وسط ميل متعدّد المصادر إلى شيطنة الإخوان المسلمين، تحاول هذه الأسطر إعادة الاعتبار إلى حقيقة بسيطة إلاّ أنّها مغيّبة: أنّ دور الإخوان في العنف وفي المسؤوليّة عنه، يقلّ كثيراً عن دور الأنظمة والحركات العسكريّة – التحديثيّة ومسؤوليّتها، بل غالباً ما جاء دورهم هذا ردّاً على عنف أنزلته تلك الأنظمة والحركات في سعيها إلى التفرّد بالسلطة وتطهير المجتمع. ولئن وُجدت بالتأكيد في الإخوان بذرة خصبة للعنف والعدوان، شأنهم شأن كلّ التنظيمات العقائديّة الراديكاليّة، بقي أنّ ما كان ينقلهم إلى مواقف أشدّ تطرّفاً، على الصعيدين العمليّ والنظريّ، إنّما كان قيام الأنظمة العسكريّة وما رافقها، أو سبقها، من انتشارٍ لأيديولوجيّات تحديثيّة وتصفويّة في آن. وإذا جاز القياس بأعداد الضحايا الذين تسبّب بهم الاضطهاد والعنف الرسميّان، فضلاً عن الحروب «القوميّة» التي خيضت للحفاظ على الواقع السلطويّ القائم، بات «المطلوب» من الإخوان أن يقتلوا عشرات الآلاف كي يتساووا بالأنظمة العسكريّة في هذا الميدان. واقع الحال أنّ عوامل ثلاثة تضافرت كي تخلق هذه الصورة المشوّهة والمختلّة في توزيع المسؤوليّات: - النظم العسكريّة والعقائديّة في سعيها إلى تبرير قمعها وتحويل الأنظار عن عنفها، - والأحزاب الأصوليّة في علمانيّتها التي تستسهل توجيه كلّ اتّهام إلى الأطراف الدينيّة، - وأخيراً صعود «داعش» واختلاط أمرها بأمر الإسلام السياسيّ في عمومه. لقد اتّسمت جماعات الإخوان، في معظم البلدان التي ظهرت فيها، بملامح وقسمات أهمّها: - دور مصر في نشأتها، إمّا عبر تعرّف المقبلين الجدد إلى الدعوة إلى حسن البنّا، أو بنتيجة زيارة إلى القاهرة، أو دراسة في الأزهر. لقد كانت الإخوانيّة السلعة المصريّة السياسيّة الأولى التي صُدّرت إلى الخارج، قبل السلعة الناصريّة (وهي حقيقة تحضّ على دراسة الأثر الذي خلّفته مصر على الفكر السياسيّ العربيّ)، - والتركيز على الدور التبشيريّ والوعظيّ، مع إيلاء السياسة موقعاً أقلّ أساسيّة. لا بل تغليب ما هو أخلاقيّ وتربويّ في السياسة نفسها، وهذا ما أفضى في بلد كالأردن مثلاً إلى إمساك الجماعة بالقطاع التربويّ، وترك آثاراً كبيرة على مناهج التعليم، ما زال النقاش دائراً حولها إلى اليوم. - وكونها ردّاً على الاحتكاك بالغرب ومنتجاته وصادراته: إلغاء الخلافة في 1924 كان بالغ التأثير، وكذلك كون مدينة الإسماعيليّة، حيث أسّس البنّا إخوانه في 1928، مركز القيادة العسكريّة البريطانيّة، وأيضاً مركز النشاط التبشيريّ المسيحيّ. لاحقاً زاد وزن العداء للشيوعيّة و «اليهود» في الوعي الإخوانيّ، - ومشاركة الإخوان بقية الحركات الوطنيّة والاستقلاليّة مناهضتها للاستعمار، مع تطريز هذه المشاركة بلغة وتوكيد دينيّين وأخلاقيّين. والواقع أنّ خياراتهم السياسيّة الكبرى لم تكن بذاتها تبتعد كثيراً عن الخيارات العريضة للقوى الوطنيّة والقوميّة المناهضة للاستعمار، لا بل إنّ وهم الوحدة الذي طبع المرحلة الناصريّة والبعثيّة لم يكن يوماً بعيداً عن وجدان الإخوان، وهو ما أضعف حجّتهم حيال الناصريّين، على رغم أنّ لهم قصب السبق في الشعار وفي غيره من أدبيّات ناصريّة هي ذات جذر إخوانيّ (أغانٍ وأناشيد سرقتها الناصريّة منهم، كنشيد «لبّيك يا علم العروبة» الذي غنّاه محمّد سلمان). - واضطلاع القضيّة الفلسطينيّة، لا سيّما في الأربعينات، بدور تجذيريّ للإخوان، مثلهم في ذلك مثل بقية الفصائل الوطنيّة والقوميّة في العالم العربيّ، خصوصاً في المشرق. تحوّل الإخوان المصريّين لقد شارك الإخوان، وحسن البنّا شخصيّاً، في الحياة السياسيّة المصريّة، فخاض الانتخابات غير مرّة، مثله مثل أحمد السكري سكرتير الجماعة. وقد عُدّ الإخوان، في الثلاثينات والأربعينات، جزءاً من التحالف الراديكاليّ العريض المناهض للبريطانيّين ولحزب الوفد، إنّما الملتفّ حول الملك فاروق، وكان في عداده علي ماهر والشيخ مصطفى المراغي وعزيز علي المصري وأحمد حسين. فالإخوان بالتالي لم يكونوا غرباء عن «المؤسّسة» الرسميّة، السياسيّة والدينيّة، ولا هدّدوا بتدميرها من خارجها. إلى ذلك ارتبط البنّا بعلاقة وثيقة مع الزعيم القبطيّ مكرم عبيد، وشارك بنشاط في الأدبيّات الفولكلوريّة للوحدة الوطنيّة و «طمأنة» الأقباط. وفي الشأن الفلسطينيّ ربطت البنّا صداقة بالحاج أمين الحسيني، لكنّ صلة بعض الحكّام العرب وبعض الرموز الحزبيّين غير الإسلاميّين به لم تكن أقلّ متانة. ذاك أنّ الموضوع الفلسطينيّ حلّ مبكراً (وإلى حدّ بعيد بسبب تداخل الشأنين الفلسطينيّ والإسلاميّ) في صدارة الإجماعات العربيّة والإسلاميّة. وما قاله أو فعله الإخوان على هذا الصعيد، لا سيّما التوكيد على العنف حلاً وحيداً للنزاع، هو ما اشتركت فيه الغالبيّة الساحقة من الأطراف الفاعلة سياسيّاً. لا شكّ في أنّ الأربعينات، وتحت ضغط الموضوع الفلسطينيّ إلى حدّ بعيد (وفي مصر تحديداً «حادثة 4 فبراير» 1942 الشهيرة، حيث حاصر الإنكليز القصر وأجبروا الملك على تسليم الحكومة للوفد والنحّاس باشا)، سجّلت تحوّلاً في الوعي الإخوانيّ، كما في الوعي القوميّ العربيّ على عمومه. إخوانيّاً، تراجع التبشير والعمل على تجنّب «الفتنة» لمصلحة دور أكثر مباشرة ومبادرة وعسكريّةً في الحياة السياسيّة الداخليّة. لقد بدأ يظهر ل «الفتنة» وجه فاتن، وكانت شعبيّة الإخوان قد تنامت بسبب فلسطين كما بسبب الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة. غير أنّ السلطة المصريّة هي التي بادرت إلى العنف: رئيس الحكومة أحمد ماهر منع الإخوان في 1945 من المشاركة في الانتخابات العامّة فاغتاله الإخوان. رئيس الحكومة محمود فهمي النقراشي حلّ الإخوان وصادر ممتلكاتهم واعتقل قياداتهم في كانون الأول (ديسمبر) 1948، فاغتيل هو الآخر. البنّا نفسه اغتيل مطالع 1949 انتقاماً من تلك الاغتيالات. بالطبع لم يكن الإخوان أبرياء. ففي 1939-1940 أنشأوا «النظام الخاصّ» الذي قاده عبدالرحمن السندي، ويُرجّح أنّه الطرف الذي نفّذ الاغتيالات. لكنّ مكتبة بكاملها صدرت لاحقاً تحاول الإجابة عمّا إذا كان البنّا على علم بهذا التنظيم الشبابيّ – الإرهابيّ الذي نشأ داخل تنظيمه. أهمّ من ذلك أنّ الإخوان، في هذا، لم يشذّوا عن الوجهة العامّة التي سادت الثلاثينات واستمرّت في الأربعينات، وكان عنوانها الأعرض التأثّر بالتنظيمات الشبابيّة الفاشيّة في أوروبا وبالسياسات الأكثر جذريّة بالتالي. أحمد حسين أسس منذ 1929 «مصر الفتاة»، ثمّ راسل هتلر وأنشأ «القمصان الخضراء» (معادله الأشدّ تطرّفاً نشأ في لبنان بعد ثلاث سنوات وجسّده أنطون سعادة وحزبه «السوريّ القوميّ»). حتّى حزب الوفد انجرّ إلى إنشاء تنظيم شبابيّ وطلاّبيّ عُرف ب «القمصان الزرقاء». انقلاب 23 يوليو 1952 كان عصارة الجهد المشترك للائتلاف الراديكاليّ المناهض للإنكليز وللوفد. الإخوان كانوا قوّته الشعبيّة الضاربة، وقد تمثّلوا في «الضبّاط الأحرار»، وكان أبرز رموزهم عبدالمنعم عبدالرؤوف. الإخوان لم يشملهم حلّ الأحزاب. الإخوانيّ حسن الباقوري وُزّر في حكومة الانقلاب. الصراع على السلطة ما لبث أن انفجر بين ضابط مستبدّ وتنظيم ذي استعدادات استبداديّة خصبة. مع محاولة الإخوان اغتيال جمال عبدالناصر في 1954، بدأ القمع غير المسبوق إعداماً واعتقالاً وتعذيباً. بدوره، تعاظم التجذّر والتطرّف الإخوانيّان. الانتقال من حسن البنّا إلى سيّد قطب وأفكاره في الجاهليّة والحاكميّة والتكفير حصل في مناخ تنامي الاضطهاد وإقفال باب السياسة. إعدام قطب، الجدّ الأعلى للسلفيّة الجهاديّة، مع ستّة آخرين من إخوانه، تمّ في 1966، إبّان ذروة التحالف القوميّ – الاشتراكيّ – السوفياتيّ، أي ذروة تحديث القمع وأدلجته حتّى ذاك الحين. لكنّ إعدام قطب وما سبقه وتلاه من اضطهاد لم يجعل القطبيّة موضع إجماع إخوانيّ. المستشار حسن الهضيبي ما لبث أن ردّ على أطروحات أبو الأعلى المودودي، وضمناً تلميذه قطب، في كتابه «دعاة لا قضاة» الذي حاول إعادة الاعتبار للنفَس التبشيريّ والدعويّ في الإخوانيّة. إذاً، عهد المَلكيّة والإنكليز أنتج حسن البنّا. عهد عبدالناصر أنتج سيّد قطب. التكرار السوريّ المصغّر على نحو مصغّر، تكرّرت التجربة في سوريّة: كلّما ارتفعت نسبة العسكرة والأمن والإغلاق السياسيّ زادت نسبة التطرّف الإخوانيّ، والعكس بالعكس. في سيرة مصطفى السباعي، مؤسّس الإخوان في سوريّة أواخر الثلاثينات ومراقبهم العامّ الأوّل، أكثر من علامة دالّة على تلك الوجهة: في 1947، وبمباركة البنّا، خاض الإخوان الانتخابات العامّة بأربعة مرشّحين فاز منهم معروف الدواليبي عن حلب، ومحمود الشقفة عن حماة، ومحمد المبارك عن دمشق. في 1949 انتُخب السباعي نفسه نائباً عن دمشق، وكان واحداً من أربعة نوّاب إخوان. بعد ذاك انتخب نائباً لرئيس المجلس ثمّ عضواً في لجنة الدستور. في هذه الغضون احتلّ السباعي موقعه في «المؤسّسة» الثقافيّة الرسميّة، أستاذاً في كليّة الحقوق بالجامعة السوريّة، وأوّل عميد لكليّة الشريعة في جامعة دمشق. وكان دائماً خطيباً ومحاضراً وصحافيّاً يبشّر ويساجل دفاعاً عن عقيدته. في 1949، مع الانقلاب العسكريّ الأوّل، بدأت الأمور تتغيّر. حسني الزعيم عطّل جريدة «المنار» التي أنشأها السباعي. في عهد الديموقراطيّة القلقة، عام 1955 تحديداً، أسّس مجلّة «الشهاب» الأسبوعيّة فعطّلتها دولة الوحدة بعد ثلاث سنوات. بين هذين التاريخين قضت ديكتاتوريّة أديب الشيشكلي بحلّ الجماعة واعتقال السباعي وإخوانه، ثمّ فُصل من الجامعة وأُبعد إلى لبنان. مواقف السباعي وكتبه لم تغرّد خارج السرب السوريّ في الخمسينات: حلف بغداد، مشروع أيزنهاور، الاستعداد للتقارب مع السوفيات، محق دولة العدوّ... معروف الدواليبي كان حالة لا تقلّ تمثيليّةً: فهو، إلى إخوانيّته، قطب سياسيّ حلبيّ لم يغب عن تمثيل مدينته في البرلمان في أيّ من البرلمانات التي أقيمت ما بين 1947 والانقلاب البعثيّ في 1963. في 1950 كان وزيراً للاقتصاد. في 1951 رئيساً لمجلس النوّاب ثمّ رئيساً للحكومة ووزيراً للدفاع. وأيضاً، في 1954 وزيراً للدفاع، ثمّ في العهد «الانفصاليّ»، رئيساً للحكومة ووزيراً للخارجيّة إبّان 1961-1962. انقلاب 1963 حرم الدواليبي من حقوقه السياسيّة والمدنيّة، مثله مثل سائر السياسيّين السوريّين. وباستثناء الناصريّين في العام الأوّل للانقلاب، «حظي» الإخوان بحصّة من القمع تفوق كثيراً الحصّة التي نزلت ببقية القوى المعارضة. السجون فتحت أوسع أبوابها لهم، وتظاهرات المحتجّين عوملت بقسوة شديدة. في هذا المناخ ظهر في الإخوان جناح أشدّ تطرّفاً وتحبيذاً للعنف يقوده الحمويّ مروان حديد. الجماعة رفضت حديد وطروحاته، كما دانت في وقت لاحق «الطليعة المقاتلة» التي أسّسها تلامذته. لكنّ الوقائع كانت تخدم حديد أكثر ممّا تخدم رسميّي الجماعة ومعتدليها. تدريجيّاً، انجرّ الجسم الإخوانيّ إلى العنف والاغتيالات. حديد سبق أن درس في مصر الناصريّة في النصف الأوّل من الستينات، إبّان اضطهاد الإخوان الذي شاهده بعينه. في حماة، بعد عودته، اعتصم في مسجد السلطان الذي هُدم ودُكّ على رؤوس المعتصمين فيه، ثمّ اعتُقل. اعتقاله تكرّر لاحقاً مصحوباً بالاضطهاد وأنواع الأذى كلّها التي اشتُهرت بها السجون البعثيّة. في 1976 توفّي في سجن المزّة. تلامذته في «الطليعة المقاتلة» تمرّدوا في حماة، وكانت مأساة 1982 المعروفة التي تكرّرت لاحقاً في حلب. علاقة السلطة بالإخوان باتت تقتصر على العنف المحض. ومثلما بقيت علاقة الإخوان المصريّين بتنظيمهم العسكريّ ملتبسة، شابت العلاقة بين الإخوان السوريّين وتنظيم «الطليعة المقاتلة» «المنشق عنهم» التباسات كثيرة. فعندما أقدمت «الطليعة» على ارتكاب مجزرة مدرسة المدفعيّة في حلب في 1979، أصدرت جماعة الإخوان السوريّين بياناً دانت فيه المجزرة ونفت أن يكون مرتكبها إبراهيم اليوسف عضواً فيها، لكنّ علاقة الجماعة ب «الطليعة» عادت لتلتئم في 1982 خلال ما يسمّيه الإخوان انتفاضة حماة، وما أعقبها من مجزرة ارتكبها النظام بأهل المدينة. في ظلّ التطرّف البعثيّ كان لا بدّ أن يغلب التطرّف الإخوانيّ. عسكر العراق وإخوانه في العراق لم يُعرف الإخوان بأيّة قوّة ملحوظة. مؤسّسهم في الأربعينات كان الشيخ محمّد محمود الصوّاف. لكنّ المشاعر السنّيّة المتطرّفة كانت تجد ما يستوعبها في المركّب القوميّ البعثيّ – الناصريّ المناهض للشيوعيّة. الصدامات مع النظام الملكيّ لم تكن قليلة، لكنّ أجندة النظام المذكور خلت من أحكام القتل والتعذيب. «جمعيّة الأخوّة الإسلاميّة» التي أسّسها، في 1948، الصوّاف والشيخ أمجد الزهاوي ألغيت، ومجلّة «الأخوّة الإسلاميّة» الناطقة باسمها أُغلقت في 1950. والإخوان، مثلهم مثل القوميّين والشيوعيّين، شاركوا في الاحتجاجات على معاهدة بورتسموث مع بريطانيا، مطالع 1948. الصوّاف سُجن ثمّ فُصل من عمله. هذه كانت حدود العقاب. بعد انقلاب 1958 الذي أطاح الملكيّة، بدأت مضايقات من نوع آخر اضطرّته إلى مغادرة العراق. في 1960 حين صدر قانون للأحزاب، حاول الإخوان العمل وراء واجهة رسميّة أسموها «الحزب الإسلاميّ العراقيّ» الذي ترأّسه نعمان عبد الرزّاق السامرّائي. حكومة عبدالكريم قاسم أجازتهم لكنّها، في 1961، منعتهم من مزاولة النشاط. عام 1970، وصل الخوف بالإخوان إلى أن يجمّدوا عملهم السرّيّ، لا العلنيّ فحسب. «السيّد النائب» صدّام حسين لا يعرف أنصاف الحلول: خارج حزب البعث لا يوجد إلاّ الإعدام. من تباطأوا في فهم الرسالة، كمحمّد فرج الجاسم وعبد الغني شندالة والشيخ عبدالعزيز البدري، أعدموا. لم يُسمع بالإخوان إلاّ بعد إطاحة صدّام في 2003: لقد عاودوا الظهور تحت تسمية «الحزب الإسلاميّ العراقيّ». إخوان الأردن الرسميّون في 1945 أنشأ عبداللطيف أبو قورة، الذي عرف البنّا وعمل معه، إخوان الأردن. قضيّة فلسطين كانت موضوع المواضيع عندهم وعند سواهم. النشاط السياسيّ كان ندوات ومحاضرات واحتفالات دينيّة وتبشيراً. أبو قورة شارك في تأسيس جامعة إسلاميّة وفي مؤتمرات وروابط لنصرة فلسطين والجزائر وكلّ ما يستدعي نصرةً في العالم الإسلاميّ. وكالآخرين، شارك الإخوان في حرب 1948 وسقط لهم قتلى. وفي الخمسينات، صار إخوان الأردن جزءاً من المعسكر المناهض لسياسات النظام، الداخليّ منها (وجود غلوب باشا والضبّاط الإنكليز) والخارجيّ (حلف بغداد، مشروع أيزنهاور...). شاركوا في التظاهرات الاحتجاجيّة، لكنّهم كانوا أشدّ تحفّظاً على العنف من زملائهم القوميّين واليساريّين. أبو قورة، الذي كان عضواً في البرلمان، اعتقل في 1955 و1958. لكنّه، بين التاريخين، خاض انتخابات 1956 التي فاز فيها أربعة مرشّحين للإخوان من أصل ستّة. في 1963 شاركوا أيضاً ونجح لهم اثنان. صراعاتهم مع النظام كانت كثيراً ما تعكس طفليّة نظرتهم إلى العالم: في 1960 مثلاً، خاضوا معركة كبرى ضدّ حفل راقص على الجليد، ساق أبو قورة وبضعة قيادات إلى السجن لبضعة أشهر. النظام عاملهم، لا سيّما وقد حالفوه ضدّ الناصريّة والبعث، بخليط أبويّ من القسوة والحنان. مع نشأة المقاومة الفلسطينيّة في الأردن بقي الإخوان جسراً بين السلطة الأردنيّة والمقاومة التي أنشأت لهم (من خلال «فتح») ثلاثة معسكرات. وحين اندلعت حرب 1970 الأهليّة نأوا بأنفسهم عن القتال لأنّ اختصاصهم قتال «اليهود» فحسب. حرب 1970 زرعت بذرة شقاق داخل الجماعة الأردنيّة سيكون لها أثر بالغ على مستقبلهم. الوجوه الفلسطينيّة في الإخوان الأردنيّين، وعلى رأسهم الشيخ عبدالله عزّام، لم يهضموا الحياد الإخوانيّ واعتبروه انحيازاً للجيش. مذّاك باشر عزّام ومجموعة معه ابتعاداً هادئاً عن الإخوان أفضى به وبهم إلى هجرة بعيدة انتهت في مدينة بيشاور الباكستانيّة. هناك أسّس مع أسامة بن لادن ما سُمّي في حينه «بيت الأنصار»، وهو ما يُعتبر النواة الأولى لتنظيم «القاعدة». ربّما كان الإخوانيّ اسحق الفرحان الوجه الأبرز في تمثيل تلك الحقبة الإخوانيّة من زاويتها الأردنيّة البحتة: فهو كان عضواً في أوّل مجلس استشاريّ، دخل حكومة وصفي التل عام 1970، وفي 1973 أشرف كوزير للتربية في حكومة أحمد اللوزي على صياغة مناهج التعليم. ثمّ تسلّم رئاسة الجامعة الأردنيّة محتفظاً بعضويّته في مجلس الأعيان. في الانتخابات العامّة، وخصوصاً في التسعينات، أحرز الإخوان كتلاً نيابيّة كبرى (17 مقعداً في 1993 مثلاً) وشاركوا بوزراء كثيرين في الحكومات. نشأة القانون الانتخابيّ الذي عُرف بقانون الصوت الواحد حدّ من قوّتهم التمثيليّة، وهذا مضافاً إلى اتّفاقيّة وادي عربة مع إسرائيل في 1994، حمل «جبهة العمل الإسلاميّ»، ذراعهم السياسيّة والبرلمانيّة، على مقاطعة الانتخابات. في هذه الغضون كان يتزايد الوزن الفلسطينيّ والحمساويّ في الجماعة الأردنيّة. المقاطعة التي بدأت في 1997 استمرّت قرابة عقد. بعد ذاك استأنف الإخوان نشاطهم السياسيّ والانتخابي. في 2016 أحرزوا، باسم «جبهة العمل الإسلاميّ» كتلة من 16 نائباً. مع هذا، وضمن لعبة الاحتواء الحكوميّ بالسياسة من دون العنف، سُجّلت تطوّرات عدّة: في 2013، نشأت «المبادرة الأردنيّة للبناء»، المعروفة ب «زمزم»، التي كانت أقرب إلى انشقاق شرق أردنيّ - إصلاحيّ عن جسم بات أكثر فلسطينيّة وحمساويّة. هذا التطوّر لم يكن بعيداً عن ضغوط حكوميّة تعدّدت أشكالها بين الشدّة والتسلّل واللعب على العصبيّات الأهليّة. في 2016، الحكومة حرمت الإخوان من التسجيل الرسميّ، لكنّها أبقت على تسجيل «الجبهة» وشرعيّتها، كما تبنّت تعديلات على القانون الانتخابيّ تشجّعها وتشجّع بقية الأحزاب المضمونة على المشاركة السياسيّة. «الجبهة»، وكان محمّد مرسي قد أطيح في مصر فيما مُنع الإخوان أو صُنّفوا منظّمات إرهابيّة في بعض دول الخليج، استبعدت شعار «الإسلام هو الحلّ» وركّزت على «الإصلاح» (البطالة، الصحّة، التعليم الخ...). أكثر من هذا: شاركت في فولكلور الوحدة الوطنيّة بأن رشّحت على لوائحها أربعة مسيحيّين وعدداً من النساء. على العموم، هناك في التجربة الأردنيّة ما يشبه التجربة المغربيّة التي يخوضها القصر مع رئيس الحكومة الإخوانيّ عبد الإله بن كيران: إشراك شكليّ في السلطة (هو في المغرب أكبر منه في الأردن)، واستخدام للتناقضات على أنواعها، مقابل استجابة تحول دون ذهاب أصحابها مذهب العنف كما عرفته البلدان التي حكمها العسكر. لكن يبقى أنّ إخوان الأردن كانوا أقلّ براغماتيّة من نظرائهم المغربيّين، وهو ما يدفعون اليوم أثمانه: في لحظة الصعود الإخوانيّ في مصر وتونس، شعر الإخوان الأردنيّون أنّ الفرصة متاحة لانتزاع الحكومة من القصر، فرفعوا سقف مطالبهم التي لم تخل من تقييد لصلاحيّات الملك، ولم يستجيبوا لعروض قدمت لهم من قبل الحكومة تؤمّن حضوراً في البرلمان يتيح مشاركة في الحكومة. العدّ العكسيّ للزمن الإخوانيّ بدأ مع إطاحة محمّد مرسي في مصر، والهزيمة الانتخابيّة ل «حركة النهضة» في تونس. هكذا وجدت الحكومة فرصتها للانقضاض من جديد على طموحات الجماعة. لقد أعيد تجليس العلاقة لمصلحة الحكم، إلاّ أنّ الإخوان تصرّفوا تصرّف من يفضّل الخسارة المحدودة على خيار راديكاليّ قد يخسرون معه كلّ شيء. ... بالعودة إلى مصر في مسارات العلاقات المريرة بين إخوان المشرق وبين الدول والحكومات التي نشأوا في ظلّها، لا بدّ من ملاحظة عدد من التعقيدات الهائلة التي تفيض عن عجالة كهذه. مع ذلك لا يمكن القفز عن حقيقة تكرّرت غير مرّة: إنّها أولويّة الدولة – الأمّة في الحسابات الإخوانيّة، ولو اتّخذت هذه الأولويّة أشكالاً بالغة الاختلال والعوج. فهناك، مثلاً، سمة طبعت معظم المراحل الإخوانيّة بدءاً من الستينات: في الوقت الذي كان فيه عبدالناصر يضطهد إخوان «ه» في مصر، توجّه وفد من إخوان سوريّة إلى السفارة المصريّة في دمشق للتهنئة بقرار الوحدة. وفي الوقت الذي أعدم فيه صدّام حسين معظم القيادات الإخوانيّة في العراق، كان إخوان سوريّة يعوّلون على البعث العراقيّ لنجدتهم، وكانت بغداد وجهتهم الوحيدة تقريباً عندما باشر النظام السوريّ اقتلاعهم. خيبة الإخوان العراقيّين من إخوانهم السوريّين أصابت الأخيرين أيضاً، مع تحوّل دمشق إلى قبلة ل «حماس» ومستقرّ لها. فالأنظمة العسكريّة في مصر وسورية والعراق أحبّ كل منها إخوان الآخر واضطهد إخوانه، والغريب أن الإخوان سقطوا أيضاً أسرى هذا الحبّ، فأحبّت كلّ جماعة منهم نظام البلد الآخر الذي اضطهد إخوانها. ولا يُنسى موقف الإخوان الكويتيّين إبّان اجتياح صدّام لإمارتهم. لقد تميّزوا عن سائر رفاقهم إذ غلّبوا مصالح الكويت وإجماعات شعبها. وإذا كانت عسكرة الإخوان قد تطوّرت في موازاة اضطهاد الأنظمة العسكريّة لهم، مع توافر القابليّة عند قطاعات منهم للعسكرة، فإنّ ما يجري اليوم مع إخوان مصر لا يبدو أنّه سيفضي إلى نتيجة مختلفة: ذاك أنّ جيلاً إخوانيّاً راديكاليّاً بدأ يشق طريقه من منافيه الكثيرة إلى «جبهة النصرة» وغيرها من التنظيمات التي تنهل من كتاب سيّد قطب «معالم على الطريق».