بين تموز (يوليو) وآب (أغسطس) من كل عام، يتجدد حديث اللبنانيين، ومعهم بعض أهل الحماسة القومية، عن مجريات الحرب التي أطلقتها إسرائيل ضد لبنان، في عام 2006، وعن مغزى الانتصار الذي خرج به حزب الله، بعد أن أنهت آلة الحرب، تلك، جولاتها التدميرية. لسنا بصدد استعادة ذلك الجدل العقيم، المسكون بهواجس التوازنات الداخلية اللبنانية، المتبدلة، والذي تقوده «حواسيب» وحسابات الطوائفيات، التي لما توفق في تحديد معنى مفهوم، للنصر أو للهزيمة، يصلح لأن يكون عنوان نقاش مفهوم، على صعيد وطني عام. بإيجاز: فشلت إسرائيل في حملتها العسكرية على لبنان. مرجعية الحكم: أهداف الخطة كما حددتها القيادة العسكرية الإسرائيلية. في المقابل: نجح حزب الله. مستند الحكم: ما أعلنه الحزب من أهداف، في مواجهة العدوانية الإسرائيلية. ... لكن بعيداً من النجاح والإخفاق، في الميدان القتالي، ثمة شروط ومعايير لنجاح القتال «مجتمعياً». نأتي بذلك، إلى حديث تثمير النجاح، أو توظيفه، أو إدراجه في سياق الحياة الوطنية العامة... هكذا سياسة، تضيف إلى المجتمعية ولا تأخذ منها، وتصلّب عود الوطنية ولا تكسره، وتعيد الاعتبار إلى معنى المدني، الهادئ، على حساب كل المفردات الأهلية... الجامحة. في ميدان التوظيف الوطني، فشلت معركة حزب الله، مثلما فشلت تجارب ومعارك من سبقه من أحزاب وحركات لبنانية... بل إن لبنان، أعاد التذكير بحروب «عالمثالثية» كبرى، نجح قادتها في دحر الأعداء، لكنهم فشلوا، بوضوح، على جبهات السياسات الوطنية، الداخلية. قد لا يستسيغ بعض «اللبنانويين»، إنزال لبنان إلى درجة «العالمثالثية»، الماضية، والتي كانت تحمل في ثناياها معنى «التخلف»، لكن معاندة الوقائع، وعنادها، يشيران إلى أن «البلد الصغير»، لم يستطع الإفلات من تبعات هذا الحكم، ولم يلقِ أحدهم له، بطوق نجاة، يعينه على الوصول إلى «برّ حضارة» مرتجاة. عليه، نناقش عوامل النجاح القتالي، بعيون عالمثالثية. تجدر الملاحظة، أن التعبئة القتالية، في البلدان «الطرفية»، سهلة، يتأتى ذلك من الأوضاع الاجتماعية العامة، ومن الظروف الاقتصادية، ومن البنية الثقافية التقليدية، التي تشكل ميداناً خصباً للشعارية، ومجالاً فسيحاً لكل المورثات القبلية. هذه «الحزمة»، من العوامل، تساهم في صناعة «المجتمع الحربي»، وفي قولبته، مثلما تساهم في صياغة لحمته، وصولاً إلى تدريعه، حيال كل المؤثرات التي قد تخفف من درجات استعداده الكفاحية العالية. تفتح الوضعية المشار إليها، الباب واسعاً، أمام التبرير، وتنحي جانباً، كل دعوة إلى حسابات الكلفة، مثلما تستبعد كل موازنة بين خسائر سياسات بعينها، وأرباح غيرها من السياسات. الحصيلة: سيادة اللون الواحد، والصوت الواحد، وإحياء نداء «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، بكل اللهجات، وبمختلف اللغات، وعلى اختلاف الأوطان!! لكن العناصر العامة، التي وفّرت أسباب النجاح، لبعض الحروب الظافرة، هي ذاتها التي شكلت أرضية الإخفاق السياسي، عندما جرى الانتقال إلى الجبهات الخلفية. تمثلت الخسارة الأساسية، للمعارك القتالية الناجحة، في إقامة منظومات استبدادية، رسمية وأهلية، بنت على قواعد الإلغاء والإقصاء، التي عممتها، وجددت شرعيتها، من خلال سياسات «المصادرة الاجتماعية»، التي مارستها سحابة سنوات طويلة. تجدد في زمن السلم، التحكم الذي ساد في زمن الحرب. السلاح الذي كان وسيلة، صار غاية. مواقع الكفاح والنضال، صارت مغانم سلطة. تضخمت «الأنا العسكرية»، بسبب نجاحها، فأمعنت في محو «الأنوات المدنية». صار الفوز منّة تعمم على المواطنين، وأنكر عليهم كل فضل، في صناعة هذا الفوز. الحصيلة: التجاوز على مصالح الوطن، في زمن السلم، على غير مبرر واقعي، بعد أن سوّغ هذا التجاوز، بمبررات شتى، في زمن المعارك الملتهبة. ثمة إشارة مهمة، وهي أن حلول «النخبة القتالية»، الحزبية، أو التحررية، مكان شعبها، لا يتم، دائماً قسراً، أو بالإكراه... بل ثمة «انقياد طوعي»، خاصةً، في الحالات الأهلية، ومنها الحالة اللبنانية، حيث تسهل ملاحظة لون من التماهي، بين المجموعة الأهلية وشعاراتها ووسائلها... ودائماً، بالانتساب إلى خصوصية التشكيلة اللبنانية. هذه الإشارة، تقود إلى معاينة البنية الاجتماعية – السياسية، التي تتولى العملية النضالية، المعاينة تستدعي النقاش والمساءلة، وتفترض الحذر والدقة، لدى صياغة التقديرات والخلاصات. من التبسيط الفصل بين السلاح وأهله. من السذاجة التحالف مع الوسيلة وإهمال من يستعملها. من منطق السياسة، الربط بين الشعار والبرنامج، ومن بداهة العمل السياسي، نسبة كل حركة قتالية، أو تحرك شعبي إلى المجرى السياسي العام الذي يمكن أن يصب فيه، فيضيف إليه، تعكيراً، أو صفاءً، على مستوى السياق الوطني المشترك. بمقاييس البنية الاجتماعية، بمحمولاتها الثقافية، وبتعبيراتها السياسية، وبالعودة إلى الوقائع المادية الملموسة، يمكن القول إن الإخفاق لازم الانتصارات التحريرية والتحررية، بل لعله كان الوجه الآخر لها. لم يغرد النجاح اللبناني خارج سرب المنظومات التحررية، ويبدو أننا لن نحصد انتصاراً عاماً، حتى ننجح في الانتصار على انتصاراتنا الخاصة. * كاتب لبناني