بعد أن ساهمت الترجمة العربية لكتاب أحمد داود أوغلو «العمق الاستراتيجي» في إعطاء صورة أوضح عن أفكاره ونظرياته السياسية، يكشف كتاب «الخوجة - أثر أحمد داود أوغلو في السياسة الخارجية» للصحافي التركي الخبير في شؤون الديبلوماسية غوركان زنغين، شخصية وزير الخارجية التركي ونشأته وبمن تأثر وكيف يفكر، كما يكشف الستار عن تفاصيل مهمة في حياته وحكاية دخوله عالم السياسة وعلاقاته برجالها وكيف كان يؤثر في رسم سياسة تركيا في العديد من المواقف والأزمات منذ تعيينه مستشاراً لرئيس الوزراء عام 2002 وحتى تعيينه وزيراً، ويتابع المؤلف التحديات التي واجهتها تركيا خلال السنوات العشر الأخيرة ويكشف دور داود أوغلو في التعامل معها، بالإضافة الى طرح أهم أفكار الرجل والقواعد السياسية التي يتحرك وفقها. «الخوجة» أو الأستاذ، هو اللقب الأقرب الى قلب أوغلو، وهو عنوان الكتاب الذي يعد جولة في حياته وأفكاره وشخصيته، ويجيب على الأسئلة التي تثار حول هذا الرجل الذي غير سياسات تركيا وصورتها أمام العالم. يبدأ الكتاب بالحديث عن حياة داود أوغلو الخاصة، نشأته وتربيته في قرية طاشكنت التركمانية في محافظة قونية وكيف أثرت فيه وفاة والدته صغيراً وحب زوجة أبيه له كأحد أبنائها ودور جدته التي كان يرى العالم من خلال حكاياتها والتي دعت له بأن يكون رجلاً ذا شأن وأن يلهمه الله القدرة على حل مشاكل الناس ومساعدتهم، وكذلك دور والده الذي ورث عنه صلابة الشخصية وحب التحدي والاستقلال عن رأي الآخرين. ويتناول الكتاب بإيجاز فترة دراسته في الجامعة الأميركية في إسطنبول بين رفاق ماركسيين، وكيف دفعه ذلك الى الاطلاع على الفلسفة الإسلامية وتعلم روح الإسلام بنفسه وبجهده الشخصي من خلال قراءة عشرات الكتب عن الإسلام، وعلى رغم نشأته المتدينة المحافظة أراد أن يكون تصوره الشخصي المستقل عن الإسلام وأن يكون مسلماً عن اقتناع لا بالوراثة والهوية والتبعية، ومن خلال اطلاعاته الشخصية تأثر بالإمام الغزالي وبابن رشد معاً بسبب طرحهما الجريء والإصلاحي، وقد أدت دراسته الموسعة للإسلام والحضارة الإسلامية الى اقتناع برفض الحكم الديني أو الثيوقراطي، إذ ينقل الكتاب عنه قوله: «إن القرآن لم يفرض شكلاً معيناً ومفصلاً لأحكام السياسة على المسلمين، القرآن يوفر لنا مبادئ سياسية أساسية يدعونا للالتزام بها وهي العدالة والحق والمساواة والحرية، لكنه لا يفرض على البشر نموذجاً سياسياً معيناً لتطبيق هذه المبادئ، لأن الأنظمة السياسية تتغير بتغير الزمان». الكتاب يسرد بأسلوب مشوق جوانب إنسانية في حياة الرجل الذي عرفه العالم في أروقة الديبلوماسية والحكم، فنقرأ فيه كيف تلقى داود أوغلو نبأ وفاة والده من رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان عام 2004 أثناء اجتماعهما لبحث تعيين موفد خاص لتركيا في شأن العراق. وفي الكتاب صورة أوسع لداود أوغلو الفيلسوف الغارق في حب الحقبة العثمانية، والرافض نظريات صراع الحضارات، إذ يقول – قبل أن يبدأ العمل السياسي - «إن أي قوة تعمل على إقصاء المسلمين الذين يشكلون ربع سكان الأرض والصينيين الذين يشكلون الربع الآخر، فإن هذه القوة ستحبس نفسها في أوروبا وليس أبعد من ذلك، ونهاية العمل بهذه النظرية ستؤدي مستقبلاً الى إقصاء كولن باول نفسه». ويزخر الكتاب بنحو خمسمئة تصريح منقول عن أحمد داود أوغلو في مقالاته وتصريحاته وتعليقاته الرسمية وغير الرسمية، مع تعليقات المقربين منه على مواقفه، في شكل يوفر للقارئ صورة واضحة عن الدور الذي لعبه داود أوغلو في موقف ما والدافع وراء ذلك الموقف. ويكشف الكتاب أن الرئيس السابق سليمان ديميريل كان أول رجال الدولة التركية الذين استعانوا بخبرة داود أوغلو، إذ استعان به من أجل كتابة تقرير ضمن لجنة جورج ميتشل الخماسية التي وضعت تقريرها حول الاعتداء الإسرائيلي على المقاطعة مقر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في رام الله عام 2002. ومن بين أهم ما يكشف عنه الكتاب العلاقة التي جمعت داود أوغلو بكل من عبدالله غل ورجب طيب أردوغان والتي يقول أنها لم تكن أبداً علاقة مسؤول ببيروقراطي، فداود أوغلو على رغم عمله مستشاراً للرجلين إلا أنه بقي دائماً (الخوجة أحمد) بالنسبة إليهما ولم يغب عن أي منهما أنه سعى الى طلب مشورته ووثق به ولم يسع هو الى ذلك ولم يطلب منصباً. ومن بين أشد فصول الكتاب تشويقاً ذلك الذي يكشف أسرار الحركة الديبلوماسية التركية قبيل الحرب على العراق وكيف انتهت الى رفض البرلمان التركي طلب الولاياتالمتحدة استخدام الأراضي التركية لدخول شمال العراق، وهي المرحلة الأصعب والأشق التي واجهها داود أوغلو في رحلته مع الديبلوماسية، ويبدو واضحاً من خلال هذا الفصل مدى طموحات الرجل الذي اعتقد حينها أن في إمكان تركيا وقف هذه الحرب حقاً، وبنى استراتيجيته على تعطيل الحرب أو تأخيرها من خلال خلق الأعذار تلو الأعذار وتجنيد دول الجوار بل الاتصال بالقيادة العراقية لطرح صيغ توافقية من أجل منع الحرب ومنع دخول عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين الى العراق، والتأكيد بعد ذلك على ضرورة أن تبقى تركيا خارج الحرب إن وقعت، وهنا نرى كيف اصطدم داود أوغلو برجب طيب أردوغان الذي كان يتزعم الحزب الحاكم حينها من دون منصب وزاري، وكان أردوغان يخشى أن تبقى تركيا خارج المعادلات السياسية بعد احتلال أميركا للعراق وإقامة دولة كردية مكافأة للأكراد ومعاقبة الأتراك على موقفهم، ليفصل بينهما البرلمان ونواب الحزب الذين صوتوا ضد الطلب الأميركي. وهنا يفصل الكتاب بعض ما واجهه داود أوغلو من ضغوط من الوسط الديبلوماسي والسياسي الذي حمله هو وحده مسؤولية هذا القرار، ويورد مقاطع من مقالات صحافية دعت داود أوغلو الى الاستقالة بعد ما أحدث – من ضرر بالغ – في المصالح التركية وكيف امتدت هذه الضغوط الى أوساط المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة التي وصفته لاحقاً ب «بالرجل الخطير جداً» – بحسب ما جاء في برقية السفير الأميركي اريك ادلمان في أنقرة عام 2004 والتي كشفتها ويكيليكس، وكيف بدأت حملة إعلامية مستهزئة بسياسات داود أوغلو وأفكاره، وكيف استطاع الرجل أن يصمد أمام هذه الحملات من دون تراجع بفضل دعم كل من أردوغان وغل له. وهكذا يمضي الكتاب في وصف دور داود أوغلو وسياساته فيتناولها في فصول، حيث يخصص فصلاً لكل قضية أو ملف مثل العراق قبل وبعد الحرب، والعلاقات مع الأكراد في العراق والقضية الكردية في تركيا، والملف القبرصي، العلاقات مع روسيا والبلقان، العودة من جديد الى الشرق الأوسط وضروراتها وأساليبها، العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وإصرار أوغلو على حصول تركيا على العضوية في هذا النادي الذي يرى فيه قوة خفية يعجز أصحابه الأصليون عن رؤيتها، الى العلاقات مع أميركا التي يضعها داود أوغلو في إطار استراتيجي، لكن مختلف تماماً عن الإطار الذي كان يحكمها في الحرب الباردة. ونقتبس هنا من الكتاب قولاً لداود أوغلو توقع فيه أن يخترع جورج بوش الابن حروباً في منطقة الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر من أجل زيادة نفوذ وتأثير الولاياتالمتحدة، ليقول حينها: «إن أميركا التي يحكمها الآن قيصر من تكساس بلاد رعاة البقر الأميركيين، تبدو بحاجة أكثر الى - أوريليوس المفكر والحكيم - من بوسطن - ليكون راعياً للعدل والإنصاف في هذا العالم». ويفرد المؤلف فصلاً خاصاً عن رؤية داود أوغلو للعلاقات مع إيران التي يراها ضرورية لكنها معقدة وشائكة. الكتاب رحلة شيقة في عالم داود أوغلو وأفكاره ورحلته مع سياسة تركيا الخارجية، وكاتبه غوركان زنغين اجتهد في جمع كل شاردة وواردة عن الرجل وسياساته وسردها بأسلوب سهل وشيق ومرتب، لذا يبدو الكتاب في متناول الصحافي والسياسي والهاوي لعلوم السياسة، على عكس كتاب داود أوغلو «العمق الاستراتيجي» الذي يخاطب الأكاديمي ومحترف علوم السياسة بلغة أكاديمية، لكن الرابط بين الكتابين، أن كتاب داود أوغلو «العمق الاستراتيجي» كتاب نظريات، فيما كتاب «الخوجة» يروي قصة التطبيق العملي لتلك النظريات وكيف انتهى الحال والى أي نتيجة أفضت، ليكشف الغطاء تماماً عن السياسة الخارجية التركية، ماضيها ومستقبلها معاً.