في كتابه المثير «رحلة الأمير التائه من مدينة بيشاور إلى طنجة المغربية» الذي يتحدث فيه الصحافي المغربي إدريس الكنبوري عن أحد الشبان المعتقلين على ذمة قضايا الإرهاب والارتباط بتنظيم القاعدة، واسمه روبير ريشار أنطوان أو «أمير» كما هو لقبه الحركي، الذي حكم عليه بالسجن المؤبد كان اللافت للانتباه أن هذا الشاب الفرنسي النشأة والثقافة، والذي لا يتحدث العربية كان كثير الذكر لمسألة (الولاء والبراء) كأحد المحفزات الفكرية التي جعلته يؤمن بأفكار التطرف وفق منظومة القاعدة الأيديولوجية. هذا المثال المفزع لشاب هجر ما نشأ عليه لينتقل وهو عقل خام إلى منظومة فكرية جديدة ومغايرة يعيد إلى الأذهان السؤال القديم الجديد حول خطورة التوظيف الأيديولوجي للأفكار الدينية في الحرب الفوضوية التي تقودها جماعات التطرف مستعينة بماكينة ضخمة من الإعلام المرئي والمكتوب والمنشور على شبكة الإنترنت. مثل هذا الاستقطاب بأفكار مفخخة استلهمت بعض الأطروحات المغالية في التراث هو الملف الأكثر غموضاً وسرية عند من يقارب الخطوط العريضة لعقل التكفير والتفجير. في حلقة الأمس من برنامج همومنا على شاشة التلفزيون السعودي، خيوط دقيقة تقود إلى الصورة الكبيرة من ملف المفاهيم المغلوطة التي يتداولها المتطرفون ويحاججون بها مخالفيهم. تطبيقات مغلوطة في البدء ناقش عضو هيئة التدريس في جامعة أم القرى الدكتور عبدالعزيز الحميدي بذهنية ثاقبة مسألة مهمة جداً في مثل هذه الملفات الشائكة، ألا وهي مسألة التطبيقات والمقصود بها أن كثيراً من المسائل الشرعية الفقهية المتخصصة التي يساجل فيها الغلاة من دون خلفية شرعية كافية لا يهم الحوار النظري فيها بقدر أن التطبيقات على الواقع وتنزيل تلك الأحكام أو القراءات للنصوص الأصلية على الواقع هو «بيت القصيد» كما يقال. على سبيل المثال ناقش الدكتور الحميدي التعارض بين مسألة الولاء والبراء وبين مسألة العقود التي تعطى لأهل الذمة في البلاد الإسلامية. النظرة الشمولية في البدء تطرق الحميدي إلى مسألة مهمة تتضمن أن مسائل الشريعة الإسلامية جاءت لتكون صالحة للتطبيق في واقعنا المعاصر، فلا يمكن الادعاء بأن عقود الأمان التي تعطى لغير المسلمين من الأفراد والدول يمكن أن تخص العهد النبوي إلا أن المشكلة أن فهم الكثير من غير المتخصصين أو «الراسخين في العلم» لبعض القضايا المعاصرة قد يكون هو المشكلة وليس الأصل الشرعي الذي بنيت عليه تلك المسائل، مستشهداً بنص مهم للإمام الشافعي الذي نصّ على أن القضايا الكلية التي تتعلق بمصائر الأمة ومصالحها الكبار لا يستقل نصٌ واحدٌ أو دليلٌ واحدٌ بتأسيسها وفروعها ونتائجها من كل جهة، فمن الخطأ أن تبنى القضية الكلية على دليل جزئي أو فرعي أو واقعة عين أو صغره حال دون النظر إلى بقية الاستثناءات وبقية المخصصات وبقية النصوص الأخرى التي تؤصل لأحكام هي لا تقدح في الأصل ولا تلغيه، ولكنها تكمله وتبينه وتحقق المصلحة الكبرى للأمة في مجموعها. القضايا الكبرى وبناء على تأصيل الإمام الشافعي الذي يدل على بعد نظر يتقرر وفقاً لعضو هيئة التدريس في جامعة أم القرى، أن قضية (الولاء والبراء) من القضايا الكبرى والمسائل الشرعية العظيمة التي بني عليها الفكر الإسلامي، لأنها تؤصل للعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، ولذا فإن تحقيق الفقهاء لها لم يأتِ من تلقاء أنفسهم أو بناء على مصلحة وقتية عابرة تخص زمنهم، بل إن كلامهم وتقعيدهم للأصول المختصة بهذه المسائل جاء بناء على أدلة شرعية منصوص عليها ومارسها النبي - صلى الله عليه وسلم - تطبيقاً عملياً، كما طبقها الخلفاء الراشدون وأئمة المسلمين في ذلك الوقت. حق الذمة يتابع الحميدي تأصيله لمسألة عقود الذمة التي تمنح لغير المسلمين، ليؤكد أن عقد الذمة هو حق مخصوص يمكن أن يمارسه كل مسلم وأن يمنحه لغيره، فكل مسلم يملك أن يعطي ذمته وعهده وتأمينه، والذمة كما يعبّر عنها الفقهاء هي الذمة التي تعني تأمين المسلم لغير المسلم على دمه بالدرجة الأولى، وعلى ماله وعلى عرضه حال دخوله في بلاد المسلمين التي يحكمها المسلمون ويقيمون فيها. وبالتالي فإن مثل هذا العقد الشرعي المخصوص والمحمي بقداسة النصوص الشرعية التي دلت عليه روعي فيه في الجانب الشرعي قضية المصالح الكبرى، لأن المسلمين يحتاجون في حكوماتهم وفي أفرادهم وتجارتهم ومعاشهم إلى الاتصال بالعالم والاتصال بالأمم الأخرى مسلمها وكافرها بارها وفاجرها ليأخذوا ما يرونه صالحاً لهم وما يقيمُ أمورهم وما يؤمنُ حدودهم وما يراعي مصالحهم التجارية والمالية. المصالح الكبرى من جهة أخرى يؤكد عضو هيئة التدريس في جامعة أم القرى، في حديثه المؤصل عن عقد الذمة باعتباره من العقود المحمية بدلالات النصوص الشرعية التي جاءت لتأكيده لا يخص الجانب الشخصي فحسب، بل إن القضايا الكبرى التي تخص الأمة المسلمة تندرج تحته أو ما يسمى بمصالح الأمة الكبار كقضايا السلم مثلاً والحرب والعلاقات الكبرى التي تتعلق عليها مصائر الشعوب ومصائر المجتمعات، فهذه لا يستقل بها أفراد ولا من المسلمين بقدر ما يستقل بذمتهم الخاصة في تحقيق مصالحهم الخاصة، وإنما تحتاج وتتوقف على قرار الحاكم الشرعي ولي الأمر القائم على هذا المجتمع أو ذلك البلد أو تلك الدولة بما يراهُ محققاً لمصالح بلده مؤمناً لحدوده، مؤمناً لأفراده ورعاياه التابعين لهُ ليؤمنوا على أنفسهم حال تجولهم في الأرض وانطلاقهم، إذ لا بد من عقود مشتركة، لا بد من عهود متبادلة، لا بد من ذمام مرعية من الطرفين وهذا ما يسمى بعقد الذمة. علاقات مستقرة مسألة العقود الكبرى هي التي تكفل من وجهة نظر الحميدي العلاقات السليمة والمناخ الصحي بين الدول في عالمنا المعاصر، وهو الأمر الذي تسبب في الاستقرار السياسي في الفترات التاريخية السابقة للمسلمين، فلولا الالتزام بمضامين هذه العقود المبنية على المصلحة لما تمكّن المسلمون من أن يرحلوا هنا وهناك ويضربوا في مناكب الأرض ويخالطوا غيرهم، فبالتالي في مصالح حتى كبرى، يتعرف غير المسلمين على المسلمين من خلال معاملاتهم وأخلاقهم، والمقصود الأصلي بذلك حفظ دماء المسلمين وأعراضهم وممتلكاتهم بعقد معاملة تقابلية في مقابل ما يحفظونه من مصالح الأمم الأخرى غير المسلمة حال أيضاً دخولهم وتجولهم والقيام بمصالحهم التجارية في بلدان المسلمين، ولذلك هذا هو السر كما نصّ عليه بعض الأئمة في تعميم هذا العقد. الشبهات المغالية في مقابل هذا التأصيل الفقهي الذي أطال فيه الحميدي حول مسألة عقد الذمة وعقد الصلح مع غير المسلمين أفراداً ودولاً لم يفته أن يتطرق إلى أبرز الإشكالات التي يتم طرحها حول هذا الموضوع، التي تتكرر من المتعاطفين مع التيارات المغالية في هذه المسائل، التي لم تنظر إلى الصورة الكلية للمسألة من كل جوانبها الشرعية. ولعل أبرز تلك الإشكالات ما يتردد على ألسنة الكثير من الخائضين في هذه المسائل من دون بصيرة أو علم من أن المصلحة التي قدرها النبي في عقد الذمة وكذلك في صلح الحديبية هي جزء من الوحي، وهذا لا ينطبق على واقعنا المعاصر، فنحن عندما نقول ولي الأمر هو الذي يقدر المصلحة، ثم تأتي جماعة وتقول نحن جماعة بحثنا الأمر وعرفنا ووجدنا أن المصلحة ليست في ما قاله ولي الأمر فكيف ولي الأمر وهو فرد تقدم المصلحة التي رآها على مصلحة مجموعة، لاسيما ما يقال عادة من الجماعات المتطرفة من ضرورة سؤال من هم في الميدان أو ما يسمى بفقه «أهل الثغور» والمقصود بهم الشباب المنخرط في القتال بدعوى الجهاد الشرعي. تخصيص النصوص لتوضيح هذه الشبهة المتكررة يؤكد الحميدي أن أخذ النبي صلى الله عليه وسلم البيعة من الناس كان يتم على أحد أمرين، أحدهما أخذها من جهة كونه نبياً مرسلاً الذي لا يؤخذ الدين ولا الشرع إلا منه، ومثل هذه البيعة ليست منوطة ولا متعلقة بوجوده في حياته بل هي مستمرة إلى اليوم لأنها من لوازم شهادة أن نبينا محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الأمر الآخر وهو ما يعتبر الأصل الذي يوضح هذه الشبهة ويفندها أن هذا التشريع مبني على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام الذي يأخذ البيعة من الناس وهو القائد الذي يطاع في أخذ مثل هذه العقود، وإذا كان هذا متعلقاً به في حياته فهو مستمر لكل من يلي الأمر بعده، لذا نصّ العلماء عند الحديث على النصوص الواردة في صلح الحديبية على أن هذه المسائل تندرج تحت باب تقدير الإمام المصلحة في مصالحته غير المسلمين. ويؤكد عضو هيئة التدريس في جامعة أم القرى أن ذكر أحكام الإمامة والبيعة الشرعية للحاكم عند الحديث عن نصوص الحديبية يؤكد أن هذه النصوص لم تكن تتحدث عن قضية خاصة متعلقة بشخص المشرّع، وبالتالي ليست هي بالقضايا المرحلية التي لا تستمر أحكامها بعد انتهاء عصر التشريع. استمرار التشريع ومما يؤكد استمرار هذا التشريع لأحكام الصلح وعقد الأمان لغير المسلمين بعد انتهاء عصر النبوة بحسب تأصيل الحميدي، استمرار الخلفاء الراشدين والأئمة على أفعاله من عقود المصالح وعقود الذمام بناء على تلك النصوص، فهذا التطبيق الذي تلا عصر التشريع يدل على تعميم هذه الأحكام وأن تطبيقها لا يقدح أو يجرم فعل من سار على هذا النهج من الأئمة أو الدول التي قامت بإبرام مثل هذه العقود. الشبهة الكبرى لعل أهم مسألة ناقشها ضيف البرنامج وكانت مسك ختام هذه المراجعات التفصيلية المؤصلة، التي تعتبر إضافة ثرية يمكن أن تكون خطوة أولى في طريق تفكيك العقل المتطرف من الداخل وعبر حواره بأدواته وآلياته المعرفية، هي مسألة إخراج المشركين من جزيرة العرب، إذ قرر الدكتور الحميدي أنه لا مجال للحديث عن صحة الحديث لأنه ثابت من دون أي تشكيك، إلا أن مدلوله وفهمه لا يمكن أن يتفق من قريب أو بعيد مع ما تطرحه الجماعات المتطرفة. فهم خاطئ فالحديث من وجهة نظر الحميدي وبعد دراسة معمقة لرواياته والنصوص التي تشبهه في القضية نفسها يتحدث عمن كان موجوداً ومستقراً في الجزيرة العربية من المشركين قبل ظهور الإسلام، إذ كان كل أهل مكة، كما هو ثابت تاريخياً، مشركين، وحين بُعث النبي قام بدعوته التي جعلت العرب يسلمون بشكل متدرج إلى أن جاءت غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، وفي ذلك التوقيت كان لا يزال في الجزيرة بعض القبائل وبعض الأفراد ما زالوا على شركهم الأول وكانوا يحجون البيت على عادتهم في مواسم العرب قبل الإسلام، فكره، هكذا في الحديث كره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحج سنة تسع ويخالطه المشركون في حرم الله ومشاعره فأوفد أبابكر الصديق ليقيم للناس حجهم وأوفده بالكلمات الآتية ومعه علي بن أبي طالب بصدر «سورة براءة» في نبذ عهود المشركين وألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان وأن من كان له مع النبي عهد فعهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فمدته أربعة أشهر، فنتج من ذلك أن وفد على النبي كل من بقي مشركاً في تلك السنة التي سميت سنة الوفود، فما بقيت قبيلة عربية في جزيرة العرب كلها إلا وفدوا على النبي وأسلموا فحصل أنه انتفَى خروج المشركين لا بالإخراج ولكن بالإسلام. مخالفة الواقع يلخص عضو هيئة التدريس في جامعة أم القرى هذه المسألة المهمة بقوله إن مدلول الحديث مختص لمن كان باقياً من المشركين، أما من ينفذ ويدخل بعد ذلك بعقود الذمام لمن استخلفهُ الله وولاه أمر المشاعر ومكة والبيت والجزيرة العربية فهذا لا علاقة له بهذا الحديث، لأن الواقع عبر فترات التاريخ أن غير المسلمين كانوا وما زالوا بمختلف أديانهم في عهد الخلفاء الراشدين من يهود وغيرهم، ولم يطبق عليهم أخرجوا المشركين من جزيرة العرب لأنه صار بينهم وبين النبي عقد وعهد وميثاق، بشرط ألا يخونوا ولا يغدروا، إذاً كل من دخل بحسب عقد الذمة من إمام المسلمين أو أفراد الأمة لمصالح هذا مستمر حتى بعد عصر النبوة كما كان مجوس هجر الذين بعث لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - العلاء بن الحضرمي الصحابي ودعاهم للإسلام، فأسلم رئيسهم وهو المسمى أبي المنذر بن ساوه ورفض بقيتهم، فعاملهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقرهم على أن يدفعوا شيئاً من المال في مقابل حفظ حقوقهم وصيانة المسلمين لهم واستمروا بعد ذلك. لغة مشتركة لا شك أن هذه المراجعات التأصيلية التي تحدّث فيها الحميدي حديث العارف بشبهات أهل الغلو والتطرف في المسائل العقدية خطوة مهمة جداً لمحاصرة مثل تلك الأفكار وتضييق الخناق عليها بالحوار والجدال الفكري، لاسيما أنها لا تكتفي فقط بالتجريم والإدانة بل تتعدى إلى نقاش الفكرة بالأدوات ذاتها واللغة نفسها، وهو ما ستكون له نتائج إيجابية متى ما كتب لهذا النوع من الحوار في الهواء الطلق الاستمرار، فالعقول التدميرية لا يمكن مجابهتها إلا بكشف زيفها وتعريتها أمام معتنقيها والمتعاطفين معها. * باحث في شؤون الجماعات الدينية