كان تعاقب الفصول من أمور الطبيعة التي حيرت الانسان دائماً ودفعته الى التأمل. لدى الناس العاديين يتّخذ هذا التأمل سمات صامتة وإيماناً بأن ثمة وراء هذا الانتظام الكوني قوة ناظمة خارقة ليس من السهولة الوصول الى معرفة كنهها وغايتها. أما بالنسبة الى العلماء فإن له تفسيرات تتصل في غالب الأحيان بالإيمان الذي يعانقه بقية البشر، مع محاولة دائبة للتفسير العقلاني الذي لا يتناقض، في نهاية الأمر - وأيضاً في غالب الاحيان -، مع ذلك الإيمان. أما بالنسبة الى فريق ثالث من الناس، لا ينتمي الى عاديّي البشر، ولا الى صنف العلماء او الفلاسفة، فإن المسألة تصبح انتقالاً منطقياً من ملكوت التأمل والتفسير، الى ملكوت الإبداع. ومن هنا ما نلاحظه دائماً، وربما منذ أقدم عصور الوعي الانساني في بلاد الرافدين ومصر واليونان، من إبداع الفنانين والكتّاب أعمالاً ترتبط بتلك الفصول وتبدلاتها. والحقيقة ان هذه الأعمال هي من التعدد والتنوع بحيث يحتاج مجرد الإشارة الى عناوينها وأسماء مبدعيها صفحات وصفحات. كما انها من الجمال والجاذبية بحيث تبقى في أذهان الناس منذ لحظة إبداعها وحتى الى ما لا نهاية... وهي ازدهرت في الكتابة الشعرية وفي الموسيقى كما ازدهرت في الفن التشكيلي والروايات والمسرحيات وما الى ذلك. من الناحية الموسيقية يمكن القول دائماً إن قطعة فيفالدي الرائعة «الفصول الأربعة» تظل الأشهر وربما الأكثر بساطة وشعبية من بين كل الاعمال الموسيقية المتحدثة عن الفصول وتعاقبها، وهي غالباً ما شبّهت، من ناحية التنوّع والقوة بسلسلة اللوحات التي رسمها آرشمبولدو عن الفصول الأربعة، مستخدماً في رسم الوجوه «البشرية» المعبرة عنها فواكه كل فصل ونباتاته. والحال ان قطعة فيفالدي الرباعية طغت، شهرة، على كل ما عداها من أعمال موسيقية مشابهة، الى درجة أن واحداً من الأعمال الكبرى، حول هذا الموضوع، يبدو دائماً مظلوماً، هو الذي لا يقل قوة عن «فصول فيفالدي الأربعة»، حتى وإن كان يختلف من حيث التصنيف. ذلك انه اذا كان عمل فيفالدي اوركسترالياً، فإن العمل الذي نشير اليه هو من نوع «الاوراتوريو». والاوراتوريو للتذكير، هو عمل موسيقي غنائي يقوم على تلحين نص شعري يلقيه المغنون إلقاء من دون أي تمثيل درامي وهو يختلف عن الأوبرا في هذا. ولئن كان الاوراتوريو ارتبط دائماً بنوع من العمل الديني، فإنه اتخذ في أحيان كثيرة طابعاً دنيوياً. وتلك هي، في حالتنا هذه، سمة «الفصول» ذلك الاوراتوريو الكبير الذي لحنه فرانتز جوزف هايدن، في نهاية القرن الثامن عشر، ليقدم للمرة الأولى عام 1801 في فيينا. ولقد استند التلحين الى قصيدة طويلة في العنوان نفسه ترجمها البارون فان سويتن (الذي كان قبل ذلك قد اعد لهايدن نفسه النص الشعري الذي بنى عليه الاوراتوريو الآخر والأشهر « الخلق») عن قصيدة جيمس تومسون، مع اضافات وتعديلات تناسب الذوق النمسوي، مقابل اشتغال تومسون على قصيدته لتلائم ذوق مواطنيه الانكليز. منذ البداية لا بد من أن نشير الى ان هايدن نفسه، كان خلال السنوات الاخيرة من حياته يعتبر هذا الاوراتوريو من اعماله الضعيفة، وحجته في هذا انه لحّنه تحت ضغط، في وقت كان يعاني فيه من المرض. ولئن كان حديث هايدن عن ظروفه هذه صحيحاً (هو بالفعل سقط فريسة المرض المانع من العمل، بعد العرض الاول لهذا الاوراتوريو مباشرة)، فإن حكاية عدم حبه له، لا تبدو لنا مبررة. ولا بدت مبررة في ذلك الحين، يوم قدم الاوراتوريو للمرة الأولى فاستقبل، جماهيرياً ونقداً، بترحاب غير متوقع ما عوّض على ملحنه، معنوياً على الأقل، سنوات الجهد الطويلة التي انفقها فيه. طبعاً لسنا في حاجة ماسة هنا الى الحديث تفصيلياً عن «موضوع» هذا العمل، فهو وكما يدل عنوانه عمل يصف تعاقب الفصول وتبدلات الطقس من حولها، إضافة الى انه يربط عادات الحياة اليومية للناس، بذلك التعاقب. وهذا ما يعطي «الفصول» كما لحنها هايدن بعدها الدنيوي النادر. حتى وإن كان ثمة قبل لحظة الختام، شيء من التأمل الميتافيزيقي الصوفي غالباً حول معنى الحياة، ولحظة النهاية يوم ينفخ في البوق، وحياة ما بعد الموت. هنا يبدو الأمر وكأن هايدن بعدما سرد لحظات دنيوية شعبية واقعية، أراد في النهاية أن يسجل نوعاً من الوصية الوجودية. ويعزز هذا الاعتقاد الى المشاهد الختامية تلك كان فان سويتن هو الذي اضافها الى نص تومسون الشعري، الذي كان في الأصل دنيوياً خالصاً لا يحمل أي بعد ميتافيزيقي. يتألف اوراتوريو «الفصول» من أربعة أجزاء أساسية تتوزع على 44 قطعة مختلفة الأداء: من بينها ما هو اوركسترالي، وما هو عزف منفرد، من بينها ما هو غناء كورس جماعي، وما هو مؤدى من طريق أصوات فردية. وكأن الموسيقي أراد هنا ان يجرب كل الأنواع التي تنتمي الى فن «الليدر» انما في عمل شامل، حتى وإن كان من الظلم النظر الى هذا العمل الشامل على انه تجاور لأغنيات (ليدر) متنوعة. ذلك ان للعمل وحدته الموسيقية بعد كل شيء. في الجزء الأول من العمل وهو «الربيع» يبدأ السرد بافتتاحية أراد هايدن منها ان تكون تصويراً للعبور من فصل الشتاء الى فصل الربيع، ومن هنا نبدأ مع عاصفة تشمل عناصر الغضب الطبيعي التي سرعان ما تهمد بالتدريج ليعلو صوت مغن منفرد يعلن انتهاء فصل العواصف والزوابع، يتلوه كورس ينادي فصل الزهور والعبق الناعم بكلمات مغرقة في الرومانسية ولحن يبعث الامل والفرح في النفوس، ما يمهد لظهور فجر الفصل الجديد. ويرى كثر من المؤرخين ان هذا المقطع يعتبر من أكثر ألحان هايدن احتفالاً بالحياة. بعد «الربيع» يأتي «الصيف» حيث يتخذ اللحن طابعاً رعوياً واضحاً (ومن هنا ما يراه نقاد من أن لهذا الجزء من عمل هايدن تأثيراً بيناً على بيتهوفن يلوح بخاصة في الحركة الثالثة من سيمفونية بيتهوفن – الرعوية - السادسة، تماماً كما ان تصوير العاصفة عند مفتتح «الربيع» ثم في الجزء الرابع «الشتاء»، سنجد آثاراً له في ثنايا الحركة الرابعة من نفس هذه السيمفونية لبيتهوفن). وهكذا على التوالي، يحرك هايدن موسيقاه، في تتابع بين مختلف وسائل الأداء الموسيقية والصوتية، عبر الفصلين التاليين، «الخريف» و «الشتاء» لتكتمل في النهاية صورة عميقة لإحساس الانسان بتبدلات الطبيعة وحتى بنزواتها. غير ان هايدن لم يكتف بهذا... أي لم يكتف بأن تكون العلاقة في هذا العمل، بين الطبيعة والانسان فقط، بل نراه في واحدة من لحظات القوة يقدم أنشودة، صوتية ووترية في الوقت نفسه، تحية لما يسميه «الآلة» (أو «الصناعة» بحسب بعض الترجمات)، حيث نجد كلام النشيد يقول: «ان الأكواخ التي تأوينا/ والصوف الذي يغطينا/ والطعام الذي يغذينا/ كله هبة، عطية منك ايتها الآلة النبيلة». ولسوف يقول هايدن حين يُسأل عن مغزى حضور الآلة في هذا العمل، انه هو نفسه كان دائماً من أنصار العصر الصناعي، بيد انه لم يقيض له قبل ذلك ان يعبّر عن هذا في أيّ من ألحانه، وما كان في إمكانه ان ينهي حياته من دون ان يفعل. عندما قدم هذا العمل في فيينا للمرة الأولى عام 1801، كان هايدن يقترب من السبعين من عمره، هو الذي ولد عام 1732 وسيرحل عام 1809. كما انه كان قد حرّر نفسه من سطوة تأثير أسرة أمراء استرهازي، التي أمضى جل سنوات عمره وانتاجه الفني الكبير تحت رعايتها. ونعرف ان هايدن الذي سيكون له تأثير كبير على معظم موسيقيي الأجيال التالية له، كان يلقب ب «الأب الشرعي للسيمفونية» و «الأب الشرعي للرباعيات الوترية»، حتى وإن كنا نعرف ان إنتاجه كان شديد التنوع وغزيراً الى درجة مدهشة، متراوحاً بين سيمفونيات عدة وسوناتات وأوبرات وأوراتوريو ناهيك بالرباعيات الوترية وضروب الكونشرتو. ولقد عاش هايدن معظم سنوات حياته وانتاجه الخصب في النمسا وتحديداً في فيينا. وبقي ان نذكر أخيراً ان لهايدن اخاً موسيقياً مثله هو ميشال هايدن ما يسبب خلطاً في الأذهان بين الاثنين حتى وإن كان معروفاً ان الاخير يقل موهبة عن اخيه بدرجات. [email protected]