الأحد 17/5/2009: التسطير بالقلم صديقي الشاعر استقال من عمله في المركز الرئيس لوكالة أنباء عالمية لأنه لم يطق الكومبيوتر. كان يرى الشاشات في قاعة العمل الفسيحة شواهد للقبور، وعاود سيرته في مجلة أسبوعية تسمح باستخدام القلم والورق. قال إن الشاشة تعني السينما والتلفزيون ولا شيء غيرهما. لم أستقل بل «قاومت» الكومبيوتر ما استطعت مكتفياً بدائرتين للمعارف تحتلان مكتبي مع عدد من القواميس، لكن ل «ممانعة» التكنولوجيا حدوداً فصار لزاماً عليّ استخدام الكومبيوتر. تعلمت نظرياً وتطبيقياً وكان الأمر أسهل مما تصورت. ذكرني ذلك بتعلمي قيادة السيارة، كنت في الثامنة عشرة من عمري أتهيب الأمر، لكنني تذكرت نسيباً لي اسمه بديع محدود الذكاء ويقود سيارته ببراعة لافتة، قلت: لا يمكن أن أكون أقل ذكاء من بديع، وساعدتني الفكرة في تخطي الخوف وقيادة السيارة. وإذا كان كثيرون من أمثال بديع يستخدمون الكومبيوتر فلا اقل من أن أستخدمه أنا أيضاً. وصلت أخيراً الى التنضيد الذي أتعلمه ببطء. أستطيع تعديل نص أو تصويبه أو تنضيد رسالة قصيرة، لكن الكتابة، وبالتحديد الكتابة الإبداعية، شيء آخر (أعني بالإبداع هنا الشعر بما هو تخير صعب للكلمات والصياغات وليس الرواية التي يمكن تنضيدها، بل ان الكومبيوتر يساعد في إعادة ترتيب مقاطعها/ مونتاج السرد). هل أرمي ورائي تاريخاً من الكتابة بالقلم، علماً أنني خطاط، وأحسب نفسي واحداً من رعيل أدباء اتقنوا الخط العربي اتقانهم اللغة (أبرزهم إبراهيم اليازجي وجبران خليل جبران وخليل رامز سركيس ونزار قباني)، يلاعبون الكلمات والصياغات وصولاً الى أفضل بناء لغوي جمالي ممكن، وفي مصاحبة ذلك الوصول الى أفضل خط ممكن لكلمات النص: الجمالية هنا شكل بارز ومضمر سابق لجوهر مكنون يسمونه المعنى. بل إن خط الكلمة نفسه تعبير عن الإحساس بها، إذ تتقارب الكلمات في حال التركيز ووضوح المعنى، ثم تتباعد حين يغمض المعنى فيصل الأمر الى كلمتين كبيرتين تحتلان السطر الذي يتسع عادة لعشر كلمات. هنا الروح والجسد يتشاركان في تسطير الكلمات: «نون والقلم وما يسطرون». لا بد من أن يغيرنا تبدل الأحوال والوسائل، ولعل استخدام الكومبيوتر وترك الكتابة بالقلم أقل إيلاماً مما حدث للخطاطين في مرحلتين عصيبتين: ذكر كراتشكوفسكي في كتابه «مع المخطوطات العربية» مشاهداته في بيروت الرعيل الأخير من ناسخي المخطوطات وقد صاروا عاطلين عن العمل بفعل وجود المطبعة وإنتاجها الوفير. وشاهدت كما شهد غيري خطاطي الصحف وقد فقدوا مهنتهم، ولم يبق من آثار جمالياتهم سوى أسماء الصحف الكبرى. نذكر هنا أن الخطاط البيروتي كامل البابا هو من خط اسم جريدتنا «الحياة» عام 1946. الاثنين 18/5/2009: صخب اللبنانيين أصوات اللبنانيين عالية مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية (في السابع من الشهر المقبل)، وتبعث الخوف تلك اللغة الغرائزية التي تدير ظهرها للآخر كأنها لن تلتقيه بعد الانتخابات، تاركة اللبنانيين يتبادلون التعصب والتحامل راسمين لأنفسهم صيغة عيش موقت، قد تكون بدأت في عشرينات القرن العشرين لكنها لا تزال حاضرة. وإذا كان زعيم المقاومة السيد حسن نصر الله يفتخر بأن لبنان الذي ينظر إليه كآخر بلد عربي يحارب إسرائيل، نجح في أن يكون الأول في هذا المجال. فإن الفخر يتطلب معرفة أسباب النجاح خارج حدود تعبئة المقاومين وإعدادهم، وأول الأسباب كون المقاومة لبنانية صادرة عن عيش حرية المعتقد وانفتاح على الشرق والغرب يسمح بتبادل الأفكار، واللبنانيون شأنهم شأن الإسرائيليين يعرفون العالم كله حيث لهم جاليات ذات شأن تتواصل مع الوطن الأم. بل ان المجتمع اللبناني أفضل من المجتمع الإسرائيلي لأنه يقوم على تنوع الأديان والمذاهب والاتجاهات الثقافية. ولعل المحافظة على هذا التنوع تعادل بل تعادل في أهميتها مقاومة إسرائيل. المقاومة في الأصل دفاع عن الذات في وجه عدوانية الآخر الذي يريد تحطيم هذه الذات أو إلغاءها، ولأن المقاومة كذلك، فإن أي جهد داخلي لإلغاء التنوع أو إضعافه، أو على الأقل إشعار الأطياف اللبنانية بالقهر وإجبارها على قول ما لا تعتقد ومنعها من النقد واقتراحات الإصلاح، كل هذا يفوق انتصار العنصرية الإسرائيلية على البلد الصغير الديموقراطي. المشكلة الثقافية هي ما يعاني منه لبنان، خصوصاً في سجالات الشرعية بين المقاومة والدولة. وطرح الاختيارات الثقافية في حوار واسع هو السبيل الى إنقاذ لبنان من وطأة الحق الذي يعتبر كل حق آخر باطلاً أو ناقصاً أو ضالاً. وإذا لم تحظ المقاومة بإجماع اللبنانيين أو بغالبيتهم، فلن تنفعها وتنفع لبنان مظاهر التأييد الإقليمية والعالمية. لن نربح العالم إذا خسرنا أنفسنا، وسبيل النجاة حوار مفتوح على قاعدة التنوع الثقافي وسلام الوطن وأمن الحدود. الثلثاء 19/5/2009: الكويت نجحت دولة الكويت في حصر الخلافات داخل مجلس الأمة فلا تخرج لتؤذي المجتمع. ولا يمكن التقليل من شأن الخلاف السياسي، وأحياناً الأيديولوجي، في بلد مجاور للعراق وإيران، تأتيه، قبل غيره من دول مجلس التعاون، رياح الجوار الخمسينية، الى حد أنه تعرض للاحتلال مع اجتياح قوات الرئيس العراقي الراحل صدام حسين كامل الأراضي الكويتية، وهو يتعرض بعد التحرير لمؤثرات الفوضى الأمنية العراقية والأيديولوجيا الصارمة للجمهورية الإسلامية الإيرانية. فرح العرب ومحبو السلام بنجاح الكويت في انتخابات برلمانها الجديد. نجاح للدولة وشعبها عبرت عنه نتائج تؤدي الى علاقة صحية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وخفوت لأصوات متطرفة تريد تحويل الكويت منصة لإطلاق النار أو الأفكار الحجرية على المواطنين وعلى دول الجوار. كل هذا بالانتخابات الحرة لا بفرض رأي واحد على بشر متنوعين. الأربعاء 20/5/2009: أطفال منتصف الليل قبل صدور رواية «آيات شيطانية» للهندي سلمان رشدي وما تبعها من إهدار لدمه ونفيه الى لعنة العالم الإسلامي، كانت صدرت في دمشق مترجمة الى العربية روايتان لرشدي هما «أطفال منتصف الليل» (نال على أساسهما جائزة بوكر البريطانية للرواية) ورواية «العار». نقل الروايتين الى العربية عبدالكريم ناصيف وأعادت إصدار الترجمتين دار التكوين بالتعاون مع منشورات الجمل (بيروت – بغداد). وإذا كانت رواية «العار» ترسم في نوع من الغرائبية عهد تحالف الديكتاتورية العسكرية مع التطرف الديني، فإن «أطفال منتصف الليل» تصور مرحلة سلخ أجزاء من الهند لتكوين دولة دينية اسمها «باكستان». وربما تكون من الروايات النادرة التي تصور العذابات العميقة لدى شرخ بيئة ثقافية متنوعة مستقرة. من «أطفال منتصف الليل» هذا المقطع: «جاءت الشاحنات والجرافات وهي تهدر على طول الطريق، ثم وقفت قبالة حي السحرة. بعدئذ لعلع مكبر صوت: «برنامج تجميل المدينة. عملية اللجنة المركزية لشبيبة سانجاي. استعدوا حالاً للإخلاء الى موقع جديد. هذا الحي القذر مؤذ للعين، لا يمكن تحمله بعد الآن. على الجميع تنفيذ الأوامر دون تردد». وبينما كان المكبر يلعلع، كان هنالك أشخاص ينزلون من الشاحنات: وبسرعة نصبت خيمة زاهية الألوان ثم وضعت فيها أسرّة ميدانية ومعدات طبية. بعد ذلك تدفق من الشاحنات سيل من السيدات ذوات الثياب الجميلة والمنشأ الطبقي الرفيع والثقافة الأجنبية، تلاه سيل ثان من شبان مماثلين أيضاً: إنهم متطوعون، متطوعو شبيبة سانجاي، وهم يؤدون واجبهم تجاه مجتمعهم. لكنني حينذاك أدركت أن ليس هناك متطوعون، فكافة الرجال كان لهم الشعر الأجعد ذاته والشفاه – الأشبه – بأشفار النساء. وكانت السيدات الأنيقات كلهن متماثلات أيضاً، ملامحهن تتطابق تماماً مع ملامح ميناكا، زوجة سانجاي، التي كانت الصحف تصفها ب «الجمال الطويل الضامر» والتي عملت في الماضي عارضة أزياء لشركة تصنع الفرش. لقد رأيت بأم عيني، وأنا أقف في قلب الفوضى التي سببها برنامج إخلاء الحي، أن السلالة الحاكمة في الهند تعلمت كيف تصنع نسخاً عن ذاتها، لكن حينذاك لم يكن ثمة وقت للتفكير، فأصحاب الشفاه – الأشفار الذين لا عدّ لهم ولا حصر، وكذلك ذوات الجمال الطويل الضامر، كانوا يمسكون بالسحرة والمتسولين المسنين، ثم يجرونهم الى الشاحنات، وكانت انتشرت في تلك اللحظة شائعة في مستوطنة السحرة تقول: «إنهم يقومون بالتعقيم – يطبِّقون التعقيم بالإكراه».