في كل عودة إلى جدة بعد انقطاع تفاجئني أجواء المدينة وأوضاعها بالكثير من علامات الاستفهام، ليس ذلك بالطبع غريباً، فكل من جرّب الحياة في مدينة متقدمة يشعر بالشعور نفسه، المقارنة واردة بالتأكيد وليست في العادة في مصلحة جدة. حيث أعيش في الولاياتالمتحدة تبدو الحياة أكثر سلاسة وتنظيماً بمراحل، على رغم صغر المدينة الأميركية وقلة موازنتها، وضآلة عدد المسؤولين في بلديتها عن جدة بمراحل كبيرة. المرور والأماكن العامة كمثال أوضح للعيان لا يمكن أن يمثلا مشكلة في مدينة لا يتعدى عدد قاطنيها 200 ألف. ومع ذلك ولأسباب تتعلق بحماية البيئة وتيسير الحياة تجري الترتيبات على قدم وساق لتشغيل «المونوريل»، وهو نظام اقتصادي للقطارات الخفيفة يتم تركيبه في شوارع المدينة نفسها في جانب الطريق بحجمه الانسيابي الصغير وسرعته الفائفة للحد من استخدام المركبات الملوثة للبيئة ولحل الاختناقات المرورية، هذا مع أن المدينة تملك نظاماً مدعماً للباصات والتنقل على مدار خطوط العمل حول «المونوريل» تتراص لوحات الإرشاد والتوجيه للمخارج الجديدة والإشارات القادمة بمسافة كافية قبلها، ولا يتم شق طريق الا بعد الانتهاء مما قبله حتى لا تختنق شوارع المدينة الصغيرة كلها في وقت واحد، في المدينة الصغيرة تتواجد جراجات ومواقف للسيارات عمومية أنشأتها البلدية في كل مناطق الازدحام مجاناً أو برسوم رمزية، وتتواجد أماكن المشاة المناسبة للعبور والمشي من مكان لآخر، العمال يرتدون خوذاتهم الواقية ويعمل جزء منهم في تيسير حركة المركبات القريبة من مكان الحفريات والعمل، مخالفة السرعة في مكان به أعمال طرق مكلفة تجعل العابرين يفكرون ألف مرة حفاظاً على سلامة العمال. في كل حي حديقة تتبع البلدية تضم أماكن للعب الأطفال وأماكن للتنزه والاجتماع، تستطيع الوصول إلى البلدية بإداراتها المختلفة عبر موقع إلكتروني ميسر لدفع الفواتير وطلب الخدمات والرخص وفي جدة ذات الثلاثة ملايين نسمة خلاف الزوار والمقيمين بصورة نظامية أو غير نظامية، فاجأني الاختناق المروري وحجم أعمال الطرقات المهول، شقوق بحجم الطريق كله تقريباً تخترق الشوارع الرئيسية في الوقت نفسه وتنفي المركبات بأنواعها إلى قارعة الطريق في موقف لا يصبح معه ممكناً أن تكون هناك حارات محددة للسيارات، فتتسابق المركبات بأنواعها شاحنات كانت أو سيارات صغيرة أو حتى دبابات هوائية في صنع حارات متعرجة قابلة للاصطدام في كل لحظة، تتلحف شقوق شوارع جدة بشبك معدني رديء تتعلق فوقه مصابيح كهربائية منزلية ضعيفة الإضاءة تدل على قيمة العقد المبرم مع المقاول المسؤول عن التنفيذ، يختفي عمال الطرق في معظم الأوقات أو يظهرون فجأة بملابسهم المتهالكة وعظامهم النافرة وجلودهم المحترقة بلا أي معدات واقية وهم يخترقون الشوارع فجأة من مقر عمل للآخر، لا توجد لوحات تنبيهية سوى مربعات رديئة متهالكة ملصقة على الشبك المتهالك في العتمة، لا يمكن أن تعرف أين ينتهي الشق أو متى يمكنك النفاذ إلى مخرج ما سوى في ما ندر، يصبح الاجتهاد في تقدير الطريق واتجاهك هو سيد الموقف، الميادين التي كانت تهدف إلى تيسير المرور أصبحت شركاً تتقاطع فيه المركبات في كل الاتجاهات بجنون لا توقفه سوى سيارة دورية مختبئة في ركن من الطريق أو مخرج يفاجئ السائقين قبل دقائق من اصطدامهم بها. لا يزال الباعة الجائلون والشحاذون من الأطفال والنساء يرومون الشوارع المشقوقة ويسيرون بحرفية بين المركبات التي تناور كل شيء من الأقدام والشاحنات والشقوق والسقوط الحتمي للمركبات المجاورة أمامها أو إلى جوارها، المواقف العشوائية في شوارع الخدمات تصنع كابوساً آخر تصطف فيه السيارات في أدوار متتالية أمام المحال المختنقة، ولا يدري سائقو المركبات على الطريق أي سيارة ستقرر فجأة الانطلاق من مكمنها في الموقف إلى الشارع وأي تقدير خاطئ في ظل هذه الفوضى من المعلومات الغامضة سيجعلهم ضحايا حادثة غير متوقعة، هل من الأخلاقي والمنطقي إذاً فرض رسوم على المخالفات المرورية في شوارع وطرقات لا تسمح بالقيادة الآمنة؟ لا يجد أهالي جدة متنفساً لهم ولا شيئاً ميسراً في مدينتهم المكتظة التي أصبحت تعمل فوق طاقتها الاستيعابية بمراحل كبيرة بداية من شوارعها ونهاية بمرافقها العامة، لا يمكن تجاهل واقع المدينة ولا يمكن تجاهل مظاهر الإهمال في منشآت جدة وشوارعها في إصدار أي حكم على بلديتها وأسلوب عملها، الوضع الذي تتعرض له المدينة يؤلمني لأن المزيد من الضغط السكاني الموقت والدائم على مرافقها مقبل لا محالة ليستنزف كل الإمكانات الضئيلة أساساً للمدينة والتي لا يعادلها أي إدراك في بلدية جدة لمتطلبات سكانها، بين الشوارع الممتلئة بالمطبات والحفر وأعمال الطريق والمركبات المتنافسة على مسار ما لا أستطيع سوى تذكر الطرق النظيفة والمهيأة للسير وللقيادة في المدينة الأميركية. لا أستطيع أمام هذه الفوضى والفرص المتعددة لحدوث الكوارث سوى أن أتأمل فشل العامة وعدم التزامهم هنا بتطبيق مبادئ بسيطة للسلامة كارتداء أحزمة الأمان الذي يعد روتيناً لا يهمله أحد في الخارج، لا ألوم الناس حقاً فأمام كل تلك الفوضى لا يمكن تذكر السلامة ولو بأبسط الأمور، أعود إلى جدة فأتذكر المقولة المأثورة «بلا نظام لا يمكن أن يتواجد شيء، وفي الفوضى يمكن أن يتواجد أي شيء وكل شيء». كاتبة سعودية - طالبة دراسات عليا في امريكا. [email protected]