«حفلة الجنون» على الطريقة اللبنانية أكدت مرة جديدة كيف أن الوضع بإمكانه أن ينتقل من حال إلى حال بلحظات خاطفة. وتعبير «حفلة الجنون» هو لرئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد الذي اختصر الوضع بهذا التوصيف، وتوقع المزيد من التفجرات في السياق نفسه. وبالعودة قليلاً إلى الوراء نتذكر كيف أن رئيس الحكومة سعد الحريري فاجأ الجميع من أنصاره والمقربين وسائر الأطراف اللبنانية باعترافه بوجود «شهود زور» شوهوا قضية اغتيال والده، كما أنه أعلن أن كل التهم التي وجهها إلى سورية في هذا المجال كانت «اتهامات سياسية». توقع أن تلقى تصريحاته أصداء إيجابية. لكن المفاجأة كانت في تحفظ أوساط المعارضة على هذه التصريحات، وبدا وكأن رئيس الحكومة مطالب بتقديم المزيد من «التنازلات». وبقطع النظر عن «حادثة استقبال اللواء جميل السيد في مطار بيروت» وما رافقها من ضجيج وإثارة بين معارض ومدافع، يستقر الوضع اللبناني موقتاً على مجموعة معطيات هي التي ستتحكم بواقعه للأسابيع والشهور المقبلة: 1- بقطع النظر عن الهدنة الهشة التي تم التوصل إليها فأن ما قيل قد قيل، وهو الذي كشف عن خطورة الشعارات المذهبية والطائفية التي أطلقت من هنا ومن هناك، الأمر الذي يجعل استعادة «اللحمة بين مختلف الفصائل اللبنانية» وكأنه ضرب من المستحيل. 2- يقف الوضع بين مواصلة المحكمة الدولية لعملها للكشف عن قتلة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، والمطالبة بإلغائها. 3- آخر العائدين من دمشق كان رئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية الذي دعا إلى إلغاء المحكمة الدولية محذراً من حرب سُيشعلها صدور القرار الظني. لكن الرئيس الحريري رد على هذه الدعوة برفض المساومة على المحكمة ومقارنة «اعتقال الضباط الأربعة لأربع سنوات» بقضية اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه. الأمر الذي يؤكد من جديد أن الوضع يتراوح بين محاكمة المحكمة، بخاصة بعد الاعتراف بوجود شهود زور، مقابل الإصرار عليها. أما القرار الظني المنتظر بترقب شديد فليس هناك من موعد محدد لصدوره، لكن التسريبات تتحدث عن شهر كانون الأول (ديسمبر) المقبل، أو ربما تم التأجيل إلى شهر آذار (مارس) من العام المقبل 2011. 4- في هذا السياق بالذات طرح السفير الفرنسي في بيروت دوني بييتون عرضاً للتسوية يقوم على الآتي: «حتى لو تضمن القرار الظني اتهاماً لعناصر من «حزب الله» فهذا الأمر لن يكون نهاية العالم». وكّرر السفير الفرنسي موقف بلاده الداعم للمحكمة الدولية مؤكداً: «هناك صعوبة تقرب من الاستحالة في وقف المحكمة»، وهذه «رسالة تطمينية» ل «حزب الله» حيث يقول السفير: «إن فرنسا سوف تتعاطى مع الموضوع كما هو: إن للحزب موقعه ومكانته في الداخل اللبناني من خلال حضوره النيابي والوزاري ولن يكون هناك أي اتهام ل «حزب الله» في حال حصل مثل هذا الاتهام، وليس لفرنسا أي اتجاه إلى إدراج «حزب الله» على لائحة المنظمات الإرهابية». ولعل هذا الاقتراح الفرنسي يشكل مخرجاً لتبريد الأزمة ولو بصورة موقتة خشية انهيار الوضع الداخلي في لبنان من جديد، على رغم أن الرئيس نبيه بري اعتبر أن هذه التصريحات تثير المخاوف. 5- هذه الضجة التي تقودها جماعات «حزب الله» والأطراف المتحالفة من قوى الثامن من آذار تبدو وكأنها تحركات استباقية لما سيصدر في القرار الظني – حتى قبل صدوره عملياً - فكيف سيكون عليه الوضع بعد صدوره؟ 6- مرة جديدة يؤكد اللبنانيون فشلهم في حكم الذات، وإن دعوة الخارج للشأن الداخلي اللبناني باتت ضرورية لمساعدة الأطراف على اختلافها للعمل على أن تسود دولة القانون والمؤسسات من جديد، وإن لا أحد أكبر من الدولة، علماً بأن السجالات الطائفية والمذهبية اتخذت هذه المرة المنحى الخطير وغير المسبوق بهذه الحدة حتى مع اندلاع الحروب الأهلية المتعاقبة على لبنان منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي. 7- تمكن مجلس الوزراء بديبلوماسية الرئيس ميشال سليمان وقدرة استيعاب الرئيس سعد الحريري من احتواء الأزمة ولو موقتاً. وهذه الهدنة باتت مطلوبة لأكثر من اعتبار، منها: سفر رئيس الجمهورية إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، إضافة إلى ذلك يستعد لبنان لاستضافة الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد في 13 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، وهذه الزيارة ستثير ضجة كبيرة بين مؤيد ومعارض، بخاصة لجهة البرنامج الذي يعد له لقضاء اليوم الثاني من زيارته في جنوب لبنان، وعلى مقربة من بوابة فاطمة المتاخمة للحدود مع إسرائيل. 8- يتساءل المراقب: هل إن ما يحدث هو صراع على الدولة؟ أم على السلطة؟ أم على النفوذ؟ وفي هذا السياق التصعيدي يقول «حزب الله» عبر أحد نوابه السيد حسن فضل الله... «إن الخطاب الفئوي لم يعد له من هدف سوى تسميم المناخ الوطني بكل ما يعنيه ذلك من ضرب للوحدة الوطنية وزعزعة الاستقرار وإثارة الفتنة». ويضيف في كلام لافت: «لقد فات هذا الفريق أن المعادلة تغيرت ولم يعد مسموحاً التسلط على الدولة والاستيلاء على قرارها لأننا حاضرون للدفاع عنها وما قمنا به هو التصرف المسؤول والطبيعي لإنقاذ مؤسساتها لتبقى في خدمة جميع اللبنانيين». والسؤال: ماذا يعني تغيير «قواعد اللعبة» وكيف سيتم التعبير عن ذلك من جانب «حزب الله» وحلفائه؟ وخدع اللبنانيون أنفسهم إذا اعتقدوا أن الأمور عادت إلى طبيعتها. وربما تم التركيز على ضرورة عدم التصعيد أكثر لأنه ليس من مصلحة أحد تفجير الوضع الداخلي في هذا التوقيت بالذات. 9- من منطلق تداخل الوضع اللبناني بالواقع الإقليمي لا بد من متابعة ما ستؤول إليه المفاوضات على المسار الفلسطيني – الإسرائيلي. وقد أعلن الرئيس باراك أوباما في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أنه يتوقع ولادة دولة فلسطينية مستقلة «خلال عام تأخذ موقعها في الأممالمتحدة». ولوحظت مقاطعة الوفد الإسرائيلي لخطاب أوباما، إضافة إلى أن المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي تمر في مرحلة بالغة الدقة، ويجري تصوير الوضع على أنه «الفرصة التاريخية التي لا يمكن أن تتكرر وعلى الجانبين الإفادة منها». ولا تزال عقدة الاستيطان واحدة من العقد الكثيرة التي تحتاج إلى حل. يضاف إلى ذلك أن المفاوضات التي جرت في نيويورك بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي انتهت إلى فشل بسبب إصرار الجانب الإسرائيلي على استخدام تعبير «شعبان في دولة»، وهذا يتلاقى مباشرة مع التوجه الإسرائيلي لانتزاع صفة «الدولة اليهودية» الأمر الذي يعني تجريد الفلسطينيين من حق العودة بصورة نهائية إضافة إلى شؤون أخرى. وفي سياق تلازم الواقع اللبناني مع الواقع الإقليمي تجب الإشارة إلى أن لبنان دفع أثمان عقد أول سلام عربي- إسرائيلي في كمب ديفيد، وما يخشى منه أن تتجدد هذه المعطيات مع مسار المفاوضات الجارية في المنطقة، باعتبار أن لبنان هو الحلقة الأضعف في كل المعادلات. لكن على الأطراف الداخلية على اختلافها أن تدرك حراجة الوضع ودقته، وأن الخطأ في قراءَة مستجدات المنطقة قد يعرضه لمزيد من الحروب الأهلية من نوع آخر. فهل من يعمل على استخدام العقل بدل اللغة الغرائزية الطائفية والمذهبية التي عصفت بالوطن الصغير والتي تشكل الخطر الدائم والداهم عليه؟ ولا بد من الحديث عما يجري في الجنوب اللبناني وما يتصل بقوات «اليونيفيل». وفي هذا السياق أعرب وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير عن «قلق بلاده الشديد» لما يجري بخاصة لجهة أمن القوات الفرنسية العاملة ضمن «اليونيفيل». وعلمت «الحياة» أن قيادة قوات «اليونيفيل» أعدت خططاً للإجلاء في شكل سريع إذا تطورت الأمور على الساحة اللبنانية بما يشكل خطراً على أمن هذه القوات. كان لبنان المثال الذي يقتدى به من حيث التعايش بين ثمانية عشر طائفة بتناغم وتفاهم، لكن هذه النعمة تحولت إلى نقمة، وكل كلام عكس ذلك يبقى من قبيل المجاملة وتجميل التناقضات التي اجتمعت على أرضه، ولبنان الذي عرفته الأجيال السابقة لم يعد قائماً إلا في قصائد الشعر والأغاني. هذا كلام يبعث على التشاؤم لكنه الحقيقة المرة التي على لبنان أن يواجهها بصيغ أخرى تحفظ العيش المشترك والسلم الأهلي بأكثر من الشعارات التي سقطت جميعها في كل إعصار سياسي ووطني وطائفي ومذهبي يعصف بالوطن الصغير. والمعادلة الجديدة هي كالتالي: المحكمة الدولية وقرارها الظني المرتقب أو السقوط في الفتنة المذهبية. فهل يمكن استدراك المخاطر أم أن ما كتب قد كتب في شأن المحكمة الدولية؟ هذه أزمة تفوق قدرة لبنان على تحملها ولا بد للحاضنة الإقليمية (السعودية والسورية) التحرك السريع قبل فوات الأوان. * كاتب وإعلامي لبناني [email protected]