تطور الشعر العربي. هذا أمر معروف. وارتبط تطوره في التاريخ الشعري العربي بمقدمات اجتماعية وفكرية وثقافية ميزت مراحل متعددة من مراحل تطوره، وهي مراحل معروفة في كتب تاريخ الأدب العربي، ومدروسة بشكل مقبول من نقاد عرب قدماء وحديثين. غير أن «الذوق» من حيث هو قبول التطور في الشعر العربي لم يخضع لما يستحق من دراسات، ذلك أن تغيراً ما في شكل الشعر لا بد من أن يصاحبه تغيّر في الذوق، ولا يتأتى خلق ذوق شعري جديد إلا بشكل شعري جديد، أي وجوب تغيير بنية الشكل الشعري ذاتها. يعبّر الشاعر التركي البديع أورهان ولي في مقدمة «غريب» عن مبررات تغيير البنية من أساسها، بأن الشعراء والنقاد وقراء الشعر مضطرون لأن يتخلصوا من الآداب التي تحكمت في أذواقهم وإرادتهم، وحدّدتهم وشكلتهم ليتحرروا من تأثيرها الممل. وأكثر من ذلك لو أمكنهم أن يرموا اللغة التي تهدد الشكل الجديد - فاعلية الإبداع الجديدة عند الشاعر والناقد والقارئ - التي تدفعهم إلى يفكروا بكلمات معينة حين يكتبون الشعر أو يقرأونه، لتخلصوا مما تجر إليه العادة. من هذا المنظور، فإن مأزق الشعر حين يكون التطوّر محصوراً في إدخال «حملة فنية» في أشكال شعرية معروفة. ما الحل إذاً؟ أن يُنتج الشعر من مفهوم شعري مختلف، أي أن الانعطاف الشعري - إن صح هذا التعبير - يكون بتجاوز «الوعظ الشعري» الذي يظهر في شكل العرف الشعري المألوف. الأخطر من هذا أن الحملة الفنية في شكل شعري مألوف ومعروف ربما تخدع النقاد، فيمجدون الحملة الفنية باعتبارها شكلاً شعرياً جديداً، وهي في الحقيقة ليست أكثر من «مسحوق» يغطي ندوب وترهلات وتغضّن وتشقّق واستهلاك الشكل الشعري. *** ترى.. ما مناسبة هذا الكلام؟ معاناة الشعر السعودي في ثمانينات القرن الماضي مع الحملة الفنية في شكل شعري هو قصيدة التفعيلة، وهي الحملة التي بلغت ذروتها مع الثبيتي إلى حد يمكنني أن أقول إنها تحولت إلى عبء، وأصبحت ما لا يمكن تبديله في هذا الشكل المعروف والمألوف. لا يفكر أحد من القراء أنني أطعن في شعرية محمد الثبيتي. أنا أقرأ الثبيتي وسأحتفظ برأيي الشخصي بعد هذه المسافة من الزمن. بالفعل هو شاعر. لكن آمل ألا تؤخذ استعاراته وغنى خياله وغنائيته على أنها انعطافة في الشعر السعودي، بقدر ما هي حقن في شكل شعري معروف. من هذه الزاوية فأنا أدقّق - من وجهة شخصية - شعريّة الثبيتي في كونه لا يمثل انعطافه من المنظور الذي شرحته، ذلك أن جهده الشعري تركز في حملته الفنية في شكل قصيدة التفعيلة، إذ قاد هذا الشكل الشعري إلى كماله، ومثّل من هذه الزاوية تحديداً شاعر من الشعراء الذين يستند إليهم مصير شكل من الأشكال الإبداعية على امتداد تاريخه وليس إلى راهنه. لا يقلّل هذا من شاعرية الثبيتي، ولا يطعن فيها إنما يحيّيها. ومهما قيل عن وصفات الإبداع، ونصائح المهارة التي رافقت شعره من نقاد الثمانينات، إلا أن المؤكد أن الثبيتي لم يستفد منها. أقول «مؤكد» لأن الشعر لا يأتي بالنصح والمساعدة، ولا يوجد سوى اقتراح واحد، وهو أن يتوغل الشاعر في ذاته، وأن يبحث عن الحاجة التي تدفع بجذورها في أعماق قلبه كما هي وصية راينر ماريا ريلكه في رسائله إلى شاعر شاب، ذلك أن الوصفات لا تنفع. *** غير أن ما يثير الانتباه أن أقل نقاد الثمانينات كتابة عن شعر محمد الثبيتي هو عبدالله الغذامي، وهي قلة تستدعي التساؤل على افتراض أن الغذامي يتذوق شعر الثبيتي بحسب التصنيف ناقد حداثي وشاعر حداثي، فما الذي جعل الغذامي مقلّاً جداً في الكتابة عن تجربة الثبيتي الشعرية، مقارنة مع نقاد آخرين مجايلين له كالسر يحي مثلاً؟ في رأيي أن مشكلة الغذامي تكمن في ذائقته، ذلك أنها تكوّنت من دراسة نصوص كبرى - مؤسسة - أي تلك النصوص التي تعود إلى العصور الكلاسيكية، والتي شكلت المواضيع الرئيسة في الثقافة العربية الإسلامية. لقد تكون وسط مجتمع تقليدي، وتشرّب نصوصاً تقليدية، وامتلك قدراً كبيراً من المعلومات، واستخدم نظم المجتمع التقليدي وفهمها. قرأ نصوصه المؤسسة، وبنى عليها تصورات عملية تتعلق بمجالات ثلاثة: الأول مجال الأشياء الطبيعية، إذ كون تصوراً عن المادة، والثاني هو مجال الكائنات الحية إذ كوّن تصوراً عن الحياة، والثالث مجال الكائنات الإنسانية، إذ كون تصورات تتعلق بالعقل والجسد والنفس. وحينما انفتح على نصوص الحداثة التي تبلغ قمتها في شعر الثبيتي لم يتمكن من أن يعيد بناء تصوراته، ولا أن يشكل معرفة جديدة من خلال تفسير خبرته الجديدة في سياق معرفته وخبراته وصوره الذهنية القديمة أو العكس. لم يعد بناء المفاهيم والأنماط والنصوص التي تمثلها أثناء تكوينه العلمي، ولم يستطيع محوها. لم يشكل علاقات بين المفاهيم الجديدة وتلك القديمة، ولم يربط خبراته الجديدة بخبراته الموجودة مسبقاً، ولم يطور تطبيقات للمعرفة الجديدة. يتضح هذا جلياً في اختياراته النصوص في كتبه المطبوعة. أكتفي هنا بأنه لم يجد عند محمود درويش إلا قصيدة «عابرون في كلام عابر»، وهي قصيدة تحمل مضموناً آيديولوجياً أثقلها إلى حد أنني أذهب إلى أنها من أضعف قصائد محمود درويش. إنني أضحك الآن على ما قرأته آنذاك بمتعة وإعجاب. كتب الغذامي: «ولقد كان يقلقني انتهاء قصيدة (عابرون في كلام عابر) بعلامات تعجّب، لأنني كنت أريد من شعر المقاومة أن يكون شعراً للعمل، وأن تكون الكلمة فيه كلمة الفعل، ومن هنا فلا مكان للتعجب. إن التعجب يخلخل قداسة الكلمة، ويفسد علاقتها بالشفاه، ولم أزل على تلك الحال من الحيرة إلى أن صارت الانتفاضة المباركة، حيث عدت إلى هذا النص لأفهمه ولأفهم منه محمود درويش». * ناقد وروائى سعودي.