كيف يكون موقع «فايسبوك» مجانياً ومارك زوكربيرغ مليارديراً؟ «غوغل» هو بدوره موقع مجاني، إلا أنّ مدخوله في عام 2013 بلغ نحو 59 بليون دولار. هل يعلم المستخدمون كيف أصبحت هذه الخدمات المجانية والرائعة من بين أوّل عشر شركات متعدّدة الجنسية في العالم؟ نحن نعلم أنّ هذه الشركات تبيع إعلانات إلى المستخدمين. وهي تجني المال بهذه الطريقة. لكن بما أنّ خدماتها مجانية، لا يبالي المستخدمون بطرح المزيد من الأسئلة. وبات النقاش حول الخصوصية في العصر الرقمي متأخراً. كما نعلم أنّ الحكومات تستخدم الإمكانات الجديدة التي تتيحها الوسائل التكنولوجية الرقمية للتجسس على مواطنيها. وعلى رغم وجود معارضة واسعة في الولاياتالمتحدة وأوروبا لمحاولات الحكومة اختراق بصماتنا الرقمية، حوّلت الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 انتباه الرأي العام عنها. ففي 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2001، وبعد أيام على الهجمات المروّعة، أقرّ الكونغرس الأميركي القانون الوطني الشهير الذي سمح للحكومة الأميركية بالتجسّس على شبكة الإنترنت بكاملها، أيّ التجسس على المواطنين الأميركيين وسائر العالم بذريعة البحث عن الإرهاب. وتمّ استخدام الخوف من الإرهاب لنسف قوانين الخصوصية التي كانت تتمّ مناقشتها قبل أحداث الحادي عشر من أيلول. كان الناس في حينه مستعدين للتخلي عن خصوصيتهم مقابل الحصول على الأمن الموعود. وأعلن عدد كبير من الأشخاص حين سئلوا إن كانوا مستعدين لخسارة خصوصيتهم: «لا أملك شيئاً أخفيه عن الحكومة». وقبل أن ندخل في العصر الرقمي، لم يكن يحقّ للحكومات اختراق الشبكة الهاتفية الثابتة أو البحث عن بريدك الإلكتروني إلا في حال كانت تملك إذناً خاصاً من القاضي. وفي زمننا، لم نعد بحاجة إلى هذه الإجراءات الشكلية. فتقوم الوكالات الحكومية والشركات الخاصة بمراقبة اتصالاتنا وتسجيلها وتخزينها. لا تعمد شركة «آبل» أو «تويتر» أو «أمازون» إلى تخزين معلوماتنا فحسب، بل الأنماط التي ننشئها على الإنترنت والمصطلحات التي نبحث عنها والمنتجات التي نبيعها. وهي تقوم بذلك بطريقة رسمية بغية تحديث خدماتها، فيما تستخدم بطريقة غير رسمية المعلومات التي يحصل عليها المستخدم على شبكة الإنترنت لجني المال. وحين تتلاقى قواعد بيانات عدّة مع بعضها بعضاً مثل المعلومات المتعلقة بالبطاقة الائتمانية، تصبح «البيانات الوصفية» أو «بيانات البيانات» هائلة، إذ إنّ هذه الشركات تعرف معلومات أكثر منك عن أصدقائك أو أفراد عائلتك وتعرف أحياناً معلومات عنك أكثر منك. وسلّطت الاعترافات التي أدلى بها إدوارد سنودن عام 2013 ضوءاً جديداً على نطاق المراقبة التي تمارسها الوكالات الحكومية والشركات المتعدّدة الجنسية. وتحول سنودن الذي كان موظفاً سابقاً في وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية ومستشاراً لدى وكالة الأمن القومي في مجال تحليل أنظمة الكومبيوتر إلى مخبر حين ترك منصبه الذي كان يتقاضى مقابله أجراً مرتفعاً وتخلى عن حياة مرفّهة في هاواي للكشف عن نطاق برنامج المراقبة الذي تعتمده الحكومة الأميركية. لقد فرّ أولاً إلى هونغ كونغ حاملاً معه نحو 1.7 مليون ملف. وصنّفته الحكومة الأميركية «خائناً» ودانته بجرم «التجسّس». ومنذ ذلك الحين، حصل على «حق اللجوء الموقت» في روسيا. وشكّل المؤتمر الذي عُقد على مدى يومين في جامعة ويبستر في مدينة جنيف فرصة للتفكير في هذه الاعترافات. وحين تمّ جمع العناصر مع بعضها بعضاً، بدت الصورة المكتملة مخيفة. على رغم أنّ الشركات الرقمية المتعدّدة الجنسية تدّعي توخي «الانفتاح» و «الشفافية» و «التواصل»، إلا أنها تختبئ خلف ستار سميك. في الواقع تصدّر تجسس وكالة الأمن القومي على الأميركيين وعلى المواطنين الأجانب بما في ذلك التجسس على المحادثات الخاصة لرؤساء الدول المتحالفين مع الولايات المتحدّة، العناوين الرئيسة. إلا أنّ ذلك ليس سوى أوّل الغيث. فقد كشف سنودن كيف تعاونت الشركات المتعددة الجنسية مثل «غوغل» و «فايسبوك» و «آبل» و «سكايب» ومثيلاتها مع الحكومة الأميركية ومع حكومات أخرى في أمكنة أخرى لتسليمها محادثاتنا وبياناتنا الخاصة. كما علمنا أنّ وكالة الأمن القومي فرضت على كل هذه الشركات المساومة على أمنها وحمايتها ليكون النفاذ إلى البيانات أسهل. كان من المفترض أن تكون شبكة الإنترنت مجانية وأن تسهّل تبادل المعلومات والأفكار. كما كان من المفترض أن تكون قوة تحرير. لقد كانت كذلك، إلا أنّها سهّلت المراقبة عند مستويات غير مسبوقة. فتقوم الوكالات الحكومية مثل وكالة الأمن القومي والشركات المتعدّدة الجنسية التي توفّر محركات بحث وشبكات تواصل اجتماعي ومتصفحات إنترنت وحتى ألعاب فيديو، بالتجسس علينا. ولا تقوم باستخدام البيانات الأساسية الخاصة بنا فحسب (أي العمر والعناوين الإلكترونية)، بل عاداتنا حين ندخل إلى شبكة الإنترنت وبصمتنا الرقمية الكاملة. تخيّلوا عالماً من دون خصوصية. كيف يمكن إيجاد صحافة استقصائية في حين لا يمكن إخفاء مصادرنا عن الوكالات الحكومية أو محركات البحث؟ كيف سيتغيّر عمل الأطباء والمحامين في حين لم تعد اتصالاتهم مع مرضاهم وعملائهم خاصة؟ من الواضح أنّ الشركات الرقمية تزوّد الوكالات الحكومية بمعلوماتنا الخاصة. فقد برز عدد من الفضائح في هذا الإطار. بعد أن نشر سائح تغريدة على موقع «تويتر» يعلن فيها أنّه «جاهز هذا الأسبوع لإجراء حديث سريع قبل أن أذهب وأدمّر أميركا» اعتقلته الشرطة قبل أن يقلع من إرلندا باتجاه لوس أنجليس واحتجزته على مدى أيام قبل أن تطلق سراحه. وقبل عقد حفلة الزفاف الملكي في إنكلترا، تمّ اعتقال نحو 50 شخصاً لأنّ الشرطة اشتبهت في أنهم يفرضون خطراً على المراسم الرسمية للحفلة. لقد بتنا في زمن «جرائم الفكر» التي تحدّث عنها أورويل. والأكثر غرابة في قضية التجسس هذه هو ما اكتشفه مكتب التحقيقات الفيدرالي حين تجسس على البريد الإلكتروني الخاص بمدير وكالة الاستخبارات الأميركية الجنرال ديفيد بتريوس، إذ تبيّن أنه يقيم علاقة خارج الزواج مع كاتبة سيرته الذاتية بولا برودويل. وسرّب مكتب التحقيقات الفيدرالي هذه المعلومات، ما تسبّب بفضيحة كبيرة ودفع بتريوس إلى الاستقالة من وكالة الاستخبارات الأميركية. وتكشف اعترافات سنودن وفضيحة «ويكيليكس» التي أشارت إلى أنّ محلّل الاستخبارات في الجيش الأميركي برادلي مانينغ (الذي تحوّل إلى تشيلسي) حمّل آلاف الرسائل الديبلوماسية الأميركية، حقيقة أخرى تفيد بأنّ البيانات المكدّسة خلف جدران وكالة الأمن القومي ليست آمنة أبداً. ففي وسع ضابط متوسط الاطّلاع على أكثر المعلومات سرية. ما الذي سيحصل لو وقعت هذه البيانات بين أيادي «الأشخاص الخطأ»؟. وكأنّ التجسس التكنولوجي ليس كافياً، فقد أعلنت محكمة أميركية قرارها السماح لحرّاس الحدود الأميركية الطلب من المسافرين فتح حواسيبهم النقالة للاطلاع على البيانات الموجودة فيها. وكان يتمّ استخدام هذه الوسيلة في سورية حيث يتمّ إجبار أي شخص عند نقطة تفتيش على فتح حاسوبه أو هاتفه الذكي للاطلاع على حسابه على موقع «فايسبوك» وقد يواجه حكم الإعدام في حال كانت التعليقات مخالفة لرأي الجندي. وبالإشارة إلى المنصات الموجودة على شبكة الإنترنت، قالت البروفسورة ريبيكا جورجنسون: «يعتبر الجمهور أن هذه المنصات عامة، في حين أنها مجرّد شركات تجني أرباحاً». ولفت وليم دويل وهو صحافي محنك الى أنّ «إدوارد سنودن هو بطلي». ومن ثمّ، كرّر ما شدّد عليه سنودن في إحدى مقابلاته المتلفزة الأخيرة حين قال إنّ الأسوأ هو إن لم يحصل شيء بعد الاعترافات. هل حان الوقت كي يطالب الجمهور باستعادة الإنترنت؟ في الماضي، حين كانت الشركات تملك سلطة كبيرة وأصبحت احتكارية ساهمت قوانين مكافحة القيود غير المشروعة في تقسيم شركة «ستاندرد أويل» أو «إي تي أند تي» إلى شركات أصغر وأقل خطورة. ويمكن أن يكون هذا حلاً. أما الحل الآخر فهو إنشاء ظروف تسمح للمستخدمين بضبط المنصات التي تقوم بوظائف اجتماعية مثل محركات البحث والمتصفحات أو وسائل التواصل أمثال «ويكيبيديا» أو «ويكيليكس». قبل أي شيء، يجب إطلاق نقاش مهمّ حيث يتحمّل الرأي العام مسؤوليته من دون أن ينشغل بالعروض «المجانية» الأخرى. * كاتب وباحث مقيم في جنيف