ربما لا توجد حقبة تاريخية تبدو، في القرن العشرين، أكثر غموضاً من تلك الحقبة التي عاشتها ألمانيا، بعد تحقّق هزيمتها الكبرى في الحرب العالمية الأولى، في عام 1918. واضح أن التاريخ والمؤرخين ينحون دائماً في معرض حديثهم عن تلك الحقبة الاستثنائية، الى الافتراض انها فترة واضحة بل شديدة الوضوح، مفسّرين في طريقهم صعود النازية وشعبيتها الصارخة ب «الذل» الذي لطخت به الهزيمة، ثم معاهدة فرساي من بعدها، أفئدة الألمان وعقولهم، بعد عواطفهم، دافعة إياهم نحو هتلر وحزبه القاتل. وعلى هذا النحو تكون معاهدة فرساي، المذلة، سبباً في استشراء الشر واندلاع الحرب العالمية الثانية. وطبعاً هناك ألوف البراهين التي تؤكد هذا التحليل، مجيبة عن السؤال الأساس: كيف قيّض للعقل الألماني وارث إنسانية غوته وعقلانية هيغل ونزعة كانط الانتقادية، أن ينتج كل ذلك المزيج بين الغباء والشر، الذي كانته النازية وكل ما تفرع عنها وسار على مثالها في ألمانيا وفي العالم كله؟ قد لا يكون من الممكن الزعم هنا أن هذا التحليل خاطئ، أو أن هذه السببية مبتسرة. ولكن ثمة بالتأكيد آراء أخرى، تبدو في بعض الأحيان قوية وفي أحيان أخرى خجولة، تتنطح لتعطي صورة مغايرة، كلياً أو جزئياً، لذلك التحليل. ومن اللافت هنا أن هذه الآراء تبرز عادة من خلال الآداب والفنون، أكثر مما تبرز من خلال التحليلات التاريخية. وإذا كانت المقولة المؤكدة عادة أن المنتصر هو دائماً من يكتب التاريخ على هواه وبحسب مصالحه، فإن نظرة الفنون والآداب الى ذلك التاريخ، لا تخضع عادة الى المعايير نفسها. وحتى لو كانت، كما هي حال العمل الأدبي الذي نتناوله هنا، من إبداع أشخاص مثيرين للأسئلة القلقة. ذلك أن مؤلف رواية «مصير أ. د.» التي نحن هنا في صددها، هو الكاتب الألماني أرنست فون سالمون، الذي عرف واحداً من مناضلي اليمين المتطرف منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، أي منذ تخرج في الكلية العسكرية الألمانية. أهمية رواية فون سالمون هذه، والتي يحدث كثيراً لعالم النقد الأدبي خلال النصف الثاني من القرن العشرين أن يتجاهلها، تكمن في أنها تروي لنا تاريخ ألمانيا منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولكن ليس من وجهة نظر التاريخ الرسمي، سواء أكان ألمانياً نازياً أو معادياً للنازية. هذه الرواية تروي الأحداث من وجهة نظر الإنسان، تحديداً. وفي شكل أكثر وضوحاً: من وجهة نظر بطل الرواية المدعو بالحرفين الأولين لاسمه أ. د. وحتى وإن كان هذا الشخص يمثل المؤلف أو يعكس بعض حياته وأفكاره، فإنه في الحقيقة يختلف عنه كثيراً... وربما كان هذا الاختلاف في الظاهر فقط، طالما أن فون سالمون يوحي لنا بأنه هو نفسه، في حقيقة حياته، قد لا يكون الشخص اليميني المتطرف الذي نعتقد. طبعاً سيكون ثمة كثر ينكرون على الكاتب هذا الاستنتاج، الذي يتناقض منطقياً مع تاريخه ومع ما هو معروف عنه. ولكن من يدري؟ أفلم نقل اعلاه أن التاريخ يكتبه المنتصرون دائماً بحسب مصالحهم؟ أفلا يكون ممكناً أن يكون من كتب تاريخ فون سالمون قد كتبه أيضاً على هواه، ولم يفعل الكاتب في هذه الرواية أكثر من تعديل الصورة... أو تصحيحها! مهما يكن من أمر، سيكون أهم ما في الأمر أن نكتشف في هذه الرواية، أن شخصيتها الكانديدية (نسبة الى «كانديد» فولتير) الرئيسة، شخصية يتعاطف معها الكاتب إن لم تمثله كلياً. وهي شخصية تبدو لنا في بعض الأحيان نازية، وفي بعضها الآخر شيوعية أو متعاطفة مع الشيوعيين متواطئة معهم... وفي مطلق الأحوال ضحية من ضحايا النازية... ولكن ليس النازية وحدها، ذلك أن السيد أ. د. أمضى من حياته 27 عاماً في السجن توزعت بين كونه معتقلاً لدى النازيين، وكونه معتقلاًً لدى الأميركيين (فون سالمون نفسه، اعتقل مرة واحدة، ولعام واحد فقط لدى الأميركيين بعيد انقضاء الحرب العالمية الثانية). أ. د. إنسان يعبر التاريخ كما يمكن أي إنسان بسيط طيّب أن يعبره. ومن الأمور ذات الدلالة أن يروي لنا فون سالمون تاريخ ألمانيا خلال ثلاثين سنة، عبر مرآة شخص يعبر التاريخ بكل براءة: فشخص مثل هذا هو الذي يمثل عفوية حضور المرء في التاريخ... وكون المرء في نهاية الأمر ليس أكثر من دمية في هذا التاريخ. انه مجرد ضابط صف يحس دائماً انه يعيش خطأ ويعامل في شكل مخطئ ويحاكم خطأ ويحكم عليه خطأ... وهو في خضم ذلك يكون دائماً - ومن دون أن يتنبه غالباً - ضحية الديكتاتورية النازية، ثم ضحية الحلفاء المحررين. منذ البداية يضعنا فون سالمون في قلب موضوعه: إن المانيا بعد الهزيمة الأولى في حاجة الى دولة قوية كما انها في حاجة الى بطل قومي زعيم يلم أشلاء ما تبقى من كرامتها... بيد أن مثل هذا الرجل يحتاج جيشاً، ومعاهدة فرساي منعت ألمانيا المهزومة من أن يكون لها جيش. وحياة ألمانيا تعتمد على طيبة المنتصرين ورضاهم الدائم، لذا فهي في حاجة الى شهادة حسن سلوك دائمة. وللتعبير عن هذا يجب على الدولة أن تبرهن على نضالها ضد الشيوعيين. فلا يكون منها إلا أن تقبض على البائس أ. د. في عام 1923 وتحاكمه - محاكمة صورية بالطبع - بتهمة الانتماء الى الشيوعية. وهكذا يودع صاحبنا السجن، على أن يطلق سراحه قريباً أي بعد أن تصيب الحلفاء غفلة عما يحدث، لكنه سرعان ما ينسى هناك! بل انه يعتبر شيوعياً، من دون أن يكون في الحقيقة كذلك. وينقل الى معسكر اعتقال ما إن يصل النازيون الى السلطة... وهو لن يخرج من معسكر الاعتقال النازي إلا في عام 1945. وفي السجن - الذي من خلاله يصف لنا فون سالمون في شكل بديع تاريخ ألمانيا وصراعاتها كلها - يشتغل أ. د. ممرضاً ويعاون طبيب المعتقل... وفي الوقت نفسه، وفي غفلة من المسؤولين، يساهم في تهريب الكثير من المعتقلين، من أفراد شبكات مقاومة تعمل وتنطلق من داخل السجن... واللافت هنا أن فون سالمون الذي يتحدث عن شبكات المقاومة تلك، بكثير من التفاصيل، لا يقول في شكل واضح أن الشيوعيين هم الذين ينظمون شبكات المقاومة ويقودونها. المهم أن الكاتب - في المقابل - ينجح في وصف حياة صاحبنا أ. د. وبؤسه ومغامراته، منذ تأسيس معسكر بوشنفالد، وحتى إقفاله. وعند نهاية الكتاب، يبدو من الواضح أن الكاتب انما يتعمد معاملة كل الاطراف سواء بسواء، أكانوا نازيين أو شيوعيين أو أميركيين أو غيرهم... فهؤلاء هم - في نظره - التاريخ، أما أ. د. فهو الضحية الذي يدفع الثمن من دون أن تكون له ناقة في ذلك أو جمل. وهنا يستطرد فون سالمون ليقول لنا كم إن التاريخ كذبة كبرى، وكم تتساوى معسكرات الأميركيين، مع معتقلات الديكتاتور النازي، مؤكداً لنا، في طريقه، أن محاكمات نورمبورغ نفسها، انما هي محاكمات مغشوشة مفبركة! ولد أرنست فون سالمون عام 1902، وهو بعد تخرجه في الكلية العسكرية في العام 1918 انضم الى بعض تيارات اليمين المتطرف داخل الجيش وحارب الحركة العمالية في برلين. كما انه لاحقاً شارك في كل ضروب القمع التي طاولت التقدميين، وكان جزءاً من مؤامرات اليمين المتطرف في سبيل إيصال النازيين الى السلطة. كما شارك في المؤامرة التي أدت الى اغتيال الوزير راتنو، كما في انقلاب كاب. وهو، بعد أن تحول لاحقاً الى الكتابة، روى هذا كله في نصوص عدة، كان آخرها هذه الرواية «مصير أ. د.» التي كتبها في عام 1960، ورأى فيها كثر من النقاد محاولة للتبرير المتأخر. [email protected]