«سما، ساما، سامية» أسماء لثلاث نساء مختلفات اتخذها الروائي الفلسطيني صافي صافي اسماً لروايته السابعة (دار الآداب). وفيها يرصد تطور العلاقة بين بلال بطل الرواية وأحد رواتها وكل من النساء الثلاث، وهي علاقة محكومة بالتعاقب بينهن وليس بالتزامن، تنطلق مع كل منهن من نقطة محددة وتتخذ مساراً معيناً هو أفقي غالباً حتى تبلغ نقطة محددة أخرى. ومن خلال هذه العلاقة وما يكتنفها من أحداث وما يجري في اطارها من حوارات تتبلور شخصيات الرواية المختلفة ويكون لها مواصفاتها وطريقة تفاعلها مع الأحداث. على أن ثمة الكثير من القواسم المشتركة بين النساء الثلاث هي أكثر مما يفرق بينهن؛ فأسماؤهن مشتقة من جذر لغوي واحد، والثلاث يرتبطن تباعاً في علاقة معينة ملتبسة برجل واحد، تروح تتدرج مع كل منهن حتى تبلغ نقطة متقدمة مع المرأة الأخيرة، وكأن هذا التدرج في الأحداث يعادل التدرج في أسماء النساء الذي يتمثل في اضافة حرف واحد على اسم الثانية «ساما»، وحرفين اثنين على اسم الثالثة «سامية». ويجمع بينهن أيضاً النضال السياسي، وامتلاك زمام المبادرة في العلاقة بالرجل نفسه، فكل منهن تعترف له بحبها، أو تعرضه عليه، تأمر، تنهى، تحدد مواعيد اللقاء، تمارس سلطة الفعل. والرجل، في المقابل، يبدو في موقع رد الفعل وان كان ذلك لم يمنعه من اتخاذ القرار الذي يراه مناسباً. والمفارقة، هنا، أن الرواية تقدم أنماطاً من الشخصيات تبدو غير مطابقة لواقع الحال الاجتماعي في الفضاء الروائي الذي تدور فيه الأحداث، وهو فضاء رام الله الفلسطينية الذي هو جزء من فضاء محافظ أوسع؛ فالمرأة في الرواية تبدو غير مهتمة بالعادات والتقاليد، لا تتورع عن اعلان تمردها عليها وممارسة هذا التمرد فيما الرجل يبدو خائفاً من مخالفتها، متردداً، جباناً، يخشى افتضاح أمره ويحسب خطواته بدقة، ولا يخوض مغامرات غير محسوبة النتائج. في العلاقة مع المرأة الأولى «سما»، طبيبة الأطفال، والمناضلة السياسية، تشكل واقعة اعترافها بحب بلال نقطة انطلاق روائية يكون لها ما بعدها، وتشكل عبئاً على الطرف الآخر في زمن الانتفاضة على الاحتلال، وكأن ردة الفعل هذه تشي باستحالة الحب في ظل الاحتلال وفي ضوء الانتفاضة عليه. ومع هذا، تقوم بين الطرفين سما وبلال علاقة ملتبسة، تتذبذب بين الصداقة والحب والغيرة، ولا تصل الى أي مكان؛ هي تحمل عقدة معينة من الرجال، لا تثق بهم، تختزن احساساً بظلم أنثوي وتسعى الى انتقام ما، يطاردها ماضٍ تريد التحرر منه. وهو المتزوج الذي يعيش هموم الانتفاضة يحس بثقل العبء، فيتردد ولا يقدم. لذلك، تبقى العلاقة محصورة في بعض اللقاءات، وفي حوارات هي أقرب الى مماحكات ايجابية بين الطرفين. كأن الرواية تقول استحالة الحب في ظل الاحتلال. في العلاقة مع المرأة الثانية «ساما»، وهي زوجة شهيد ومناضلة سياسية، لا يختلف المسار كثيراً عنه في العلاقة الأولى. فساما المناضلة الخمسينية تمتلك وعياً سياسيّاً، تحس بامكانية انتهاء حياتها فتزمع أن تعيشها قبل ذلك، لذلك، تعرض على بلال صداقتها فيقبلها، تتخذ قرارات عامة كخوض الانتخابات التشريعية وfخاصة كرغبتها في الزواج لكنها ما تلبث أن تتراجع عن قراراتها لأسباب خارجة عن ارادتها. على أن علاقتها ببلال تنمو شيئاً فشيئاً، وتتمظهر في لقاءات صداقة، وزيارات، وتبادل اطراء وغزل، واحتضان...، لكنها لا تصل الى أي مكان كما هي الحال في العلاقة الأولى. ففي كل من العلاقتين لا نقع على مواقف درامية، بل ثمة مسار أفقي تنقصه الحبكة الروائية، وثمة تكرار لمشاهد روائية وحوارات تبدو أحياناً غاية بذاتها وليست وسيلة في بناء السياق الروائي العام. ولعل ما يفرق «ساما» عن «سما» هو أن جرعة عدم التكيف لديها أكبر، فتحس بالخوف وعدم اليقين والحصار، وترغب في السفر والانطلاق. في العلاقة الثالثة والأخيرة، وهي تشغل وحدها أكثر من نصف الرواية فيما تشغل الأولى والثانية معاً اقل من النصف، نحن ازاء نمو كمي ونوعي الى حد ما. وعلى رغم أن «سامية» الطرف الجديد في العلاقة لا تختلف عن المرأتين الأوليين «سما» و «ساما» من حيث امتلاك زمام المبادرة، والجرأة، والرغبة في التمرد، والسعي الى خوض مغامرة عاطفية، وعلى رغم أن بلالاً لا يزال هو نفسه في جبنه وخوفه وحذره ومداراته الهيئة الاجتماعية...، فإنّ العلاقة بينهما تتضمن العلاقتين السابقتين، وتحقق تقدماً ملحوظاً يقف عند حد تبادل طرفيها للاعتراف بالحب، وهي أقصى نقطة تبلغها هذه العلاقة. من هنا، نتساءل: لماذا لم تقتصر الرواية على هذه العلاقة؟ وما جدوى التمهيد لها بعلاقتين سابقتين لا تقدمان في مجرى الأحداث وتطورها، ناهيك بأن مشاهد روائية وأحداثاً وحوارات تتكرر في العلاقات الثلاث المتعاقبة؟ على أية حال، ان وصول العلاقات الثلاث الى طريق مسدود بالاعتبارات الاجتماعية والأعباء العائلية والهموم الوطنية، وعدم بلوغها خواتيمها المنشودة، وذهاب كل شخصية في طريقها، هي مؤشرات تشي باستحالة الحب في ظل الاحتلال وبترف العلاقة العاطفية في فضاء واقعي فظ تتضافر على التحكم به سلطة احتلال غاشمة من جهة، وسلطة المقدس الاجتماعي من جهة ثانية، من دون أن نلمح الى أي رابط بين السلطتين. لذلك، تتجمد العلاقات عند درجة معينة، وتبقى في مرحلة انتقالية مرشحة للعودة الى الوراء وغير قابلة للتقدم. هذا المسار الأفقي للأحداث، يقدمه صافي صافي في خطاب روائي يتعدد رواته، وتتعدد صيغ الروي وتتنوع بين الغائب والمتكلم والمخاطب، وقد تدخل صيغتان اثنتان أو أكثر في علاقة جدلية خلال السرد، وقد يقترب السرد من المونولوج الداخلي حيث يزدهر البوح باعتمالات الداخل العاطفية. ويشغل الحوار مساحات واسعة في النص فيكمل وظيفة السرد في رصد حركة الأحداث على المسار الأفقي، وقد يكون الحوار غاية بذاته ولا يسهم في أي نمو للحدث، وقد تتحول بعض الحوارات الى مماحكات ايجابية بين الشريكين تظهر طبيعة العلاقة بينهما. الى ذلك، يستخدم الكاتب تقنيات الحلم، وحلم اليقظة، والرسالة الالكترونية...، وقد تتعدد وظيفة التقنية الواحدة؛ فيلعب حلم اليقظة على سبيل المثال دوراً مكملاً لليقظة كما الحلم أو دوراً تفريغياً للكبت الذي يفرضه الواقع. وذلك كله يتم بلغة روائية رشيقة، مقتضبة، تؤثر الاقتصاد في طول الجملة، وتتجنب الخوض في الانشائيات، وتجنح نحو البساطة في التعبير، فتقدم نصاًّ روائياًّ سلساً يسهل هضمه ولا تتعب قراءته. على أنه لا بد من الاشارة، في نهاية هذه العجالة، الى هفوات في الاخراج الطباعي للنص قد توقع القارئ في الالتباس؛ فلم تترك فراغات بين بعض المشاهد التي عرضت بتقنية الحوار (ص98)، فيظن أنه لا يزال في المشهد نفسه لولا الانتباه الى تغير المكان والحدث. والأمر نفسه يحصل حين يتم الانتقال من راوٍ الى آخر في الصفحة الواحدة (ص116) من دون سابق انذار أو اشارة اخراجية أو نصية توحي بتغير الراوي. وهو ما يترك أثره على النص وآلية التلقي.