنان. إصابات الجرحى هنا متفاوتة في الخطورة، منها الطفيف والمتوسط ومنها ما يشكل خطراً على حياة أصحابها، وهنا يذكر طبيب سوري ل «الشرق»، مفضّلاً عدم الكشف عن اسمه، أن «بقاء الجريح طوال أيام من دون علاج يؤدي إلى تفشي الالتهابات في جرحه»، ويلفت إلى أن ذلك قد يضطرهم أحياناً إلى القيام بعملية بتر، مؤكداً أن «عمليات البتر تفرض نفسها للحؤول دون حصول مضاعفات قد تشكل خطراً على حياة المصاب». وفي السياق نفسه، يذكر نشطاء سوريون ل «الشرق» أن الجرحى الذين ينقلون إلى لبنان، يعيشون ظروفاً سيئة تنعدم فيها العناية الطبية، فأحياناً يبقى الجرحى طوال أيام دون إسعافات أولية، ويذكر أحدهم أن معظم الجرحى تلتهب جراحهم نتيجة بقائهم لأيام في البساتين أو انتقالهم عبر شبكات الصرف الصحي للتخفي عن قوات النظام. معاناة مضاعفة بسبب بدلات العلاج معاناة الإصابة وهلع الخوف من الموت المحدق الذي يتهدد حياة هؤلاء الجرحى لا يكفيهم، إذ يتحدث نشطاء سوريون عن سوء معاملة يتعرض لها المصابون على أبواب مستشفيات ترفض استقبالهم إذا لم يوفّر لها بدلات مالية للعلاج الطبي، فيذكر أبو أحمد، الناشط السوري الذي يواكب نقل الجرحى في منطقة حلبا، أنه لا يتم تغير ضمادات الجرحى في بعض المستشفيات الحكومية إلا بعد افتعال أكثر من مشكلة معهم، ويشير إلى أن الطاقم في المستشفى المذكور يترك الجرحى الوافدين لساعات من دون أي رعاية طبية بحجة أن هناك نقصا في مواد الإسعافات الأولية، ويؤكد أبو أحمد أن «هناك مساعدات وأموالا ترسل لإغاثة الجرحى، لكنها تتبخر». في مقابل هذا النوع من المعاملة، هناك مستشفيات تضع كل إمكاناتها في تصرف الجرحى، ونظرا لازدياد أعداد الجرحى السوريين، كانت مستشفى الشفاء في محلة أبي سمراء، والتي تعالج عشرات الجرحى، أعلنت إطلاق حملة مفتوحة للتبرع بالدم تحت عنوان «كونوا عوناً لإخوانكم». ورغم النقص في الرعاية والمساعدات الطبية في لبنان، يستمر توافد الجرحى السوريين إلى مستشفيات الشمال، وانطلاقاً من مقولة «الكحل أحلى من العمى»، تغص مستشفيات طرابلس بمئات الجرحى، الذين ينقلون إليها من حمص عبر طريق البقاع، لا سيما أن مناطق عرسال ومشروعات القاع قد نشطت في الآونة الأخيرة بعد إغلاق الجيش السوري لمعظم المعابر الحدودية الشمالية، وتحديداً في وادي خالد. كما استقبلت المدينة في اليومين الماضيين قرابة 42 جريحاً، دخل منهم 26 إلى مستشفى طرابلس الحكومي، فيما توزع الآخرون على عدة مستشفيات، منها «مستشفى دار الشفاء» التابعة ل «الجماعة الإسلامية»، وبالتزامن مع الجرحى الذين نقلوا عبر البقاع، دخل مساء أمس أربعة جرحى سوريين إلى عكار عبر الحدود الشمالية، فنقلت سيارة تابعة ل «الصليب الأحمر اللبناني» جريحين إلى «مستشفى رحال»، فيما تولى مدنيون نقل الجريحين الآخرين. تجدر الإشارة إلى أنه وفقا لمنسقية اللاجئين السوريين في طرابلس، فإن أعداد الجرحى تجاوز ألف جريح، ويذكر ناشط سوري أن معظم الجرحى تعرضوا للقنص أو أصيبوا جراء القصف بقذائف الدبابات أو قذائف هاون، لافتاً إلى أن الإصابات تحتاج إلى علاج طويل، ويتخوّف أفراد التنسيقيات من ارتفاع أعداد الجرحى أكثر بشكل يكاد يتجاوز طاقتهم على التحمّل.سوريا ولبنان ناران بالنسبة إلى اللاجئين من الجرحى السوريين، لذا فهم ينظرون بخوف شديد إلى مصيرهم ومستقبلهم في ظل انعدام الصورة الواضحة في وطنهم، وعدم وجود مرجعية تتابع قضاياهم اليومية، وكثيرون هم من باتوا على قناعة تامة بأن الآتي من الأيام، لن يكون أفضل مما مضى، ما يدفع ببعضهم إلى التفكير في العودة إلى سوريا. وفي اتصال مع النائب عن منطقة الشمال في لبنان، دعا معين المرعبي عبر»الشرق»، الحكومة اللبنانية ووزارة المال إلى تحمّل مسؤولياتها تجاه الأشقاء السوريين، وطالب ب «الإسراع بدفع ما يتوجب من الأموال اللازمة للهيئة العليا للإغاثة، للقيام بواجباتها في إغاثة النازحين السوريين على الصعيدين الإغاثي والصحي».كما ناشد رئاسة مجلس الوزراء ووزير المالية معالجة الموضوع بأسرع ما يمكن للحد من تداعيات أوضاع النازحين المأساوية على كافة الأصعدة، لاسيما لجهة معالجة الجرحى والمرضى. سوري مصاب يُعالَج في لبنان